الإسلاميون وانتكاسة «الربيع العربي»
5-8-2013

د. السيد ولد أباه
* كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.

قدم الإسلاميون الذين وصلوا للحكم في بلدان «الربيع العربي» أنفسهم للعالم الغربي بأنهم يريدون استنبات نماذج قريبة من الحالة التركية التي كرست نموذجاً مقبولاً يجمع بين القيم المحافظة والمسلك الليبرالي في بعديه السياسي والاقتصادي.

والواقع أن الزعامات الحاكمة في تركيا تبنت بوضوح مهمة تسويق الأنظمة الإسلامية العربية لدى الحكومات الغربية الحليفة وسعت إلى تقديم العون الاقتصادي لها في مناخ اجتماعي متأزم، بل تحولت اسطنبول إلى مركز إقليمي حقيقي للتنظيمات الإسلامية في المنطقة العربية. وبعد سقوط «مرسي» كانت تركيا البلد الوحيد في المنطقة الذي أدان تنحيته واقفاً بقوة ضد ما أسمته «الانقلاب العسكري ضد الشرعية».

بدا الموقف التركي الحاضن للتيارات الإسلامية العربية غريباً من عدة أوجه، من بينها أن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا ما قدم نفسه يوماً بأنه حزب إسلامي رغم انحدار أغلب عناصره القيادية من التشكيلات التي أسسها زعيم الحركة الإسلامية التركية المعاصرة «نجم الدين اربكان» (الرفاه والفضيلة...)، مع العلم أن «أربكان» كان شديد التأثر بأطروحات مدرسة «الإخوان المسلمين» المصرية. وعندما زار رئيس الحكومة التركي "أردوغان" مصر وتونس السنة الماضية كان صريحاً في حديثه عن «الخيار العلماني التركي»، الثابت الذي لا يتعارض وفق تصوره مع المنظومة العقدية والقيمية الإسلامية، مما أثار امتعاض محاوريه العرب.

لقد فهم الإسلاميون العرب النموذج التركي بأنه من جهة دليل واضح على قدرة الإسلاميين على إدارة الشأن العام بنجاح والاندماج الإيجابي في المحيط العالمي، ومن جهة أخرى دليل على الحس الواقعي والبراجماتي المتدرج في تطبيق «المشروع الإسلامي» معتبرين أن أصدقاءهم الأتراك يوافقونهم على جوهر الرؤية الفكرية، وإنْ كانوا مضطرين على مراعاة إكراهات وحقائق السياق والمرحلة.

بيد إنما كشفت عنه تطورات الوضع المصري، والأحداث التونسية هو إنما نشهده من فشل التنظيمات الإسلامية في تجربتها الأولى في الحكم يعكس ظاهرتين تستدعيان التحليل والاستشراف.

تتعلق الظاهرة الأولى بطبيعة المشروع الإسلامي نفسه في مرجعياته النظرية والفكرية ومكوناته الداخلية، وتتعلق الظاهرة الثانية بعلاقته بباقي مكونات الحقل السياسي وبالعالم الخارجي.

بخصوص الظاهرة الأولى، يتعين التنبيه إلى أن الأحداث الأخيرة بينت بجلاء ما كنا قد عبرنا عنه من قبل بتصدع أو تحلل المرجعية الإسلامية الجامعة، بمعنى انكشاف تنوع وتشتت الخطاب الإسلامي الذي لم يعد لقوة تنظيمية أو إيديولوجية احتكار مشروعيته الفكرية والعقدية.

لم يكن الشارع الذي ثار على «الإخوان المسلمين» في مصر خليطاً من «الفلول والعلمانيين» كما يكرر المتحدثون باسم الجماعة، وإنما في مقدمة الجموع المحتجة مكونات رئيسة في الحقل الإسلامي: مثل حزب «النور» السلفي وبعض الجهات والشخصيات المنشقة عن الجماعة فضلا عن مؤسسة الأزهر التي باركت التغيير. لا يعبر هذا التمايز عن مجرد تباين في خيارات التموقع السياسي الآني، وإنما هو مؤشرات اختلاف نوعي في المنظور الفكري والنظري بخصوص طبيعة المشروع الإسلامي نفسه في رهان محوري هو: منزلة الدولة في الشأن العام. ففي حين لا يزال التيار القيادي في «الإخوان المسلمين» الذي أسس حزب «الحرية والعدالة» يعتمد الأطروحة التقليدية للإسلام السياسي التي تتلخص في اعتبار الإسلام إيديولوجيا للحكم، تذهب الاتجاهات الأخرى إلى أن المرجعية الإسلامية هي إطار روحي وقيمي جامع يشكل محوراً للهوية المشتركة لا خلاف حوله ومن ثم لا يمكن أن يكون موضوعاً للتجاذب السياسي (عبرت وثيقة الأزهر حول منظومة الحريات السياسية عن هذه الرؤية التي حصلت على إجماع واسع). وعلى الرغم من التحالف المكين بين حزب «العدالة والتنمية» التركي والتنظيمات الإسلامية التي وصلت للحكم في البلدان العربية فإنه من البين أن الزعامات الإسلامية العربية، وإنْ تحمست للتجربة التنموية التركية الناجحة إلا أنها لم تبد الحماس نفسه لإطارها الليبرالي ضمن المنظور العلماني ذي الخصوصيات المعروفة، بل إن الشخصيات الإسلامية التي حاولت الاقتراب من خط المراجعات الفكرية المطلوبة سرعان ما أقصيت من مركز الفاعلية كما هو شأن رئيس الحكومة التونسية المستقيل «حمادي الجبالي» ونائب رئيس حزب «النهضة» «عبد الفتاح مورو» ، والزعيم «الإخواني» المصري السابق «عبد المنعم أبو الفتوح»، بل يمكن القول إن تداعيات الأحداث العربية أثبتت ما كان يقال من انحياز رئيس وزراء تركيا «أردوغان» لتيارات الإسلام السياسي العربي في مقابل رئيس الجمهورية «عبد الله غول»، الذي يمثل الاتجاه «الليبرالي» المحافظ داخل الحزب الحاكم في تركيا.

أما الظاهرة التي كشفت عنها الأحداث الأخيرة فهي واقع القطيعة الجذرية بين تيارات الإسلام السياسي وباقي مكونات الحقل السياسي بما فيها القوى التي تحالفت معها في معارضة الأنظمة الاستثنائية القمعية وخلال فترة الثورات التي أفضت للتغيير الديمقراطي. ثار «اليسار» و«الناصريون» و«الوفد» وأنصار «البرادعي» ضد حكم «الإخوان» بعد مرحلة تنسيق وائتلاف انتهت نتيجة لأخطاء الجماعة الحاكمة التي انفردت بمقاليد الأمر وسعت لإقصاء وتهميش شركائها السياسيين، بل أرادت الاستقواء بالمؤسسة العسكرية ضد الأطراف السياسية قبل أن تنقلب عليها قيادات الجيش التي انحازت للانتفاضة الاحتجاجية العامة.

وفي تونس انهار ائتلاف حركة «النهضة» مع الأطراف التي دفعت غالياً ثمن الدفاع عنها في عهد «بن علي» كما هو شأن «التجمع الاشتراكي التقدمي» الذي يتزعمه السياسي المخضرم «أحمد نجيب الشابي» والتيار اليساري الراديكالي الذي يمثله «حمة الهمامي» و«راضية نصراوي». ويبدو أن الائتلاف الحاكم الذي يقوده في طور التفكك السريع بعد اغتيال الناشط السياسي والحقوقي «محمد البراهمي» الذي أحدث أزمة سياسية عميقة في تونس مرشحة للتفاقم.

الخلاصة التي نصل إليها هي أن تيار الإسلام السياسي العربي لم يفشل فقط في الحكم وإنما تسبب في فشل أولى مراحل الانتقال الديمقراطي الهش في العالم العربي، ومن هنا ندرك حجم القطيعة بينه والقوى الليبرالية التي قادت ديناميكة «الربيع العربي».
------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الإثنين 5/8/2013.


رابط دائم: