رهانات خاسرة:|مستقبل العلاقات بين شمال السودان وجنوبه بعد أزمة هجليج
3-5-2012

‏أكرم‏ ‏حسام
* باحث في العلوم السياسية.

الأحد 29 إبريل 2012

أعادت أحداث "هجليج" للواجهة مرة أخرى مناخ الحرب والصراع المسلح بين شمال السودان وجنوبه. فرغم مراهنة البعض على أن الانفصال سيضع نهايةً للحرب ويحقق الاستقرار، فإن ذلك لم يتحقق.لقد خسر السودان جنوبه ولم يربح السلام ، بل بدت مشكلات الانفصال بين الدولتين تطل برأسها.

وبالرغم من أن قوات جنوب السودان انسحبت من هجليج ، فإن الأزمة بين البلدين لم تنته، ليطرح ذلك استفهامات عدة حول انعكاسات أزمة هيجليج على مستقبل العلاقات بين الدولتين، وإلى أي حد سيظل المتغير الاقليمي والدولي رقماً مهماً في معادلة الصراع بين البلدين؟.

أولاً- أحداث هجليج.. دوافع ومراهنات متباينة:

تعد أحداث هجليج من وجهة النظر السياسية محطة جديدة من محطات الصراع أو النزاع السياسى بين الشمال والجنوب تضاف إلى سابقتها من المحطات المعروفة، مثل أبيى وجنوب كردفان وجبال النوبة وغيرها. فكلتا الدولتين تسعى إلى إثبات الوجود، وفرض الأمر الواقع، وامتلاك أوراق للضغط والمساومة، وتعويض تبعات وتداعيات الانفصال السياسية. لكن ربما مناط التميز في هذه المحطة من محطات الصراع هو البعد القانونى، المتمثل في أن أحداث هجليج كانت اعتداء صريحا من دولة الجنوب على أراض شمالية خالصة دون سابق إنذار، وبالتالى يخضع هذا الصراع للوصف القانونى لجريمة الاعتداء المسلح على دولة عضو في الأمم المتحدة، وما يستتبع ذلك من ضوابط وحقوق والتزامات أقرها ميثاق الأمم المتحدة مثل: حق الدفاع الشرعى، ورد العدوان والمسئولية الدولية عن الاعتداء بمختلف صورها.

والتساؤل المطروح هو: هل تجاهلت حكومة سلفا كير كل هذه الأمور وغلبت الأبعاد السياسية على القانونية؟، وما هى الدوافع السياسية لهذا الصراع، والتى جعلت دولة الجنوب تقدم على هذا الفعل المخالف للقانون الدولى؟، وهل شجع الوضع السياسى في الشمال لحكومة جوبا على الإقدام على هذا الفعل؟.

باستقراء الأمور، يتضح أن متخذي القرار في جوبا قد تجاهلوا البعد القانونى لهذه العملية، كما تجاهلوا ايضاً رد فعل المعتدى عليه، مدفوعين في ذلك ومراهنين على ما يلى:

1- الرغبة في التغطية على الأوضاع السياسية السيئة في الجنوب بعد الانفصال وفشل حكومة سلفا كير حتى الآن في تثبيت دعائم الدولة الجديدة، وتحقيق المصالحة الوطنية داخل الجنوب، نتيجة تفجر النزاعات الجنوبية – الجنوبية، ورفض قبائل الجنوب الكبرى مثل الشلك والنوير لهيمنة قبيلة الدينكا نوك – العماد الأساسى للحركة الشعبية لتحرير السودان- على الوضع السياسى في الجنوب، وصعوبات تحويل الحركة الشعبية من حركة مسلحة ألى حركة سياسية تمارس دوراً جديداً كفاعل سياسى ضمن فواعل جنوبية أخرى في إطار دولة، وليس في إطار حركة مسلحة.

بالإضافة إلى فشل الحكومة حتى الآن في تحقيق حلم المواطن الجنوبى الذى صوت للانفصال أملاً في دولة جديدة تحقق له المواطنة الكاملة، وتقدم له الخدمات والتنمية التى ظل محروماً منها لعقود طويلة، وبالتالى أرادت حكومة سلفا كير تصدير المشكلة للشمال، ولفت انتباه الجنوبيين مرة أخرى للخرطوم لتحميلهم مسئولية تدهور الأوضاع في الجنوب، من خلال اتهامات متواصلة للشمال بالتدخل في الشأن الداخلى الجنوبى، وبإعاقة جهود التنمية هناك، في محاولة لإعادة توحيد الصف الجنوبى خلف حكومة سلفاكير، من خلال استعادة مناخ الحرب، وتقوية الشعور الوطنى الجنوبى.

2- المراهنة على رد فعل ضعيف من حكومة الخرطوم التي تعاني هي الأخرى مشكلات اقتصادية وسياسية ترتبت على واقع الانفصال، بالإضافة إلى تشتت جهود القوات المسلحة في الشمال بين الشرق ودارفور والجنوب، وحماية النظام الحاكم نفسه في الخرطوم من أية محاولات تهدف للتأثير فى استقراره واستمراره، خاصة في ضوء الحديث عن عدوى الثورات التى حدثت في مصر وليبيا وتونس، ومدى اقترابها أو بعدها عن السودان.

3- المراهنة على موقف دولى مساند لحكومة جوبا، إذا ما أقدمت على هذا الفعل، خاصة الموقف الأمريكى والأوروبى الذي لا يزال يحمل في جعبته عداءً أو خلافاً واضحاً مع نظام عمر البشير غير المتوافق مع الأجندة الأمريكية(ملف المحكمة الجنائية الدولية، وملف دارفور، وعلاقات نظام الخرطوم بإيران وبحركة حماس وحزب الله وغيرها.....)، في مقابل علاقات وطيدة للجنوب مع الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا، وبالتالى راهن سلفاكير على أن المجتمع الدولى على الأقل سيغض الطرف عن اعتداء للجنوب على أراض شمالية، مما سيسمح للجنوب بامتلاك ورقة ضغط مهمة يمكن استغلالها من أجل مساومة الشمال على ملفات أخرى مثل أبيى.

ثانياً- عملية هجليج.. المكاسب والخسائر:

ساعدت عوامل كثيرة على إنهاء عملية هجليج على هذا النحو الذى شاهدناه بعد انسحاب قوات الجنوب، وإعلان الشمال ذلك على أنه نصرُ مُبين، لكن يظل البحث في مكاسب وخسائر الأطراف المختلفة من هذه العملية عملاً مهماً ليس فقط بغرض قراءة ما حدث، ولماذا حدث، ولكن أيضاً بهدف استخلاص الدروس والعبر اللازمة للتعامل مع الشأن السودانى في المستقبل المنظور. وفي ضوء ذلك، قد يكون من المفيد ذكر ما يلى:

1- تعد حكومة سلفاكير الخاسر الأكبر من هذا الصراع الأخير، نتيجة فشلها في تحقيق الأهداف التى وضعتها من أجل خوض هذه المغامرة، حيث فشلت في الحصول على دعم دولى أو إقليمى، كما فشلت في إدارة الصراع من الناحية السياسية، حيث لم تستطع إدامة أمد الصراع أكثر من شهر، مما حرمها من إمكانية المساومة أو امتلاك ورقة ضغط، كما أنها فشلت في حشد القوى السياسية في الجنوب خلف القيادة السياسية، نتيجة عدم اقتناع كثير من الأحزاب والقوى السياسية الجنوبية بهذه الخطوة التى رأوها عملاً مدفوعاً من جانب الحركة الشعبية.

في المقابل، بدا هنالك نجاح نسبى لحكومة الخرطوم في التعامل السياسى مع الأزمة، حيث ركزت على أن ما حدث هو اعتداء صريح على أراض شمالية وليس على مناطق محل نزاع، مما أضعف موقف حكومة الجنوب، وأجبر الموقف الدولى على تأكيد أن ما حدث هو احتلال دولة لأراضى دولة أخرى، علاوة على نجاح نسبى أيضاً لحكومة الخرطوم في حشد الموقف الداخلى في الشمال خلف القيادة السياسية، وهو ما ظهر في مواقف القوى والأحزاب السياسية، علاوة على المواقف الشعبية الرافضة لاعتداء الجنوب على أراضى الشمال.

2- الموقف الدولى بشكل عام، والأمريكى على نحو خاص من هذه الأزمة. فللمرة الأولى، ترفض الولايات المتحدة تصرفاً جنوبياً بهذا الحسم والوضوح, بل وتعطي الضوء الأخضر للأمم المتحدة ولمجلس الأمن لإدانة التدخل الجنوبي في أراضي السودان، والمطالبة بالانسحاب الفوري وغير المشروط لقوات الجيش الشعبي من هجليج, والتلويح بفرض عقوبات على دولتي السودان. ورغم ما ذكر على لسان مسئولين سودانيين من اتهام صريح للولايات المتحدة بمساندة الجنوب، فإن الموقف الامريكى جاء على خلاف هذا، ارتباطاً بأن الموافقة الأمريكية على احتلال الجنوب لهجليج تقوض الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة وفي السودان على نحو خاص، لاسيِّما إذا انتقل القتال بين دولتي السودان وجنوب السودان إلى مُربَّع الحرب الشاملة بما يعنيه من زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة ككل، ممِّا سيساعدُ على وجود ونمو تنظيمات "الإرهاب" الدولي، على غرار ما يحدث في الصومال ومالي وموريتانيا.

3- إنه من الضرورى الإشارة إلى الدور الذى قامت به مصر في إنهاء هذه الأزمة والحيلولة دون تفاقمها وتطورها لحرب بين الدولتين، من خلال الزيارات والاتصالات المتواصلة للمسئولين المصريين مع قادة البلدين. وبالفعل، نجحت مصر في إحداث حلحلة في هذا الموقف بشكل نسبى، خاصة من خلال تأكيد رفض مصر لدخول السودان والمنطقة في حرب مرة أخرى، وإجراء اتصالات بخصوص هذا مع قادة البلدان الأخرى في إفريقيا، خاصة إثيوبيا، ومع المجتمع الدولى، خاصة الولايات المتحدة، وعرض مصر التوسط بين الطرفين لحل الموقف بشكل سلمى دون استخدام القوة المسلحة، علاوة على توسط مصر في استعادة بعض الأسرى المحتجزين لدى الطرفين مما أسهم في تخفيف حالة الاحتقان.

ثالثاً- مستقبل الأوضاع بين الشمال والجنوب:

ستظل الأوضاع في السودان، شمالاً وجنوباً، تتراوح بين الاستقرار والتوتر لسنوات قادمة، ولن تتحقق مراهنة الشمال على أن التسريح بإحسان للجنوب سيعيد الود والاستقرار والثقة في العلاقات بين الدولتين، تمهيداً للوحدة مرة أخرى، ولن يتحقق للجنوبيين حلمهم في دولة الجنوب الجديدة، ما لم تحل القضايا الخلافية بين البلدين بأسرع وقت ممكن، وما لم يستعد الجانبان مناخ الثقة في علاقاتهما مع بعضهما بعضا، ومالم يُعظم المسئولون في البلدين من مصالح شعوبهم على مصالحهم الشخصية. وبغض النظر عن تلك المطالبات والأمنيات، فإن أحداث هجليج ستكون لها تبعاتها على مستقبل الأوضاع  في السودان، شمالاً وجنوباً ، وذلك على النحو التالى:

1- ستؤثر هذه الأحداث فى الموقف السياسى الجنوبي، حيث من المتوقع إضعاف الموقف السياسى الداخلى للحركة الشعبية داخل الجنوب باعتبارها مسئولة مسئولية أساسية عن تحريك هذه الأحداث، وبالتالى إضعاف الموقف السياسى لحكومة سلفاكير في مقابل خصومه، وهو ما يفتح المجال أمام احتمالين، الأول هو سعى سلفاكير لتعويض هذه الخسارة السياسية بموقف سياسى أو عسكرى آخر يحقق فيه النصر على الشمال، ربما في ملفات أخرى. وهنا، نتوقع احتمالية تكرار ما حدث في أقرب وقت ممكن، والاحتمال الآخر هو استيعاب سلفاكير لدروس التجربة، خاصة ما يتعلق منها بالتحول النسبى في الموقف الدولى والأمريكى، وبالتالى لن يكرر التجربة مرة أخرى.

وفي هذه الحالة، عليه مواجهة الضغط الداخلى عليه من تبعات عملية هجليج، والذى سينحصر إما داخل الحركة الشعبية نفسها من بعض القيادات القوية التى كانت متحفظة على هذه الخطوة، وهنا احتمالات الانقسام داخل الحركة الشعبية واردة وصولاً لمحاولات الانقلاب العسكري. كما أن على سلفاكير أن يواجه الضغط الذى ستتعرض له حكومته من القوى السياسية الأخرى، بخلاف الحركة الشعبية. وهنا، ربما نشهد صورة أكثر حدة من الانقسام السياسى الجنوبى، وهو ما يضعف بطبيعة الحال من الوضع السياسى الجنوبى على المدى المنظور.

2- من الواضح استفادة حكومة الشمال من تجربة هجليج، حيث حققت نصراً إعلامياً وسياسياً مهماً على دولة الجنوب، مما قوى من موقف المؤتمر الوطنى الداخلى، بعد أن واجه أشهرا من الضغط من القوى السياسية الأخرى، علاوة على تركيز الإعلام في الشمال على أن حركات التمرد في دارفور قد شاركت القوات الجنوبية في احتلال هجليج ، مما أضعف من موقف هذه الحركات من الناحية السياسية. وبناء على ذلك، فمن المتوقع أن يكون السلوك الخارجى لدولة الشمال، خاصة في علاقاتها مع الجنوب وفي أي مفاوضات قادمة حول أي من القضايا المعلقة، أكثر تشدداً، استناداً على موقف سياسى داخلى قوي، وعلى مساندة شعبية وثقة في قدرة النظام على حفظ حدود  البلاد من أى اعتداء خارجي، وفي ظل ضعف الموقف السياسى والعسكرى لحركات دارفور.

3- سيظل الموقف الدولى عامة، والأمريكى على نحو خاص، عاملاً مؤثراً وحاكماً في مسار الأوضاع المستقبلية في السودان. فلا شك فى أن تبنى إدارة أوباما لاستراتيجية تحقيق الاستقرار في هذه المنطقة، على الأقل حتى يتم الانتهاء من ملفات إقليمية مهمة فرضها ما يعرف بالربيع العربى ( ملف سوريا، مصر، ليبيا) بالإضافة لإيران، سيحول دون دخول الطرفين في الشمال والجنوب مرة أخرى في حرب شاملة، وإن كان ذلك لن يمنع من استمرار المناوشات والتوترات العسكرية المحدودة بين الطرفين.

ويبقى أن نقول إن دوراً مصرياً فاعلاً ومؤثراً في مسار الأحداث في السودان ربما يكون بارقة الأمل في الخروج من هذا النفق المظلم، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تدعيم أسس الاستقرار بين الشمال والجنوب، والعمل على إزالة كافة البؤر الخلافية الملغومة والقابلة للانفجار في أي لحظة، وذلك من خلال مبادرة شاملة تدعو لها القيادة السياسية المصرية، تعيد البلدان لطاولة التفاوض حول كافة النقاط الخلافية، وحول كافة المسائل المشتركة بين الشمال والجنوب. كما أن حواراً مع القوى الإقليمية الفاعلة، مثل إثيوبيا وأوغندا، ومع القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، أيضاً يعد عنصراً مهماً لإنجاح هذه المبادرة، التى يمكن أن تكون بداية حقيقية لاستعادة دور ظل مفقوداً أو مكبلاً لسنوات طويلة .


رابط دائم: