دبلوماسية التواطؤ:|برتران بادي يناقش هيمنة "الأوليجاركية" على النظام الدولي
30-3-2012

أميرة البربري
* باحثة ماجستير بكلية الإعلام، جامعة القاهرة.

عجزت الحوكمة العالمية الحالية عن إدارة الأزمات الطاحنة التي يمر بها المجتمع الدولي، والسبب في ذلك أن النظام الدولي الحالي يعتمد على مبدأ أساسي في إدارة الشئون الدولية، هو أن"يزداد القوي قوةً ، ويصبح الضعيف أكثر ضعفاً"، وهو ما يطلق عليه "دبلوماسية التواطؤ"، أو بمعنى آخر الإقصاء. ومن هنا، سعت الندوة التي أقامتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بحضور د. برتران بادي، الأستاذ بمعهد الدراسات السياسية بباريس، إلى إلقاء الضوء على الدبلوماسية التي تحكم النظام الدولي حاليا.

الحوكمة والنظام الدولي

بدأ المحاضر كلمته بتوجيه الشكر والامتنان لمصر، باعتبار أنه بالرغم من الزخم الذي تعيشه مصر من أحداث في تلك المرحلة الحرجة، فإنها مثال الشجاعة الفكرية والثقافية والسياسية.وبدا في بداية الجلسة مندهشاً لمصطلح الحوكمة، ورآه مجهداً للغاية، ومثيراً للضحك في آن واحد، متسائلاً: كيف يكون هناك تعبير جديد ومصطلح الحوكمة موجود في الأصل؟. ويتساءل: كيف يمكن أن نحكم النظام الدولي، مع أنه مكون من عدة حكومات؟!، أو بمعنى آخر: كيف يمكن التحول من تعدد الحكومات إلى وحدة التنظيم الدولي؟.

وأشار إلى أن مصطلح الحوكمة طرح مبكراً جداً في الحياة الدولية، ويرفض المحللون هذا المصطلح باعتبار أنه لا يمكن أن تكون هناك حوكمة للحكومة، لأن المدرسة الواقعية تعتقد أن العالم هو مجرد تنافس أو تصادم مستمر للدول، فكيف يمكن أن نفكر فيما وراء ذلك؟! فهناك سيادة للدول، والتخلي عن هذه السيادة معناه التخلي عن مكون أساسي من  مكونات شخصية الدولة. لكن ظهور مصطلح العولمة أدى إلى حدوث تحول، وبدا للدول أن فكرة الترابط أهم من السيادة، وأن مصير كل عنصر من عناصر النظام الدولي مرتبط بالنظام العالمي. ولكن كان من الضروري إيجاد طريقة توفر التوازن الدولي.

مراحل تطور النظام الدولي

رصد برتران بادي المراحل التي مر بها النظام الدولي فيما يلي:

1-.   نظرية السيطرة (الزعيم):ظهرت هذه النظرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وافترضت أن أفضل وسيلة لتنظيم العلاقات الدولية بسيطة للغاية؛ وهو ممارسة السيطرة. فإذا كانت الدول تريد الاستقرار وترفض الفوضى؛ فلابد أن تدافع عن وجودها، وهو ما يطلق عليها بمعنى آخر نظرية (الزعيم)، والتي كانت محط اهتمام العديد من الرؤساء الأمريكيين البراجماتيين، مثل بوش الأب، أو كلينتون، أو أوباما.

2- التعددية: بدأت فكرة التعددية تفرض نفسها منذ عام 1945 لتنظيم العلاقات الدولية بناء على مبادرة الرئيس الأمريكي روزفلت، والتي هدفت إلى جمع كل الدول في منظمة دولية مفتوحة للجميع، تناقش كافة المشكلات الكبرى، خاصة مصادر التوتر في العالم. وقال روزفلت في ذلك إن : "الحصول على تسوية سيئة أفضل من صيغة جيدة ، وسوف نفرض التعددية على العالم باستثنائنا".

وبمرور أعوام التفاوض، خرجت خمس دول (الخمس الكبرى) لها الحق في متابعة الآخرين، مع عدم الخضوع لهم في الوقت نفسه، مما يعني إقصاء الفكرة التي أقيم التنظيم الدولي من أجلها، ودخوله في حالة من الشلل، وهو ما أسس لما يطلق عليه "دبلوماسية التواطؤ".وكان من الممكن إنهاء هذه الازدواجية بعد انهيار سور برلين، لكن الهيمنة الجديدة أطفأت أنوار التعددية.

3.   تنظيم القلة (الأوليجاركية): وهي التي تنظم حلقة العلاقات الدولية التي نعيشها الآن، والمقصود بها أن يكون حكم النظام الدولي في يد قلة قوية، وهو ما أطلق عليه "دبلوماسية أعضاء النادي".وهذه الفكرة قديمة منذ مؤتمر فيينا عام 1815 بعد الحروب الامبراطورية، وهي المرة الأولى في تاريخ الإنسانية التي رأى فيها الأمراء (المنتصرون) النظام الدولي أهم من المنافسة، وأدركوا أن الحرب ليس معناها فقط تصادم المحاربين؛ ولكن تعني أيضاً فقدانهم لعروشهم.

ومثلت المرحلة السابقة مرحلة التشاور، والتي انتهت بظهور الثنائية القطبية، ثم تأسيس مجموعة الخمس الكبرى، والتي أقصت ما دونها من خلال حق الفيتو. ثم طفا عدم الاستقرار على السطح من جديد مع بداية الثمانينيات، وتكوين مجموعة السبع الكبرى للاقتصاد السياسي، والتي تزعمت النظام الدولي، ووصلت إلى مستوى الحوكمة العالمية، والتي شكلت بداية انهيار الازدواجية القطبية. ودعيت روسيا للانضمام في لعبة السبع الكبرى، ولكنها كانت مدعوة فقط للحلوى، وليس للمائدة، على حد وصف بادي.

ويرى المحاضر أن هذه الدبلوماسية (النادي) أدت إلى ظهور دبلوماسيات أخرى طموح في - المقابل- لقوى بازغة، أهمها البرازيل وتركيا، تعتمد على أنها دول قوية في مناطق تشهد ارتباكاً.

مستقبل النظام الدولي

ويرى برتران بادي أن قصة دبلوماسية التواطؤ بدأت في الانتهاء بحلول عام 2008 والذي مثل ضعف الوجود الأمريكي على الساحة الدولية – بصعود باراك أوباما الذي وصف بأنه نصف رئيس للولايات المتحدة - وصعود دبلوماسيات تزعمت التنظيم الدولي، ومنها فرنسا، التي وصفها بالدبلوماسية الرائعة، خاصة في قيادة التنظيم الدولي فيما يتعلق بالأزمة المالية العالمية.

ومن خلال ما سبق، يمكن أن نخلص إلى أن الأساس في دبلوماسية النادي أو التواطؤ أو القلة يقوم على الإبقاء على الحد الأدنى من التوافق في الرأي بين أعضاء النادي لوضع نظام للحكم يجنب أعضاء هذا النادي الخضوع للقرارات القصرية التي تفرض على ما دونهم من دول تخضع لهذا التنظيم. فيمكن التغاضي عما يحدث في التبت، والعراق، وأفغانستان، وما تفعله إسرائيل من امتلاك السلاح النووي؛ لكن لا يمكن التغاضي مثلاً عما يحدث في إيران.

ويختتم برتران كلمته بأن دبلوماسية التواطؤ هي آلية الغفران لكل من تعرف هويته وآلية العقاب والإدانة الشديدة للصغار. ويقول :"احذروا فإن دبلوماسية التواطؤ يمكن أن تقودنا إلى كارثة، ونحن مغمضو العينين". فالدبلوماسية لابد أن تترك للدبلوماسيين، والحكم الرشيد ينبغي أن يرتكز على مبادئ، وليس كيانات، ولابد أن نفهم أننا في عصر العولمة لا توجد أي دولة – حتى لو كانت الولايات المتحدة – قادرة على تنظيم العلاقات الدولية إلا بمشاركة الجميع. وإن لم نفهم هذا، فمعناه الرجوع إلى الوراء.


رابط دائم: