الذكاء الاصطناعى إذ يعيد تعريف الفاعل فى العلاقات الدولية
23-9-2025

د. خالد وليد محمود
* باحث متخصص في السياسة السيبرانية

لم يعد النقاش حول الذكاء الاصطناعى محصورًا فى قدرته التقنية أو تطبيقاته الاقتصادية، بل امتد ليشمل موقعه فى بنية النظام الدولى ذاته. ففى اللحظة التى تُصاغ فيها استراتيجيات الأمن القومى، وتُبنى التحالفات العسكرية، وتُدار الحملات الانتخابية، يبرز الذكاء الاصطناعى بوصفه قوة خفية تعيد رسم معادلات النفوذ والهيمنة. لقد تحوّل من مجرد أداة مساعدة إلى عنصر يفرض نفسه فى صميم صناعة القرار، ويجبر الباحثين وصناع السياسات على التعامل معه باعتباره أكثر من "وسيلة"، وربما كفاعل ناشئ له منطقه الخاص فى العلاقات الدولية. هذه النقلة تطرح سؤالًا إشكاليًا: هل لا تزال الفواعل فى النظام الدولى حكرًا على الدول والمنظمات، أم إن الخوارزميات والأنظمة الذكية بدأت تكتسب ملامح الفاعلية السياسية؟

النظريات التقليدية فى العلاقات الدولية، وعلى رأسها الواقعية والليبرالية، انطلقت من مسلّمة أن الفاعل هو الدولة ذات السيادة أو التنظيمات المؤسسية العابرة للحدود. لكن التحولات الرقمية المتسارعة كشفت عن قصور هذا التصور، إذ ظهرت أنظمة غير بشرية تمتلك القدرة على اتخاذ قرارات معقدة فى الزمن الحقيقي، بل على التأثير فى سلوك جماعى واسع النطاق. هنا وفرت المقاربات ما بعد البنائية ونظرية الشبكات الفاعلة(Actor-Network Theory) أفقًا جديدًا، حيث لم يعد الفعل السياسى حكرًا على الكيانات البشرية، بل يمكن أن تشارك فيه كيانات تقنية ورقمية، بما فيها الذكاء الاصطناعي، الذى بات يشكل عقدة مركزية فى شبكات السلطة العالمية.

تقرير مؤسسةRAND، إلى جانب دراسات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية(CSIS)، أظهرا بوضوح أن الذكاء الاصطناعى أصبح عنصرًا لا غنى عنه فى التنبؤ العسكرى ورسم السيناريوهات الدفاعية. فعلى سبيل المثال باتت الجيوش تعتمد عليه فى تشغيل الطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الجوى المستقلة، وفى مراقبة الفضاء السيبرانى بحثًا عن التهديدات العابرة للحدود. مثل هذه التطبيقات لا يمكن اعتبارها مجرد تحسينات تقنية، بل هى انتقال نوعى جعل الخوارزميات جزءًا من معادلات الردع والتوازن الاستراتيجي، بحيث أصبح "الذكاء الاصطناعي" نفسه يدخل ضمن حسابات السيادة الوطنية والهيمنة الدولية.

يمكن تمييز ثلاث سمات رئيسية تمنح الذكاء الاصطناعى درجة من الفاعلية. أولها قدرته على التنبؤ والتأثير، عبر تحليل كمّيات هائلة من البيانات الاقتصادية، والسياسية، والأمنية بسرعة تتجاوز القدرات البشرية. ثانيها استقلاليته النسبية، حيث تتمكّن بعض الأنظمة المعتمدة على التعلّم العميق من اتخاذ قرارات تكتيكية دون تدخل مباشر من الإنسان، وهو ما يفتح الباب أمام تصرفات غير متوقعة تتجاوز سيطرة الجهة المشغّلة أحيانًا. أما السمة الثالثة فتتمثل فى تأثيره فى السلوك الجماعي، إذ باتت خوارزميات الإعلام الرقمى تشكل آراء الجماهير وتؤثر فى الحملات الانتخابية والاحتجاجات، وتعيد صياغة فضاء الرأى العام بما ينعكس على القرارات السياسية على مستوى الدول.

مع ذلك لا يعنى هذا أن الذكاء الاصطناعى قد أصبح فاعلًا مكتمل الأركان. فثمة حدود واضحة لفاعليته ينبغى التوقف عندها. فهو لا يزال يعتمد على البنية التحتية البشرية فى تصميمه، وصيانته، وتمويله. كما أنه يفتقر إلى الإرادة الذاتية أو المصلحة المستقلة؛ فهو لا يملك مشروعًا سياسيًا أو استراتيجيًا خاصًا به خارج إرادة مستخدميه، مهما بلغت درجة تعقيده. أضف إلى ذلك أن الإطار القانونى والسياسى العالمى لا يزال يتعامل معه كأداة، وليس ككيان يمكن أن يُسند إليه مسئولية قانونية أو سياسية، وهو ما يجعل الحديث عن "فاعلية مطلقة" أمرًا سابقًا لأوانه.

لكن، رغم هذه الحدود، فإن إدماج الذكاء الاصطناعى فى بنية العلاقات الدولية يحمل تداعيات بعيدة المدى على المفاهيم الكلاسيكية للسيادة، والردع، والشرعية. فالسيادة لم تعد مقتصرة على السيطرة على الأرض والموارد، بل أصبح امتلاك الخوارزميات وتطويرها جزءًا من معايير القوة الوطنية. والردع لم يعد يقتصر على الأسلحة النووية أو التقليدية، بل دخلت فى معادلته سباقات التسلح فى مجال الذكاء الاصطناعي، حيث يشبه المشهد الراهن إلى حد كبير بدايات القرن العشرين مع سباق التسلح النووى. أما الشرعية فهى تواجه مأزقًا جديدًا: فإذا اعتمدت الحكومات أو المنظمات الدولية على أنظمة ذكاء اصطناعى لاتخاذ قرارات مصيرية، مثل شن هجوم استباقى أو فرض عقوبات اقتصادية، فمن سيكون المسئول إذا اتضح لاحقًا أن القرار كان خاطئًا أو كارثيًا؟ الدولة التى استخدمت الخوارزمية أم النظام نفسه؟ هذا السؤال يفتح الباب أمام تحديات قانونية وأخلاقية غير مسبوقة.

إن التعامل مع الذكاء الاصطناعى كفاعل ناشئ لا يعنى المبالغة فى قدراته أو نسب إرادة مستقلة إليه، بقدر ما يعنى الاعتراف بقدرته على إعادة تشكيل بيئة العلاقات الدولية بطرق لم تعد الأدوات النظرية التقليدية قادرة على تفسيرها. فالمشهد الرقمى اليوم أصبح ميدانًا لصراعات الهيمنة، حيث تتنافس الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبى على السيطرة على براءات الاختراع، والبنى التحتية السحابية، ومراكز البيانات. فى الوقت ذاته برزت دول صغيرة، مثل إستونيا وسنغافورة باعتبارها مختبرات رائدة فى دمج الذكاء الاصطناعى بالحوكمة الرقمية، وهو ما يمنحها وزنًا دوليًا يتجاوز حجمها الديمغرافى أو العسكرى. هذا التحول يوضح كيف يمكن للتكنولوجيا أن تعيد ترتيب الهرم الدولى من أسفله، وأن تمنح فاعلين غير تقليديين مكانة جديدة فى النظام العالمى.

وفى ظل هذا المشهد تظهر الحاجة إلى إعادة صياغة النظرية السياسية والقانونية. فالمقاربات الواقعية التى تنظر إلى القوة باعتبارها عسكرية ومادية لم تعد كافية، والمقاربات الليبرالية التى تركز على المؤسسات الدولية تتجاهل الطابع اللامركزى للخوارزميات. وحدها النظريات المرنة –مثل ما بعد البنائية أو نظرية الشبكات– قادرة على إدماج هذا الفاعل الجديد فى تحليل السلطة. فالعلاقات الدولية اليوم لم تعد تُفهم من خلال الدول وحدها، بل من خلال التفاعل بين البشر والأنظمة الرقمية فى شبكة متداخلة من القرارات، والمعلومات، والتأثيرات.

يحمل المستقبل إمكانات متناقضة. فمن جهة قد يفتح الذكاء الاصطناعى آفاقًا لتعزيز السلم والأمن عبر تحسين القدرة على التنبؤ بالأزمات ومنع اندلاع الحروب قبل وقوعها. ومن جهة أخرى قد يقود إلى سباق تسلح جديد يزيد من احتمالات الصراع، خصوصًا إذا تحوّلت الأنظمة الذكية إلى أدوات للهيمنة غير المقيدة أو للاستخدامات العدوانية. ومما يضاعف خطورة السيناريوهات هو أن وتيرة التطور أسرع بكثير من قدرة المشرّعين والمنظمات الدولية على مواكبتها، مما يخلق فجوة خطيرة بين ما هو ممكن تقنيًا وما هو ممكن سياسيًا وقانونيًا.

وعليه فإن؛ إدخال الذكاء الاصطناعى فى تحليل العلاقات الدولية لا يعنى فقط إضافة بعد جديد إلى أدوات البحث، بل هو دعوة إلى إعادة التفكير فى المسلمات الأساسية حول طبيعة الفاعلين، وحدود السيادة، ومصادر الشرعية. فالذكاء الاصطناعى ليس مجرد تقنية أخرى، بل هو تجسيد لتحول أعمق فى كيفية تصورنا للسلطة والنفوذ والتأثير فى عصر ما بعد الحداثة الرقمية. ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى تطوير إطار نظرى وقانونى يضع الذكاء الاصطناعى فى موقعه الصحيح: ليس كأداة فقط، ولا كفاعل مكتمل السيادة، بل كفاعل ناشئ يعيد ترتيب قواعد اللعبة الدولية ويجبرنا على إعادة التفكير فى ملامح النظام العالمى المقبل.


رابط دائم: