استثناء باماكو:|هل يفتح انقلاب مالي الطريق أمام "الربيع الإفريقي"؟
2-4-2012

د. بدر حسن شافعي
* خبير في الشئون الإفريقية

الأربعاء 28 -3-2012

يطرح الانقلاب الأخير الذي شهدته مالي في الحادي والعشرين من هذا الشهر عدة تساؤلات، لعل أبرزها تلك الخاصة بعودة ظاهرة الانقلابات العسكرية من جديد في القارة السمراء، وهل نحن بصدد إعادة إنتاج هذه الظاهرة من جديد؟ أم أن ما حدث هو استثناء لعدم مواءمة الظروف الداخلية والخارجية لهذه الظاهرة، وأن القارة ربما تشهد حالة من الربيع الإفريقي، على غرار الربيع العربي في الجزء الشمالي منها؟.

بداية، يمكن القول إن هناك انحسارا كبيرة في ظاهرة الانقلابات العسكرية في إفريقيا منذ مطلع الألفية الثالثة، مقارنة بالفترة التي تلت استقلال هذه الدول وحتى نهاية الألفية الثانية.ففي الفترة الأولى، ووفق بعض الدراسات المعنية بهذه الظاهرة ([ii] )،بلغ عدد الانقلابات الناجحة في القارة خلال الفترة من الاستقلال وحتى أوائل عام 1996 قرابة 79 انقلابا " بخلاف الانقلابات الفاشلة "، حيث شهدت عشرون دولة انقلابا واحدا خلال تلك الفترة ، في حين شهدت 12 دولة أكثر من انقلابين. بل إن هناك بعض الدول شهدت خمسة أو ستة انقلابات في الفترة ذاتها مثل بنين ، ونيجيريا ، وبوركينا فاسو ، وغانا ، أوغندا .

انحسار الانقلابات

لكن منذ أوائل الألفية الثالثة، حدث تراجع وانحسار كبير في الظاهرة ليس على مستوى إفريقيا فحسب ، وإنما  على المستوى العالمي. فوفقا لدراسة، أجراها معهد الأبحاث الدولية التابع لجامعة هيدلبيرج الألمانية، فإن عدد الانقلابات في العام الواحد تجاوز 20 انقلابا في دول العالم، خلال الفترة من ستينيات القرن الماضي " تاريخ استقلال معظم دول العالم الثالث" وحتى منتصف الثمانينيات، لكن هذا الرقم تراجع إلى الربع فقط " أي خمسة انقلابات فقط" خلال الألفية الثالثة. وبالتطبيق على الشأن الإفريقي، فإن دول القارة لم تشهد سوى ثلاثة انقلابات فقط خلال عامي 2008 و2009 في كل من موريتانيا ، وغينيا بيساو ، ومدغشقر ، فضلا عن انقلاب مالي الأخير، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره بمجموعة من الأسباب الداخلية والخارجية.

فبالنسبة للأسباب الخارجية، فهي تنقسم بدروها إلى قسمين، بعضها يتعلق بالبيئة العالمية ، وبعضها الآخر يتعلق بالبيئة الاقليمية. فعالميا، هناك اتجاه دولي بعد سقوط الاتحاد السوفيني والكتلة الاشتراكية أوائل التسعينيات لتبني مبادئ الديمقراطية والحكم الرشيد، وربط المساعدات الاقتصادية الدولية بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وإذا كانت النظم الإفريقية قد تحايلت على هذا الأمر في التسعينات عبر إدخال بعض الإصلاحات الشكلية فيما يتعلق بالتعدد الحزبي، والتخلي عن نظام الحكم الواحد ، فإنه مع مطلع الألفية الجديدة لم تستطع هذه النظم الصمود كثيرا أمام الضغوط الخارجية والداخلية في آن واحد. فشهدت القارة حالات كثيرة للتداول السلمي للسلطة سواء في غانا ، أو نيجيريا ، وليس السنغال منا ببعيد.

أما على الصعيد الإقليمي"الإفريقي"، فمنذ القمة الإفريقية التي عقدت في الجزائر عام 1999 إبان منظمة الوحدة الإفريقية، تم تبني مبدأ الرفض الإفريقي للاعتراف بالانقلابات العسكرية كوسيلة لتداول السلطة. وكانت جزر القمر من أولى الدول التي تم تطبيق هذا المبدأ عليها في حينها. ثم جاء الاتحاد الإفريقي ليقر هذا المبدأ ، مع فرض مجموعة من العقوبات، مثل تجميد عضوية الدولة في الاتحاد، وعدم الاعتراف بها، وهو ما دفع الانقلابيين إلى القيام بعملية التحول الديمقراطي الحقيقي عبر تسليم السلطة إلى مدنيين كحالة غينيا بيساو ، أو تحول شكلي عن طريق مشاركة العسكر في الانتخابات الديمقراطية كحالة ولد عبد العزيز في موريتانيا. وربما هذه الجزئية الأخيرة تتطلب إعادة نظر على مستوى الاتحاد الإفريقي ، حيث لا بد من إصدار قرار يحظر على الاتقلابيين المشاركة في الحياة السياسية، وبذلك يتم القضاء على الظاهرة في مهدها.

أما فيما يتعلق بالأسباب الداخلية لتراجع هذه الظاهرة، فهي ترتبط بأمرين، الأول هو فكرة التداول السلمي للسلطة، وعدم قدرة بعض النظم على التحايل بوسائل قانونية للتشبث بالحكم، خشية الضغوط الداخلية والخارجية. حتى هؤلاء الذين قاموا بالتشبث وعدم القبول بقواعد اللعبة الديمقراطية، فقد تم انتزاع بعض الصلاحيات المهمة منهم ، فضلا عن تعرض نظمهم لمزيد من القلاقل، مثل حالتي كينيا وزيمبابوي. بل إن حالة ساحل العاج والإطاحة العسكرية بجباجبو، بمساعدة فرنسية، خير دليل على عدم قدرة هذه النظم على الصمود كثيرا.

أما الأمر الثاني، فهو يرتبط بفكرة حدوث تحول نوعي في تسليح الجيوش النظامية، بحيث باتت تعمل بصورة أكثر احترافية. وربما قد يسهم ذلك في عدم حدوث انقلابات على النظم الحاكمة من قبل بعض الحركات المتمردة التي تعاني حالة من الاضطهاد ، أو حتى من قبل القيادات الوسيطة والصغرى داخل الجيش النظامي ذاته. أما في حالة وجود جيش ضعيف، فربما يشجع هذا قوى التمرد ، أو القيادات العسكرية الوسيطة على القيام بالانقلاب، وربما هذا ما حدث في انقلاب مالي الأخير الذي سنحاول إلقاء مزيد من الضوء عليه.

انقلاب باماكو.. استثناء

بداية، يلاحظ أن توقيت الانقلاب في باماكو جاء قبل أقل من شهر واحد من إجراء الانتخابات الرئاسية في البلاد، والتي أعلن الرئيس المالي المخلوع، أمادو توري، عدم ترشحه بها لإتمامه المرحلة الثانية من الحكم بموجب الدستور الذي لا يجيز له الترشح لفترة ثالثة. والرجل لم يعلن رغبته في البقاء في الحكم ، أو إدخال تعديلات على الدستور للسماح بالمنافسة على ولاية ثالثة، بل إنه صاحب تاريخ مشرف كرجل عسكري في تسليم الحكم للمدنيين بعد إدارته البلاد لفترة انتقالية استمرت 14 شهرا بعد الانقلاب الذي أطاح بالرئيس موسى تراوري، حيث قام بتسليم الحكم للرئيس ألفا عمر كوناري عقب انتخابات عام 1992.

وربما هذا ما جعل مالي تعرف مبكرا فكرة التداول السلمي للسلطة منذ حينها. وهو ما أشار إليه تقرير بيت الحرية الأمريكي السنوي عن الديمقراطية في دول العالم، حيث وصف مالي بأنها واحدة من الدول القلائل التي شهدت حالة من النضج السياسي والتداول السلمي للسلطة، خلال العقدين الأخيرين "كوناري فاز بالحكم دورتين مدة كل منهما خمس سنوات ، تلاه أمادو توري منذ2002 ، وكان يفترض أن يسلم الحكم بعد انتخابات أبريل المقبل" ، وهو ما انعكس على حالة الاستقرار واللا عنف، مقارنة بالعديد من دول القارة.

لكن ربما المشكلة التي واجهت توري هى ضعف القدرات التسليحية للجيش، فضلا عن ضعف الإمكانيات المادية للبلاد، وهو ما جعل النظام غير قادر على مواجهة متمردي الطوارق في شمال البلاد، لاسيما في ظل تباين القدرات التسليحية لهؤلاء، خاصة بعد عودة 7 آلاف مقاتل منهم إلى البلاد، قادمين من ليبيا بعد مشاركتهم مع كتائب القذافي في مواجهة الثوار.

هؤلاء جاءوا بأفضل المعدات التسليحية المهربة من ليبيا، بما فيها مضادات الطائرات، وبالتالي كانت المواجهة بينهم وبين الجيش النظامي غير متكافئة. كما أن ضعف الإمكانات المادية والاقتصادية للنظام جعلته غير قادر على استيعابهم، أو تحقيق تنمية اقتصادية في مناطق تمركزهم في الشمال ، وبالتالي فشلت كل مساعي التوصل لاتفاقيات تسوية سياسية معهم .هذا الضعف التسليحي للجيش المالي في مواجهة الطوارق هو ما استند عليه الانقلابيون لتبرير انقلابهم، وإن كان هذا التبرير واه من وجهة نظرنا لعدة أسباب. فمن ناحية أولى، إذا كان الرئيس فاشلا في مواجهة الطوارق، فإنه سيرحل خلال شهر، وبالتالي كان يجب انتظار ما ستسفر عنه الانتخابات، لاسيما وأن البلاد تشهد انتخابات حرة ونزيهة بشهادة المراقبين الأجاب والأفارقة، طيلة العقدين الأخيرين.

من ناحية أخرى، فإن هؤلاء الانقلابيين لن يستطيعوا مواجهة الطوارق بسبب بقاء السبب الخاص بضعف التسليح ، بل إن وضعهم سيكون أصعب، على اعتبار أنهم قد يحاربون على جبهتين الآن ، الأولى: جبهة الطوارق، والأخرى: النظام المخلوع وكبار قيادات الجيش والحرس الثوري، وهي مواجهة ليست بالسهلة.

فالطوارق يعملون الآن على استغلال هذا الوضع المتردي للبلاد، بعد الانقلاب من أجل ليس الحصول على الحكم الذاتي، كما كانوا يطالبون به الرئيس المخلوع، وإنما من أجل إقامة دولة لهم شمال البلاد قد تكون نموذجا يحتذى به في دول الجوار الأخرى " الجزائر ، النيجر، المغرب، بوركينا فاسو" . وهي الخطوة الأولى لإقامة دولة الطوارق الكبري عبر الصحراء، بداية من الصحراء الغربية في مصر شرقا وحتى موريتانيا غربا . وربما هذا هو مكمن الخطورة على الدول العربية والإفريقية على حد سواء.

لذا، لم يكن مفاجأة أن تحدث حالة من التوحد لدى بعض حركات الطوارق تحت مظلة حركة واحدة عرفت باسم الحركة الوطنية لتحرير أزواد " National Movement for Liberation of Azawad. وأزواد هي مناطق تمركز الطوارق شمال مالي، والتي تشكل قرابة 68% من مساحة البلاد، كما تم تشكيل جبهة مسلحة قوية. وقد أعلنت الحركة في بيان أخير لها يوم السبت 24 مارس 2012 أن هدفها هو  استمرار النضال ضد ما وصفته بالاحتلال، حتى استقلال كامل التراب الأزوادي، وتطهير أزواد من الوجود المالي بكافة أشكاله، كما طالب الانقلابيون بالسحب الفوري لقوات الجيش النظامي من كافة مناطق أزواد([iii]). وربما هذا ما دفع قادة الانقلاب إلى إعلان أنهم ليسوا جنرالات حرب، في إشارة إلى استعدادهم للتفاوض مع الحركة التي ستعد الفرصة سانحة لها في تحقيق هدفها بشأن الحصول على الحكم الذاتي أو حتى الاستقلال.

أما بالنسبة للنظام المخلوع، فإن هناك إمكانية لعودته من جديد، لاسيما في ظل الدعم القوي الذي يحظى به من قبل دول الجوار، خاصة الجزائر ، وكذلك الولايات المتحدة، لكونه أحد المشاركين في المبادة الأمريكية لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء. إذ إن دول الجوار الجغرافي تعارض إقامة حكم ذاتي للطوارق ،وبالتالي يمكن أن تقدم الدعم التسليحي للنظام المخلوع من أجل عودته من جديد.

والأمر نفسه بالنسبة للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا " إيكواس" ، وكذلك الولايات المتحدة . وقد اتضح هذا في الرفض الإفريقي والدولي لهذا الانقلاب والمطالبة بالعودة الفورية له، ومعنى هذا أنه لو تم تقديم هذا الدعم له ، فإن البلاد ستشهد حالة من المواجهات العسكرية  بين الانقلابيين والنظام المخلوع،  ربما يستفيد منها الطوارق في الشمال.

وهكذا، يتضح أن المشهد الراهن في مالي يتسم بحالة من الضبابية، وأن كل الاحتمالات مفتوحة، لاسيما في ظل التداخل بين الانقلاب من ناحية، وأزمة الطوارق من ناحية أخرى، كما أن أزمة الطوارق لا تقتصر على مالي فقط، وإنما تتعداها لدول الجوار. وفي ظل حالة الفوضى هذه، ربما تنشط القاعدة، وهذا ما يفسر أسباب الاهتمام الدولي بما يحدث في مالي، كما يتضح أن الانقلابيين في مأزق كبير، خاصة بعد مطالبة مجلس الأمن لهم بترك الحكم وإجراء الانتخابات في موعدها الشهر المقبل . وربما ما حدث في مالي وهذا التوحد الإفريقي والدولي قد يدفعنا إلى القول إن الانقلابات العسكرية في طريقها للانحسار عن إفريقيا. وربما تشهد القارة ظاهرة جديدة، هي الربيع الإفريقي ذو البعد الشعبي في مواجهة النظم المستبدة، بدلا من الانقلابات العسكرية.

هوامش
[ii]- حول هذه الدراسة، انظر د.حمدي عبد الرحمن حسن ، العسكريون والحكم في إفريقيا..دراسة في طبيعة العلاقات المدنية- العسكرية(القاهرة:مركز دراسات المستقبل الإفريقي، 1996)، ص 7.

[iii]راجع بيان الحركة على موقعها على النت على الرابط التالي

http://arabicmna.mnlamov.net/index.php?option=com_content&view=article&id=159:2012-03-24-10-23-01&catid=36:pl&Itemid=41


رابط دائم: