الربيع البريطاني على الطريقة العربية
3-5-2012

محمد عارف
* مستشار المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا.

بسبب سوء الأحوال الجوية في بريطانيا طوال فصل الربيع، أصدر "أسقف كانتربري" بياناً دعا إلى عدم استخدام مصطلح "الطقس الإنجليزي"، لأنه يؤذي مشاعر الإنجليز الذين يشكلون القسم الأكبر من السكان، واقترح استبداله بعبارة "الطقس الإسلامي"، ونصح بالإشارة "جزئياً سني، وغالباً شيعي"! وهذه نكتة حصرياً لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، التي اقتنت بقرتين لتدفئة قلوب العاملين الذين تجمّدت أجورهم، بقرة بيضاء تدر "آيس كريم" عند حلبها، وبقرة بنية اللون تدر "شوكولاته مثلجة"، وهذه نكتة أيضاً!

وللمقارنة مع "الربيع العربي" فإن "الربيع البريطاني" يفكك، وهو في أوله إمبراطورية إعلامية تلعب أدواراً خطيرة في السياسة البريطانية. وهذا أخطر ما يفعله استجواب روبرت مردوخ، رئيس شركة "نيوزكورب". فالتحقيق بدأ العام الماضي حول فضيحة تنصت مراسلي صحيفته "نيوز أوف ذي وورلد" على هواتف المسؤولين ونجوم السينما والمجتمع وأفراد العائلة المالكة، وتحول الآن إلى التحقيق في علاقة مردوخ بنظام الحكم في بريطانيا. سؤال محامي الإدعاء حول حلف "فاوست" القائم بين مردوخ والحكومات المتعاقبة في بريطانيا يشير إلى قصة الشاعر الألماني غوته عن تحالف فاوست مع الشيطان لقاء تحقيق رغباته. هل كان "الدعم الإعلامي لقاء سياسات رضية بالإعلام"؟.. جواب مردوخ: "أنا ببساطة لا أدير الأعمال بهذه الطريقة".

والأعمال في حجم إمبراطورية مردوخ تدير مردوخَ وليس العكس. فهو رئيس شركة "نيوزكورب" التي تملك أكبر الحصص في شبكات تلفزيونية عالمية كبرى، مثل "سكاي" و"فوكس"، وأعرق الصحف البريطانية "تايمز"، و"سانداي تايمز"، وأكثر الصحف الشعبية رواجاً "صن"، وصحيفة المال والأعمال الأميركية "وول ستريت جورنال"، وخدمات أسواق الأسهم "داوجونز"، واستوديوهات هوليود التي تنتج عدداً من أشهر مسلسلات التلفزيون، بينها "سبمسون" و"سوبرانو"، ومجموعة صناعات إعلامية وترفيهية مشتركة حول الكرة الأرضية، من الصين حتى الولايات المتحدة، مروراً بأستراليا، والهند، ومعظم الأقطار الأوروبية، والمنطقة العربية.

"رجال ونساء يخشون على حياتهم وأسرهم، يزيلون البطاريات من هواتفهم الجوالة، يغلقون النوافذ ويسدلون الستائر، ويفحصون منازلهم بحثاً عن أجهزة تنصت، ويحذرون من مرأى عربات شريرة في المرايا الخلفية لسياراتهم، ويُغيّرون يومياً طريق سيرهم إلى العمل". هذه ليست أجواء الحياة في أنظمة عربية يثور عليها مواطنوها، بل في بريطانيا، ويحكي تفاصيلها كتاب صدر أخيراً عنوانه "نيوز كوربوريشن وإفساد بريطانيا". مؤلف الكتاب، "توم واطسن"، عضو اللجنة البرلمانية التي استجوبت مردوخ، والفساد الذي يكشف عنه الكتاب لا يقتصر على المؤسسة السياسية البريطانية وأجهزة البوليس والقانون والإعلام، بل يمتد إلى إفساد مئات الملايين من مشاهدي برامج قنوات شبكات التلفزيون التي تملكها إمبراطورية مردوخ، والمسلسلات والأفلام السينمائية التي تنتجها استوديوهاته، وقراء صحفه، والمشتركين في خدماته المعلوماتية والمالية والسياسية.

وإذا فسدت الثقافة فبماذا نثقفها؟ هذا السؤال يطرحه بصيغة مختلفة اللورد ليفيسن، رئيس لجنة التحقيق الخاصة في القضية، عندما يقول إنه ليس معنياً بالتحقيق في عمل وزير الثقافة "جيرمي هنت" بل بالتحقيق حول "ثقافة، وتطبيقات، وأخلاقيات الصحافة". والحديث عن ثقافة إعلام تواطأ مع جريمة احتلال العراق يبرر العبارة المشهورة لغوبلز: "كلّما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي". فوزير الثقافة البريطاني متهم بالتواطؤ في عملية استحواذ شركة مردوخ "نيوز كورب" على كامل ملكية "سكاي" التي تعتبر من أكبر شبكات التلفزيون العالمية وأكثرها نفوذاً. وخطة الاستحواذ نموذج لأسلوب "مافيا مردوخ" التي يتحدث عنها كتاب "إفساد بريطانيا". قرار حكومة المحافظين تجميد أجور رخصة التلفزيون التي يدفعها الجمهور العام في بريطانيا، عمل "مافياوي" لقتل "بي بي سي" التي تُغبطُ عليها بريطانيا، ليس لكونها من أركان ديمقراطيتها المرائية، بل لأنها نموذج فريد للنجاح الذي يمكن أن تحققه خدمات إعلام وترفيه عامة غير مملوكة للقطاع الخاص، ولا يتحكم بها المعلنون.

"أما حان الوقت لاستعادة السلطة الخامسة؟"، عنوان مقالة مثيرة للإعلامي البريطاني المشهور جون بلجر. المقالة مخصصة لتواطؤ مردوخ في ما يسميها الكاتب "جريمة الهولوكست" في العراق. وما أكثر الكلام الذي قالته وكتبته أجهزة الإعلام العالمية عن العراق، وما أقل التفكير في ما يقال ويُكتبُ. لكن بلجر مخلوق فريد يستفز المجتمع الإعلامي الدولي بتفكيره الكثير بما يقوله ويكتبه، ومقالته المنشورة في مجلة اتحاد الصحفيين البريطانيين "ذي جورنالست" تستعيد أقوال مردوخ قبيل غزو العراق عن "حمام الدم" الذي سيغرق العراقيين. "ستكون هناك أضرار جانبية، وإذا كنت تريد حقاً أن تكون فظاً في ذلك فالأفضل أن نفعله عاجلاً". وقد "فعلها مردوخ عاجلاً في تحويل 750 ألف امرأة عراقية إلى أرامل، والخراب الذي أنزل بمدينة الفلوجة، وتدمير أنظمة الصحة والتعليم".

ويسأل بلجر: "لماذا لم يُسأل مردوخ عن ثلاث مكالمات هاتفية أجراها مع بلير في مارس 2003 وكانت إحداها في اليوم السابق للغزو، وأعقبت كل مكالمة تخصيص الصفحات الأولى لصحفه بالدعوة للحرب. ومردوخ لم يكن التفاحة الفاسدة الوحيدة في تقدير بلجر الذي يتناول تغطية "بي بي سي" لحرب العراق، وكيف عكست بروباغندا حكومة بلير حول أسلحة الدمار الشامل العراقية. و"أخطر البروباغندا نادراً ما تأتي من مصادر غير موثوقة كصحيفة "صن"، بل ممن يتمتع باحترام الجمهور مثل "بي بي سي". وتغطية "بي بي سي" لتلك الفترة عكست أقل من 2 في المئة من الآراء المخالفة للبروباغندا الرسمية، "رغم معارضة معظم الرأي العام البريطاني لذلك الغزو". ويشارك بلجر إعلاميين غربيين كبارا في الاعتقاد بأنهم "لو قاموا بعملهم كما ينبغي، وتحدوا وفضحوا أكاذيب بوش وبلير، بدلاً من تضخيمها وترديدها، لما حدث غزو العراق". ويتساءل: "متى نعتبر أنفسنا كصحفيين مسؤولين عن ذلك أيضاً؟".

والسلطة الخامسة التي يدعو إليها بلجر هي سلطة تخرج بالصحفيين عن الصحافة التي تسمى تقليدياً "السلطة الرابعة" وتنضم إلى الجمهور وأساتذة الصحافة الأحرار في إنشاء حرية إعلام جديدة، ومفاهيم جديدة عن استقلالية الإعلام، وطرق جديدة في المحاسبة. وهذه قافلة "ربيع الإعلام العالمي" تلوح طلائعها المبتهجة في التواصل الاجتماعي. مئات الملايين من جميع البلدان ينتجون ويتبادلون ويسوقون المعلومات، أثمن وأرخص السلع في تاريخ الاقتصاد العالمي. وإذا كانت الثورة في أدوات الإنتاج أنشأت النظام الرأسمالي الذي يغير العالم منذ نحو ثلاثة قرون، فأي عالم ستبدعه ثورة الملايين من منتجي ومسوقي المعلومات والاتصالات؟ وإذا سألني بلجر: "لماذا أنتم العراقيون تجيبون عن السؤال بسؤال آخر؟"، أجيبه: "من قال لك ذلك"؟
-------------

* نقلا عن  الاتحاد الإماراتية، الخميس 3/5/2012.


رابط دائم: