"الرئيس العادي" يعيد فرنسا للاشتراكية
14-5-2012

د. السيد ولد أباه
* كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.

في خطابه الأخير للأمة الفرنسية في مطلع سنة 1995 قبل أشهر من رحيله عن الحكم وعن الدنيا، لخص "فرانسوا ميتران" وصيته السياسية في نصيحتين هما:عدم الفصل بين مثالي الحرية والعدالة الاجتماعية، وعدم الفصل بين هوية فرنسا واندماجها في مشروع الاندماج الأوروبي.

أنهى الرئيس العجوز الذي كان يعيش آخر أيام المرض القاتل خطابه بالقول:"سأكون معكم دوماً فإنني مؤمن بقوى الروح".

لم يكن أحد يراهن على أن ثاني رئيس اشتراكي لفرنسا سيكون "فرانسوا هولاند" الشاب المتواضع الخجول الذي عمل في ديوان ميتران مساعداً لمستشاره القوي "جاك اتالي"، ولم يعينه في وظيفة وزارية على الرغم من مشاعر العطف الذي احتفظ له بها طيلة سنوات حكمه.

كانت النصيحة الوحيدة التي قدمها ميتران للسياسي الشاب الطامح لدخول المعترك السياسي هو ضرورة "التجذر في أرضية فرنسا العميقة" بدل الاكتفاء بأضواء وبريق المحافل الباريسية.

عمل "هولاند" بنصيحة معلمه فنافس وهو في سن السابعة والعشرين الزعيم اليميني البارع "جاك شيراك" في دائرته الانتخابية بمنطقة "لاكوريز" العريقة. هزم الشاب الغر الذي قال عنه شيراك "إن بالتيك كلب ميتران أشهر منه"، ومع ذلك استمر في الحلبة حتى انتزع المناصب القيادية الانتخابية في المنطقة لدورات متتالية ومنها تقدم لرئاسة فرنسا.

لم تكن عبارة شيراك الساخرة سوى تعبير من عدة تعبيرات استفزازية أخرى راجت حول "هولاند" ، حتى داخل وسطه الحزبي الذي تبوأ إدارته التنفيذية في سنوات التيه واليأس بعد الهزيمة الشنيعة التي مني بها المرشح الاشتراكي "جوسبين" في انتخابات 2002.

أطلقت على هولاند تسمية "رجل النكت الخفيفة"، ونعتته منافسته في الحزب "مورتين أوبري" بـ "الاشتراكي الغائم"، وشككت لغة قرينته السابقة وأم أبنائه "سيجولين رويال" في قدرته على الحسم والجزم.

ومع ذلك كله فاجأ "هولاند" خصومه وأصدقاءه معاً خلال حملته الرئاسية الطويلة التي خلت من الهفوات والأغلاط.استطاع التغلب على قيادات حزبه في تصفيات الترشيح للرئاسيات، قبل أن ينجح في الانتصار على الرئيس المرشح "ساركوزي"، الذي بذل جهوداً استثنائية في الاحتفاظ بمقعد الحكم.

صرح "هولاند" بعد إعلان نجاحه في السباق الرئاسي أنه أنصت جيداً لنصائح معلمه "ميتران"، وأضاف مازحاً أنه استمع إلى "قوى الروح"، التي تحدث عنها "ميتران" قبيل رحيله.

والواقع أنه على الرغم من الفروق الجلية في الخلفية والمسار والشخصية بين السياسي المخضرم العنيد والمحنك وتلميذه الوديع الهادئ، إلا أن خصائص مشتركة عديدة تجمعهما، كما أن مسلكيهما متقاربان من أوجه شتى.

كلاهما عانى طويلاً لانتزاع اعتراف عائلته السياسية، وكلاهما وصل للحكم في فترة أزمة داخلية وعالمية حادة، وكلاهما انتصر على رئيس قوي من اليمين أخفق في الاحتفاظ بالسلطة لدورة ثانية.

نجح "هولاند" بشعاري "العدالة الاجتماعية" و"إنقاذ المشروع الأوروبي"، في الوقت الذي تبنى خصمه خطاب "اليمين المتطرف” ودافع عن سياسة التقشف والقبضة الأمنية وعن الانكفاء القومي والتشبث بالسيادة الوطنية. غابت القيم الجمهورية عن خطاب ساركوزي وتحول "هولاند" إلى حارس أمين لهذه الثوابت الناظمة للعقل السياسي الفرنسي منذ قيام الجمهورية الخامسة.

وهكذا استطاع "هولاند" أن يحول"نقطة ضعفه الكبرى" (الحس التوفيقي اللين والمرن) إلى نقطة قوة رئيسية للم شتات حقل سياسي متصدع وقلق.

استمد "هولاند” هذه الخصلة من جذوره العائلية، باعتباره ابن طبيب يميني متطرف ومتسلط وممرضة يسارية لبقة وحالمة. أخذ من والدته المثل القيمية واللون الإيديولوجي، وتدرب في علاقته بوالده على التكيف وتجنب المواجهة والصدام.

في حوار المواجهة مع منافسه "ساركوزي" ما بين الشوطين ،كرر “هولاند” أنه يريد أن يكون رئيساً "عادياً"، أي مجرد الموظف الأول في الدولة الفرنسية، من دون هالة أو مسوح، معرضاً بحضور سلفه الزائد وتحكمه في كل دوائر ومنافذ القرار.

ولقد أعلن بعد فوزه في الانتخابات أنه لن يغير جوهرياً في نظام حياته اليومي، وسيستمر في السكن في شقته بالدائرة الخامسة عشرة في باريس على غرار ما فعل ميتران خلال سنوات حكمه.

بيد أن "الرئيس العادي" يواجه تحديات غير عادية، عاجلة وملحة، تتجاوز حيز بلاده، وتترك ثقلها بالكامل على المنظومة الأوروبية في مجملها، التي تابعت باهتمام كبير وغير مسبوق المنافسة الرئاسية في فرنسا.

ومن المؤكد أن هزيمة ساركوزي نظر إليها بصفتها زلزالاً كبيراً في منطقة "اليورو”، يرمز لنهاية الزوج الألماني – الفرنسي الذي أدار الأزمة المالية الخانقة التي تعرفها القارة منذ سنوات أربع عجاف.

فالتحدي المطروح اليوم على رئيس فرنسا الجديد هو القدرة على تقديم مشروع أوروبي بديل لخيار التقشف وتقليص النفقات العمومية والسياسات الاجتماعية الذي اختارته ألمانيا وفرضته على شركائها الأوروبيين بدعم فرنسي.

هذا التحدي يتعلق في آن واحد بانتشال الوضع الاجتماعي المنهار في فرنسا، وبإنقاذ المنظومة الاندماجية الأوروبية المتمحورة حول العملة النقدية المشتركة التي تتعرض لمخاطر التحلل والتفكك.

وإذا كان "هولاند" قد استقطب جمهوراً واسعاً باسم العدالة الاجتماعية ودعم النمو والتوزيع المنصف للثروة، فإن الرهان المطروح عليه هو القدرة على تجسيد هذه التطلعات المغرية في سياسات اقتصادية ناجعة وعملية.

ولا شك أن "هولاند" يستحضر تجربة سلفه الاشتراكي الذي وصل للحكم في ظروف شبيهة وفشل في السياسات الاجتماعية التي رسمها، مما حمله على التعايش خلال فترتي حكمه مع حكومات يمينية تخلى لها عن العبء الأكبر من تسيير شؤون البلاد.

صحيح أن الخيارات الاشتراكية المتأثرة بالأيدولوجيا الثورية الماركسية لم تعد حاضرة في خطاب ورثة ميتران، بيد أن الاشتراكيين الفرنسيين لم ينجحوا بعد في تطوير مشروعهم الفكري والاجتماعي في ضوء التحولات النوعية الكبرى التي عرفها العالم في العقدين الأخيرين.

ويبقى التحدي الأهم، هو كيف يحول "هولاند” فوزه من مجرد هزيمة لساركوزي إلى انتصار فعلي له.

--------------
نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الإثنين 14/5/2012.


رابط دائم: