الربيع الأوروبي في اليونان
23-6-2012

محمد عارف
* مستشار للمؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا.

"عندما نتذكر أننا جميعاً مجانين، يزول الغموض، وتصبح الحياة مفهومة". شكراً للكاتب الأميركي الساخر مارك توين في تذكيرنا بذلك، وقد بحثنا عبثاً عن جدوى بقاء اليونان في مجموعة اليورو، إذا كان بقاء اليورو نفسها أمراً مشكوكاً فيه، وما نفع تقديم "كفالة ضامنة" أو ما يسمى "برنامج إنقاذ" قدره مائة مليار دولار لإسبانيا، وهي خامس كفالة لإسبانيا خلال سنتين. وماذا فعلت تريليونات الدولارات التي ضختها المصارف المركزية الغربية لتمشية عجلات اقتصاداتها المتوقفة؟ ولماذا ينذر رئيس "بنك إنجلترا" بغيمة سوداء ضخمة مقبلة على الاقتصاد الأوروبي والعالمي، وبريطانيا أصلاً خارج اليورو؟ وهل نتوقع من قمة "مجموعة العشرين" في المكسيك قرارات شجاعة كما فعلت إثر انهيار مصرف "ليمان بروذرز" عام 2008، والتي يُقال إنها أنقذت الاقتصاد العالمي الموشك على الانهيار آنذاك، ولا يزال يوشك على الانهيار الآن؟.. وبعد كل شيء، وقبل كل شيء، لماذا الربيع الأوروبي في اليونان؟

تحتل اليونان 3 في المئة فقط من اقتصاد منطقة اليورو، فلماذا الهلع إذن من إفلاسها أو مغادرتها اليورو؟ وهل أنقذت نتيجة انتخابات اليونان اليورو من الانهيار؟ ولماذا صعّد الإعلام العالمي توقعاته بصدد تأثير نتائجها على مصير اليونان واليورو، بينما نتائجها معروفة مسبقاً، لأن كلا الحزبين الرئيسيين المتنافسين متفقان على البقاء في اليورو؟ ومعلوم أن حزب "الديمقراطية الجديدة" المحافظ الذي فاز بنحو ثلث الأصوات لا يتمسك وحده باليورو، بل كذلك منافسه حزب "سيريزا" اليساري، وأن نتائج الانتخابات عجزت حتى عن تغيير أسعار الأسهم التي تتأرجح هابطة دون تغيير، ومصير اليورو خلافاً للتوقعات لا يزال مهدداً. وعلى الهامش نسأل: لماذا اعتُبر حصول "سيريزا" على 27 في المئة من الأصوات، وهو أقل بثلاث نقاط فقط من غريمه المحافظ، هزيمة لليسار الذي لم يملك قبل الدورة الانتخابية الأولى، في مايو، سوى 4 في المئة.

وهل يعود الانهيار كما يدّعي الأوروبيون الشماليون إلى كسل اليونانيين، وعاداتهم في الإنفاق دون حساب؟ ربما، فاليونانيون كبطل رواية كازانتزاكي المشهورة "زوربا اليوناني"، لا يترددون في الاعتراف علناً على الإنترنت بأنهم يعرفون كيف ينفقون أفضل مما يعرفون كيف يدّخرون، ويفخرون بأنهم يشترون البطيخ الأحمر بالقطاعي، وليس شرائح كالأوروبيين الشماليين، ويشترون الخروف كاملاً وليس أجزاء مقطعة، ولياليهم تنتهي في الصباح، ويسهرون كل يوم خارج المنازل حتى ينفد ما في جيوبهم، ولا يزورون أحداً وأيديهم خالية، والغزل عندهم عادة قومية، وممارسة الحب رياضة قومية، وخاضوا حروب "طروادة" عشر سنوات لأجل امرأة. ومن لا يفعل ذلك إذا كان "هناك امرأة واحدة في العالم، امرأة واحدة بوجوه متعددة"، حسب "زوربا" المجرب؟ ومن لا يستسلم لحلاوة الحياة في اليونان الساحرة، حيث "سألتُ شجرة اللوز: حدِّثينا عن الله، فأزهرتْ شجرة اللوز"، كازانتزاكي.

لكن اتهام اليونانيين بالكسل ظلم، فهم يعملون ربما أكثر من أي بلد أوروبي آخر، وبالتأكيد ساعات عمل أكثر من الألمان. يشهد بذلك عالِم الاقتصاد الأميركي بول كروجمان، ويتحدث في مقالة حميمية عنوانها "اليونان الضحية"، عن عجرفة الأوروبيين الذين يتهمون اليونانيين بالهدر العام على نفقات الرفاه الاجتماعي، وإنفاق اليونان العام أقل كثيراً من ألمانيا والسويد. ومأساة اليونانيين سببها "فقاعة اليورو" التي جاءتهم بطوفان الاستثمارات الخارجية، ورفعت نسبة التضخم، وجعلتهم أقل تنافسية. ولا تُنكرُ مساهمة اليونانيين في إنفاق طوفان الأموال دون حساب، "لكن من لا يفعل ذلك"، حسب كروجمان الذي يورد أمثلة فقاعات مماثلة انفجرت في فلوريدا وتكساس وسارعت واشنطن لإنقاذها. وهذا لا يحدث في اليونان التي تعوم في فراغ انعدام الوزن لعدم إنشاء "الولايات المتحدة الأوروبية". ورهاني على اليونانيين أن يثبتوا جدارتهم عندما يفوزون بعد غد على الألمان في مباراة الربع الأخير لبطولة كرة القدم الأوروبية، وهم يتحدّون المستشارة الألمانية في تحديد عدد الأهداف، حسب "الجارديان"!

واليونانيون على صواب حين يعتقدون بأن كرة القدم ليست أخطر من "برنامج الإنقاذ" بل أخطر منه بكثير، فالحصول عليه لن يحررهم من مصيدة الديون. فمبلغ الكفالة الضامنة، 130 مليار يورو، سيخرج من جيوب الثلاثية: "البنك الأوروبي المركزي" و"صندوق النقد الدولي" و"الوحدة الأوروبية"، ويعود إلى جيوبها بعد أن يمد في عمر القرض ويضاعف حجم الدين. تذكر ذلك "نيويورك تايمز" التي تقرُّ بأن المبلغ يخدم فائدة الدين فحسب. فالثلاثية الدائنة التي تمسك بثلاثة أرباع مبلغ الدين تستولي على مبلغ الضمان كدُفعات لفائدة الديون، وكل ما سينجم عن ذلك "مراكمة الدين إلى مستويات كارثية من دون دفع سنت واحد لليونانيين أو لاقتصادهم المُغمى عليه". والنتيجة مضاعفة حجم الدين خلال أقل من ثلاث سنوات. وإذا كان اليونانيون عاجزين حتى عن دفع فوائد ديونهم الآن من دون الاقتراض، فكيف سيدبرون رد ضعفي المبلغ خلال أقل من ثلاث سنوات، والذي يعادل تخصيص كامل إنتاجهم القومي لدفع الفوائد فقط؟ هذا "دين بغيض"، حسب زعيم اليسار ألكسي تسيبراس، والقانون الدولي يحرر المدين من دفع "الديون البغيضة". واليسار اليوناني الشاب المتمسك بالوحدة الأوروبية واليورو عازم على أن لا يغادر الملعب لكن يغير قواعد اللعبة. الباحث الاقتصادي اليوناني جورج كيساريوس، الذي شارك في الحملة الانتخابية يذكر في مدونته على الإنترنت، أن "البنك المركزي الأوروبي" ليس بنكاً عادياً، بل هو كونفيدرالية بنوك، وكل بنك أوروبي مركزي قادر نظرياً على القيام بعمليات في السوق كالأوربي المركزي، ولا تمنعه القوانين الأوروبية من إصدار عملته القديمة "الدراخما" مع استمرار التعامل باليورو. وتوفر "الدراخما" السيولة النقدية الضرورية لدفع مرتبات العاملين، وإنشاء الهياكل الارتكازية، وتوسيع الخدمات الاجتماعية.

وأغالب بصعوبة الرغبة في شتم أوروبا المتعجرفة، وأهمس مع نفسي الآن بشتيمة مقذعة لا أجد غيرها تعبيراً عن الغضب من تحويل اليونان التي أسست الفلسفة والعلوم العالمية وتحويل المنطقة العربية التي ورثتها عنها وطوّرتها إلى باب خلفية تتلقى أوروبا عبرها المؤونة والذخيرة والعقول النيّرة وتُلقي فيها بقمامة أسلحة فاسدة، ومنتجات مفسدة، وسياسيين محتالين.

فإذا كانت الحلول متيسرة فلماذا لا نعمل سويةً على تغيير قواعد اللعبة العالمية؟ لا أجد تفسيراً غير نكتة قديمة عن مريض بالوهم يخاف أن تأكله الطيور. وعندما أكدت الفحوص شفاءه، وما أن سُمح له بالمغادرة، وبلغ باب المستشفى حتى عاد يصرخ فزعاً: "العصافير تأكلني". سأله الطبيب: قبل دقائق أكدت أن العصافير لا تستطيع أن تأكلك وأنت أكبر منها مئات المرات؟ أجابه: "نعم، أنا أعرف ذلك، لكن العصافير لا تعرفه"!

-----------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 21/6/2012.


رابط دائم: