الاستقطاب الطائفي:| انعكاسات الوضع الداخلي في العراق على أمن واستقرار الإقليم العربي
28-5-2012

شيريهان نشأت المنيري
* باحثة في مجال الدراسات الإعلامية والمعلوماتية

 تسبب انسحاب القوات الأجنبية من العراق في حدوث تطورات مُتعددة، سواء على مستوى الوضع الداخلي، أو بالنسبة لعلاقات القوى الخارجية بها، ولاسيما الإقليمية منها، بالإضافة إلى ما أدى إليه التنازُع السياسي بين القوى الرئيسية في العراق من زيادة عملية الاستقطاب الطائفي والعرقي من جديد، وظهور الدعوات الفيدرالية والانفصالية بشكل واضح، وازدياد حدة الصراعات والاستقطابات بين التيارات والقوى السياسية والطائفية المُختلفة، وما لها من انعكاس مُباشر على مُستقبل بناء نظام سياسي قوي ومُستقر في العراق. فى هذا السياق، نظم المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية ندوة حول "تطورات الموقف في العراق بعد انسحاب القوات الأجنبية وانعكاساتها على الأمن والاستقرار في المنطقة" يوم الأربعاء الموافق 16 مايو 2012.

 تباين مواقف ومصالح القوى الإقليمية:  

أكد د. بهجت قرني، أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية،  أن ثورات الربيع العربي أدت إلى إهمال العراق، على الرغم من أهميته ومحوريته التي تُمثل انعكاساً لحالة العالم العربي ككل من عوامل قوة وضعف، وأن العراق ما هو إلا نموذج مصغر للمشاكل التي تُعانيها المنطقة العربية. ولذلك، فقد أشار إلى أهمية التحليل المنهجي والعلمي للمُشكلات الساخنة، بما فيها قضية العراق الحالية. كما ذكر أننا إذا أردنا معرفة أسباب التدهور الضخم الذي تُعانيه المنطقة العربية بصفة عامة، والعراق بصفة خاصة، فإن هُناك مدرستين في هذا الشأن تُحاولان تفسير أسباب ذلك، وهما: الأولى: العوامل الخارجية ويتمثل ذلك في الاحتلال الأمريكي للعراق مُنذ عام 2003 وحتى الانسحاب عام 2011 ، وقبل ذلك كان الحصار الأمريكي وفرض عقوبات دولية على العراق سنوات طويلة أدت إلى تدمير العراق والمنطقة العربية. حيثُ انحفض الدخل السنوي العراقي خلال الفترة من 1991إلى 2003 التي تم فرض العقوبات فيها حوالي 52% . الثانية أن العوامل الداخلية هي السبب الرئيسي في تدهور الأوضاع بالعراق، ومن أهم هذه العوامل الداخلية نمط الحكم الذي كان سائداً في العراق الذي تميز به نظام صدام حسين، وهو ما نطلق عليه الآن "الدولة المُتوحشة" وليست الدولة التنموية. وأشار إلى أن أزمة المنطقة العربية ككُل تتمثل في كونها تتمتع بموارد ضخمة، في الوقت نفسه الذي نجد فيه سياسات مُتدنية، أى ما يُسمى بـ "اللُغز العربي" مُتمثلاً في التفاوت الضخم بين الإمكانيات وتدني السياسات، ومن ثم فإن العراق مُجرد مرآة لهذا الوضع.

وذكر د. يســري العزبـاوي، باحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية، أن العراق شهد منذ نهاية 2008  حتى الآن انفتاحا عربياً ملحوظاً، من أهم دلالاتهِ إعادة افتتاح الجامعة العربية لمكتبها في بغداد، وتسلُم مبعوثها لمهام عمله رسمياً بالتزامن مع إعادة بعض الدول العربية افتتاح سفاراتها في بغداد، وأيضاً في عقد القمة العربية ببغداد في نهاية مارس الماضي. كما تحدث عن ثلاث نقاط رئيسية، أولاً: الصورة العامة للموقف العربي من العراق، ثانياً: مظاهر التحوُل العربي تجاه العراق، ثالثاً: هل تُعد قمة بغداد تحوُل في الموقف العربي أم لا؟ كما أكد العزباوي أن السياسة العربية تجاه العراق كانت دائماً مُزدوجة المعايير، فهي من ساعدت الديكتاتور السابق على قمع شعبه في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وانتقلت بعد2003  إلى الضد تماماً، ودعمت جماعات مُعارضة، بعضها مُسلح ضد السُلطة، وأن السياسة العربية نفسها والدول العربية النشطة لا تزال تقوم بنفس خطواتها تجاه العراق. وأشار إلى أن مستوى التمثيل العربي المُتدني في القمة مؤشر على أن العالم العربي ماض بسياسة القطيعة التي اعتاد عليها مع كُل ما لا يعجبه، وأن الطبقة السياسية العراقية معنية فعلاً بمُراجعة شاملة لشكل علاقتها بإيران.  وذكر أن العراقيين يُواجهون بالفعل مُشكلة كُبرى تتمحور في شعور بالعُزلة عربياً، وقوة إيرانية مؤثرة، وعُنفوان تُركي يبحث عن مكان.  ومن ثم، فهو بحاجة ملحة إلى قمة مع ذاته أولاً، وقمة تُعالج كوارث الاحتلال ومُخلفاته، وقمة تتبنى عملية سياسية وطنية قادرة على لم شمل البلاد، وقمة لا مكان فيها للطائفيين والعُنصريين، وقمة تنشُد البناء والإعمار، لا الفساد والدمار.

في حين أشار أ. حامــد رزوقــــي، مدير مكتب هيئة العلماء المسلمين بالقاهرة، إلى أن احتمالات الفتنة على ضفاف دجلة والفرات بسبب الصراع على الحكومة القادمة تكاد تُرجَح الآن على أية احتمالات أُخرى، وأن المشهد يُنبئ باستعدادات مُكثفة لأطراف سياسية معلومة لحسم الموضوع بالقوة، واستغلال حالة الفراغ الأمني الذي تسبب به الجميع، ويُحاولون استغلاله لتحقيق أهداف خاصة. كما ذكر رزوقي أن مُستقبل العراق مجهول، في ظل غياب موقف دولي وإقليمي وعربي واضح أو قادر على فعل شيء؛ ولكن معلوم النتائج من حيثُ دماء العراقيين وأرواحهم، وهو الأمر الذي يرى رزوقي أنهُ يفتح الباب على مصراعيه لمخاطر كبيرة على الإقليم عامة، والمُحيط العربي خاصة، سياسياً، وأمنيا،ً واجتماعيا،ً وثقافيا، ًواقتصادياً.

كما عقبت أ.إيمـــان رجــــب، باحثة بوحدة الدراسات الأمنية والاستراتيجية بمركز الأهرام،  بأن ما حدث في نهاية ديسمبر 2011 هو انسحاب القوات الأمريكية المُقاتلة من العراق، ولكن مع استمرار بقاء قوات غير مُقاتلة تمتلك قُدرات قتالية، تستطيع أن تتدخل في حال حدوث أي فشل أو انهيار أمني في داخل العراق. كما ركزت رجب على السؤال الخاص بمن المُستفيد من تراجُعِ حجم الوجود العسكري الأمريكي في العراق، والتي ذكرت أنهُ يصعُب الإجابة عليه، خاصة في ظل تعدُد القوى الإقليمية الفاعلة في الداخل العراقي. فهى ترى أن تحليل ما يجري في العراق يكشف عن أن إيران تُعاني تحديات خاصة باستمرار نفوذها داخل العراق، في ظل مُنافسة تُركية لها، خاصة فيما يتعلق بإقليم كردستان، والاستثمارات الاقتصادية فيه، بالإضافة إلى وجود مؤشرات على احتمال خروج الأزمة السياسية في العراق عن السيطرة. وفي هذه الحالة،  لن تكون من مصلحة إيران أو حتى تركيا  تعثُر العملية السياسية.

 تطور النظام السياسي في العراق وعلاقات القوى الداخلية:

أكد أ. جميل مطر، كاتب ومُفكر، أن هُناك شكوكا حول وجود نظام عربي ذى فاعلية، وأيضاً في قُدرتهِ على حل المُشكلات العربية، ومن بينها القضية العراقية على وجه الخصوص. وعلى الرغم من ذلك، فهو يرى وجود نظام إقليمي عربي بالفعل من خلال المُشكلات والقضايا المُثارة حالياً، والتي يُعانيها النظام العربي بالكامل. أما عن مُشكلة اللاجئين، فقد ذكر مطر أن العالم العربي بأكملهِ يُعانيها. فبعد اللاجئين الفلسطينيين، أصبحنا نتحدث عن لاجئين في كثير من الدول العربية، مثل اليمن، وليبيا، والعراق، ولبنان..إلى آخرهِ. كما أشار مطر إلى وجود أزمة مالية في النظام الإقليمي العربي بسبب سوء قيادة النظام العربي خلال السنوات الأخيرة، والذي يراهُ نابعا من غياب الدور المصري، سواء كانت مصر تلعب هذا الدور القيادي مُنفردة، أو من خلال تحالُفات.

في حين أوضح د. خالــد الأســدي، عضو البرلمان العراقي والقيادي في التحالُف الوطني العراقي، بعض التحديات التي واجهها العراق، والتي من أهمها ملف وحدة العراق، ومسألة الصراع القديم والجديد المُستمر بين العرب والكُرد، وأيضاً الواقع الدولي والإقليمي، بالإضافة إلى السيادة الوطنية العراقية. كما أكد ضرورة تحويل الصراع إلى نوع من الصراع الناضج للوصول إلى نموذج ديمقراطي جيد.

كما أشار د. داود الفرحـــــان، صحفي وإعلامي عراقي، إلى أن تأثيرات مشكلة اللاجئين العراقيين في الداخل والخارج على النظام السياسي الحالي في بغداد غير محدودة، وأنه يتضح من خلال مؤشرات كثيرة أن الحكومة العراقية غير راغبة في عودة اللاجئين إلى العراق، لأن معظم هؤلاء من المعارضين للحكومة أو من مؤيدي كيانات سياسية مُنافسة. وأكد الفرحان أن كُل هذا التشابُك والتنافُر والتجاذُب والتقاطُع السياسي داخل العملية السياسية الراهنة ينعكس سلباً على أحوال اللاجئين والمُهجرين في الداخل والخارج، وسط انحسار مستمر لأي أمل في المستقبل.

الفرص والمكاسب من انسحاب القوات الأجنبية:

في حين تحدث د. إبراهيـــم نــــوار، مسئول الشئون السياسية السابق لبعثة الأمم المتحدة في العراق، عن الفُرص والمكاسب، التي لخصها في تحويل علاقة العراق بالولايات المتحدة إلى علاقة طبيعية، وتخفيف العبء الاقتصادي الذي كان العراق يتعرض له بسبب الاحتلال، وبلورة الهوية الوطنية... إلى آخرهِ. أما عن المخاطر والتهديدات، فقد لخصها نوار في عدة نقاط، من أهمِها: نشوء حالة من الفراغ الأمني، إلى جانب زيادة حدة القلق لدى حكومة إقليم كردستان، وحدة الاستقطاب السياسي تجاه إيران، وترك خروج القوات الأمريكية الساحة مفتوحة للمزيد من الفساد السياسي والمالي في العراق، بالإضافة إلى زيادة الميل إلى توظيف الميليشيات والقوات الأمنية كوسيلة من وسائل الضغط، وتصفية الحسابات السياسية مع الخصوم، والفشل في الاتفاق على صيغة مقبولة ومتوافق عليها لكيفية المشاركة في الثروة الوطنية، وزيادة الميل لإغراء الفيدرالية على حساب الدولة المركزية.

كما تحدثت أ. نـــدى عمــــران، كاتبة عراقية، عن مشكلة سحب الثقة من الحكومة، حتى من أطراف داخل الائتلاف الذي يقوده "نوري المالكي"، وأيضاً عن ملف الخدمات، التي أكدت أنه يشمل وجود عدة أزمات في الكهرباء، والمياه... وما إلى ذلك. وأخيراً، وجهت عمران عتابا لدور مصر الغائب وبعض الدول الأُخرى عن العراق.  

أما د. عادل سليمان، المدير التنفيذي للمركز، فقد أكد أن المنطقة العربية تشهد تغيُرات حادة، وبالتالي يجب إدراكِها بطريقة عملية وواقعية، لأنهُ يرى أن الخطر يكمُن في عدم إدارك تلك المُتغيرات. كما أشار إلى ضرورة الخروج من نفق المُشكلات الداخلية والصراعات السياسية الدائرة داخل الدولة، والتي في الغالب تصُب حول السُلطة، بالإضافة إلى ضرورة الالتفات إلى أن المنطقة يعاد تشكيلها بشكل مختلف، في ظل هذا الانشغال الذي نعيشه.

وأخيراً، خلصت الندوة إلى عدة توصيات، أهمها:

- أهمية الاستفادة من تجارب الدول الأُخرى التي مرت بنفس ظروف العراق من احتلال وانسحاب القوات المُحتلة منها، وذلك بغرض وضع حلول ومُقترحات فاعلة لحل الأزمات الداخلية بالعراق، واستخدام ذلك لتحقيق المُصالحة الوطنية.
- فتح قنوات الحوار مع جميع الطوائف والفصائل العراقية الثلاثة، الشيعة والسنة والأكراد، بحيثُ لا يقتصر الحوار فقط على الحكومة العراقية.
- تأكيد أهمية تدخُل طرف ثالث مُحايد لحل الأزمة العراقية الداخلية، وتعزيز الحوار الوطني بين كافة القوى والتيارات السياسية.
- اهتمام جميع الدول العربية بحل مُشكلة اللاجئين العراقيين النازحين إلى دول الجوار، والذين يُمثلون تهديداً أمنياً كامناً بمنطقة الشرق الأوسط.
- أهمية البدء في عملية مُنظمة لملء الفراغ الذي خلفه خروج الاحتلال، وموازنة أدوار الأطراف غير العربية.
- تأكيد حماية العملية الدستورية، وتعزيز المُمارسات الديمُقراطية، واحترام حقوق الإنسان.
- أهمية إعادة بناء الثقة بين العراق ودول الخليج التي لا تزال تنظُر إلى العراق كمصدر تهديد لها.
- حاجة العراق إلى نوع من البرجماتية للوقوف على حقائق الأمور على أرض الواقع.


رابط دائم: