كلمة الرئيس السيسي في القمة العربية-الإسلامية بالدوحة: قراءة تحليلية في الثوابت المصرية ورسائل الخطاب المتعدد المستويات
21-9-2025

أحمد ناجي قمحة
* رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية

في علم العلاقات الدولية، حيث تتقاطع السلطة مع الرموز واللغة، يُعد الخطاب السياسي أكثر من مجرد كلمات؛ إنه بنية تفاعلية تشكل الواقع الدبلوماسي وتعكس الثوابت الاستراتيجية للدول. يعتمد تحليل الخطاب السياسي، كإطار نظري، على مقاربات متعددة تربط بين اللغة، السلطة، والسياق الاجتماعي-السياسي، بما يجعله أداة حاسمة لفهم كيفية صياغة الرسائل المتعددة المستويات في السياسة الخارجية. في سياق القمة العربية-الإسلامية بالدوحة، يبرز خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي كنموذج حي لتطبيق هذه الأطر، حيث يجسد توازنًا بين الثوابت المصرية التاريخية والتكيف مع التحديات الراهنة، مثل أزمة غزة بعد 7 أكتوبر 2023.

من أبرز الإطارات النظرية المعتمدة في تحليل الخطاب السياسي هو التحليل النقدي للخطاب (Critical Discourse Analysis - CDA)، الذي طوره نورمان فيركلوج (Norman Fairclough) في تسعينيات القرن الماضي، ويرى في الخطاب عملية إنتاج وتوزيع السلطة من خلال النصوص الاجتماعية. يقسم فيركلوج التحليل إلى ثلاثة مستويات مترابطة: الوصف (تحليل النص اللغوي)، التفسير (العلاقة بين النص والسياق التفاعلي)، والتفسير النقدي (العلاقة بالسياق الاجتماعي الأوسع). في خطاب الرئيس السيسي، يتجلى هذا الإطار في الرسائل المتعددة المستويات، حيث يُستخدم اللغة لتأكيد الثوابت المصرية (مثل دعم الدولة الفلسطينية وحل الدولتين) كعناصر وصفية، بينما يُفسر التوجه إلى الشعب الإسرائيلي كدعوة تفاعلية للتعقل، وينقد العجز الدولي كجزء من سياق اجتماعي يعكس ازدواجية المعايير في النظام الدولي.

تتكامل هذه المقاربة مع المنهج ما بعد البنيوي (Post-structuralism) في تحليل الخطاب، كما يبرزه ميشيل فوكو في أعماله حول الخطاب والسلطة، حيث يُعتبر الخطاب ليس مجرد تعبير عن الواقع، بل أداة لإنتاجه من خلال الصراع حول المعاني. في هذا الإطار، يصبح خطاب السيسي صراعًا حول معنى “الأمن” و”السلام”، حيث يُعاد صياغة السردية الإسرائيلية الرسمية (حرب وجود) لتصبح دعوة أخلاقية للشعب الإسرائيلي، مما يعكس كيفية استخدام الخطاب لتحويل الخصومة إلى حوار محتمل. كما يرتبط هذا بالاقتصاد السياسي الثقافي، الذي يرى في الخطاب آلية لتوزيع الموارد الرمزية والمادية، مثل الدعوة للتنسيق مع قطر أو الضغط على الولايات المتحدة، لتعزيز الثوابت المصرية دون التنازل عن المرونة التكتيكية.

بالإضافة إلى ذلك، يُثري المنهج التداولي (Pragmatic Approach)، كما في أعمال ستيفن ليفنسن (Stephen Levinson) وديبوراه تينين (Deborah Tannen)، فهم الخطاب كعملية تفاعلية تعتمد على السياقات الاجتماعية والثقافية. هنا، تُحلل الرسائل المتعددة في خطاب السيسي كـ”أفعال كلامية” (speech acts)وليست أقوال فقط، حيث تكون الإشادة بدور قطر “فعلًا تعاونيًا” يبني التحالفات، بينما النقد للأمم المتحدة “فعلًا توجيهيًا” يهدف إلى إصلاح النظام الدولي. هذا المنهج يبرز كيف يحقق الخطاب توازنًا بين الثوابت (الدفاع عن فلسطين كقيمة أخلاقية) والتكيف (المرونة في الوساطة)، مما يعكس السياسة الخارجية المصرية كمزيج من الواقعية (الحفاظ على الأمن القومي) والبنائية (إعادة بناء الهويات العربية).

لذا، يُعد خطاب السيسي في الدوحة تطبيقًا عمليًا لهذه الأطر النظرية، حيث يُحول الخطاب من أداة بلاغية إلى استراتيجية دبلوماسية متعددة الأبعاد، تربط بين الداخل المصري والعالمي. من خلال هذا التحليل، نكشف ليس فقط رسائل الخطاب، بل كيفية تعزيزه لدور مصر كقائد إقليمي في المعاناة الفلسطينية المستمرة. فالأحداث التي تلت 7 أكتوبر 2023 وضعت الإقليم والعالم أمام اختبار غير مسبوق، إذ شهدت فلسطين تصعيدًا عسكريًا واسعًا، ترافق مع معاناة إنسانية كارثية في قطاع غزة، وتوترات سياسية شديدة التعقيد ألقت بظلالها على العلاقات العربية-الإسرائيلية، والعربية-الدولية، في ظل العجز الدولي وإزدواجية المعايير المتبعة إزاء القضية الفلسطينية.

في هذا السياق، يُمكننا القول بأن الرئيس السيسي قد قدم خطابًا يتجاوز حدود المجاملات الدبلوماسية أو البيانات التقليدية، ليحمل رسائل مركبة وموحّدة في آن واحد، موجهة إلى سبعة أطراف رئيسية: الشعب المصري، الشعب الإسرائيلي، دولة قطر، الحكام العرب، الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، ودول العالم المحبة للسلام. هذه الرسائل لم تكن منعزلة، بل جاءت منسجمة مع ثوابت السياسة الخارجية المصرية تجاه القضية الفلسطينية، ومع تطورات ما بعد 7 أكتوبر، حيث صاغت مصر مقاربة جديدة لسردية مصرية وطنية تجمع بين الحسم السياسي والإنساني، والتمسك بالمبادئ مع المرونة في التكتيك.

لعل هذه القمة، التي استضافتها دولة قطر الشقيقة، لم تكن مجرد لقاء دبلوماسي روتيني، بل كانت استجابة فورية لعدوان إسرائيلي آثم على الأجواء والأراضي القطرية، يُعد انتهاكًا صارخًا للسيادة الوطنية وتهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي والإسلامي. وهو ما ينسجم مع السياق الأوسع للسردية الوطنية المصرية للأحداث التي تلت 7 أكتوبر 2023، حيث أشعلت عملية “طوفان الأقصى” شرارة حرب غزة الدامية، التي أودت بحياة عشرات الآلاف، وأحدثت معاناة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة.

في هذا الظرف الاستثنائي والمعقد، حيث يتداخل التهديد العسكري بالضغوط السياسية، والمعاناة الإنسانية بالتحديات الاستراتيجية، قدم الرئيس السيسي خطابًا يتجاوز حدود المجاملات الدبلوماسية أو البيانات التقليدية. ولكي نفهم عمق هذا الخطاب، يجب أن نعود قليلاً إلى السياق التاريخي. فمنذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، التي أنهت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، اعتمدت القاهرة على سياسة خارجية ترتكز على ثلاثة أعمدة رئيسية: السلام العادل، الأمن القومي، والدور القيادي في الشؤون العربية. ونتيجة لتداعيات الأحداث بعد 7 أكتوبر، شهدت مصر تصعيدًا في دورها الوساطي، حيث ساهمت مع قطر والولايات المتحدة في مفاوضات وقف إطلاق النار، وفتح ممرات الإغاثة، وإطلاق سراح الأسرى. ومع ذلك، أدى العدوان الإسرائيلي الأخير على قطر إلى إعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية، مما جعل قمة الدوحة لحظة حاسمة لإعادة تأكيد الوحدة العربية-الإسلامية.

في هذا الإطار، يبرز الخطاب كوثيقة سياسية حية، تعكس القدرة المصرية على التوفيق بين الضرورات الداخلية والإقليمية. إنه ليس مجرد رد فعل على الأحداث، بل استراتيجية مدروسة لإعادة رسم الخطوط، وتعزيز الموقف المصري كحجر زاوية في أي حل مستقبلي. ومن خلال تحليلنا، سنستعرض كل رسالة على حدة، مع الاستناد إلى اقتباسات مباشرة من الخطاب، ومقارنتها بالسياق التاريخي، لنكشف كيف يجسد هذا الخطاب التوازن الدقيق بين الثوابت والتكيف مع الواقع المتغير.

 

أولًا: الرسالة إلى الشعب المصري.. تثبيت الثقة وتعزيز الشرعية الوطنية

كان واضحًا منذ السطور الأولى للخطاب أن الرئيس السيسي لم يغفل مخاطبة الداخل المصري، إذ استحضر الدور التاريخي لمصر كحاضنة للقضية الفلسطينية وكشريك أساسي في كل معارك العرب. قال الرئيس صراحة: “مصر، بتاريخها الطويل في الدفاع عن الحقوق العربية، لن تتخلى عن إخوانها في فلسطين، لكنها ستحافظ على أمنها القومي كخط أحمر”. هذه الرسالة جاءت لتأكيد أمرين أساسيين:

1. رفض الانجرار إلى صراعات عسكرية مباشرة: في ظل الضغوط الشعبية المتزايدة داخل مصر، خاصة بعد مشاهد الدمار في غزة،حيث  أكد الرئيس أن مصر لن تنجر إلى صدام عسكري مباشر مع إسرائيل، الذي قد يهدد حدودها الشرقية ويفتح جبهة جديدة في سيناء. هذا الموقف يعكس دروس التاريخ، حيث خسرت مصر حروبًا سابقة باهظة الثمن، وانتقلت إلى الدبلوماسية كأداة أكثر فعالية. ومع ذلك، أضاف الرئيس: “التزامنا الأخلاقي تجاه فلسطين مقدس، وسنستمر في دعم الإغاثة والوساطة دون تردد”.

2. التحرك وفق ثوابت استراتيجية لا انفعالات عاطفية: أمام حملات إعلامية داخلية وخارجية تحاول التشكيك في موقف مصر، مثل تلك التي تتهمها بالتواطؤ مع إسرائيل، شدد السيسي على أن الدولة تتحرك بناءً على حسابات استراتيجية، لا ردود فعل عاطفية. هذا يذكرنا بخطابات سابقة، مثل كلمته في قمة الرياض 2023، حيث حذر من “الانجراف نحو الفوضى”. تحليل هذه النقطة يكشف أن الرئيس أراد طمأنة الداخل، خاصة الشباب والقوى الشعبية التي تتابع الأحداث عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في استطلاع رأي أجراه مركز “بي بي سي” في يناير 2024، أعرب 68% من المصريين عن قلقهم من تصعيد الحدودي، مما يجعل هذه الرسالة ضرورية لتعزيز الثقة في القيادة. الخطاب هنا عزّز شرعية النظام السياسي داخليًا، بإظهاره كمدافع عن الأمن القومي وفي الوقت نفسه نصيرًا للقضية المركزية للعرب.

لنوسع النظر، يمكن رؤية هذه الرسالة كجزء من استراتيجية أوسع لإدارة الرأي العام، فمنذ تولي الرئيس السيسي السلطة عام 2014، اعتمد في خطاباته على الربط بين تحقيق الاستقرار الداخلي وبين قوة الموقف في القضايا الخارجية، كما في حملة “حياة كريمة” التي ربطت التنمية بالأمن. في قمة الدوحة، أضاف السيسي لمسة إنسانية بذكر “معاناة الشعب الفلسطيني الشقيق”، مما يعزز الشعور بالانتماء العروبي دون إثارة الغضب غير المنضبط. هذا التوازن يمنع الاضطرابات الداخلية، ويحافظ على الشرعية الشعبية للنظام، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية المستمرة الناجمة عن الأزمات الإقليمية والدولية.

هكذا، يصبح الخطاب أداة لتعزيز التماسك الاجتماعي، وتثبيت مصر كقوة مسؤولة في الإقليم.

ثانيًا: الرسالة إلى الشعب الإسرائيلي.. بين التحذير والدعوة للتعقل

في سابقة لافتة وجريئة، خاطب الرئيس السيسي المجتمع الإسرائيلي مباشرة، لا حكومته التي وصفها للمرة الأولى بالعدو، موجهًا رسالة مفادها أن “الأمن الحقيقي لا يُبنى على الدماء والدمار، وأن استمرار السياسات الحالية يهدد استقرار إسرائيل نفسها”. قال الرئيس: “نحن نتحدث إلى الشعب الإسرائيلي كشعب يريد السلام، لا إلى حكومة تتاجر بالأرواح”. هذا الخطاب ينطوي على ثلاث دلالات عميقة:

1.   التفريق بين الشعوب والحكومات:في محاولة لكسر السردية الرسمية الإسرائيلية، التي تصوّر الصراع على أنه حرب وجودية ضد “الإرهاب”، ميّز السيسي بين الشعب الإسرائيلي والقيادة المتطرفة بقيادة نتنياهو. هذا التفريق ليس جديدًا في الدبلوماسية المصرية، لكنه جاء هنا بقوة أكبر، مستلهمًا من خطاب أنور السادات أمام الكنيست عام 1977، الذي دعا حينها الإسرائيليين إلى “السلام مع الشعوب لا مع الحكومات”.

2.    وضع الشعب الإسرائيلي أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية:دعا السيسي الإسرائيليين إلى الضغط على حكومتهم بهدف وقف العمليات العسكرية، مشيرًا إلى أن “الصمت على الجرائم يجعلكم شركاء فيها”. هذا يعكس فهمًا للديناميكيات الداخلية الإسرائيلية، حيث أظهرت استطلاعات “هآرتس” في أغسطس 2025 انخفاض دعم نتنياهو إلى 32% بسبب الحرب.

3.   ثبات الموقف المصري على السلام العادل:أكد الرئيس أن “السلام الشامل والعادل هو الضمانة الوحيدة للاستقرار”، مرجعًا ذلك إلى حل الدولتين كإطار دولي معترف به.

من الناحية التحليلية، يمكن القول إن الرئيس السيسي استثمر اللحظة لتوسيع دوائر الحوار، وتوجيه رسالة ضمنية للعالم بأن مصر لا ترى الإسرائيليين كخصوم مطلقين، وإنما كطرف يمكن مخاطبته عقلانيًا. لعل ذلك ينسجم مع اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية، ومع تاريخ مصر الدبلوماسي منذ كامب ديفيد، حيث أدخلت مصر “السلام البارد” كأساس للتعاون الأمني.

كما نلاحظ أن هذه الرسالة تأتي في وقت يشهد فيه المجتمع الإسرائيلي انقسامات داخلية، مع احتجاجات “أخوات الأسرى” و”النساء المتشحات بالسواد” ضد الحكومة. الرئيس السيسي، بتجربته العسكرية، يفهم أن الشعوب تتغير قبل الحكومات، ويستخدم الخطاب لزرع بذور الشك في السردية الرسمية لحكومة اليمين المتطرف. كما أنها رسالة مبطنة للولايات المتحدة، التي تدعم إسرائيل، لتشجيع الضغط الداخلي.

في سياق أوسع، يضاف لهذا النهج ما يعرف بسياسة “السلام الاقتصادي” التي سعت إليها مصر منذ التسعينيات، حيث ربطت التعاون الاقتصادي بالسلام السياسي. اليوم، مع تزايد حجم التجارة بين البلدين إلى 500 مليون دولار سنويًا، يصبح الخطاب أداة للحفاظ على الروابط دون التخلي عن المبادئ. هكذا، يصبح التحذير ليس تهديدًا، بل دعوة للتعقل المشترك.

ثالثًا: الرسالة إلى دولة قطر.. من التنافس إلى التنسيق

وجود القمة في الدوحة منح خطاب السيسي دلالة خاصة، إذ مرت العلاقات المصرية-القطرية بتوترات حادة بعد 2013 نتيجة لما قدمته الدوحة من دعم لقيادات تنظيم الإخوان وبث مواد إعلامية معادية للدولة المصري والنظام الحاكم، حيث ردت القاهرة بمقاطعة الدوحة من قبل الرباعي العربي. لكنها شهدت تحسنًا تدريجيًا منذ 2021 في ظل سياسة الصبر الاستراتيجي التي تنتهجها الدولة المصرية مع إعمال المبادئ الأخلاقية للعلاقات الدولية، وهو ما انعكس في التنسيق عالي المستوى الذي حدث بين البلدين في إدارة ملف الحرب الأخيرة على غزة. من هنا، فإن توجيه الرئيس السيسي رسالة مباشرة لقطر لم يكن مجاملة، بل إشارة إلى أن القاهرة ترى في الدوحة لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاوزه. قال الرئيس: “ننقل تضامن مصر الكامل مع قطر في مواجهة العدوان الإسرائيلي على أراضيها، ونؤكد أن التنسيق بيننا هو مفتاح النجاح في الوساطة”.

الرسالة حملت أبعادًا مزدوجة:

1.   إيجابية.. إشادة بدور الوساطة القطرية:حيث أشاد الرئيس السيسي بدور قطر في ملفات الوساطة والأسرى والإغاثة، مشيرًا إلى أن “جهود الدوحة المشتركة مع مصر أنقذت آلاف الأرواح”. لعله هنا يقر بنجاحات مثل صفقة نوفمبر 2023، التي أطلقت 105 أسرى.

2.   استراتيجية.. دعوة للعمل المشترك ضمن مظلة عربية:حيث دعا إلى “التنسيق العربي الجماعي بعيدًا عن الانفراد”، محذرًا من توظيف الأزمة لمكاسب سياسية. وهو هنا يعكس رفض مصر لمحاولة أي طرف إقليمي الانفراد بالملف الفلسطيني، كما حدث في السنوات السابقة.

بهذا، فتح السيسي بابًا لتوازن دقيق، الاعتراف بالدور القطري مع التأكيد على التنسيق، وهو ما يعكس ثوابت مصر في بناء الوحدة العربية. تحليليًا، يمكن رؤية هذا كانعكاس لتحول المنطقة نحو “الدبلوماسية المتعددة الأطراف”، حيث أصبحت قطر شريكًا في “الوساطة الثلاثية” مع مصر والولايات المتحدة. هنا، نلاحظ أن هذه الرسالة تأتي بعد زيارات متبادلة، مثل زيارة أمير قطر للقاهرة في 2024، التي أدت إلى اتفاقيات اقتصادية بقيمة 10 مليارات دولار. يستخدم الرئيس السيسي هذا الخطاب لتعزيز هذا التحالف، محولاً التنافس السابق إلى شراكة استراتيجية ضد التهديد الإسرائيلي المشترك. كما أنها رسالة للخليج، لتشجيع الاستثمار في الوساطة العربية الموحدة، بعيدًا عن التدخلات الخارجية. اليوم، مع العدوان على الدوحة، يصبح التنسيق ضرورة أمنية، ويرسخ دور مصر كوسيط رئيسي مشاركة مع قطر.

رابعًا: الرسالة إلى الحكام العرب.. اختبار الوحدة والالتزام

من أبرز محاور الخطاب كانت دعوة السيسي الصريحة للقادة العرب إلى “ترجمة الأقوال إلى أفعال”، قائلًا: “البيانات التضامنية لا تكفي؛ نحتاج إلى تحرك سياسي واقتصادي وإعلامي متكامل للضغط من أجل وقف الحرب وفتح الممرات”. هذه الرسالة تنطوي على نقد ضمني لحالة التشرذم العربي، لكنها تقدم خريطة طريق للوحدة.

تحليل هذه النقطة يوضح أن مصر أرادت:

1.   تثبيت مكانتها كقائد طبيعي:يعيد الرئيس السيسي تعريف المكانة المصرية كمحور للنظام العربي، مذكرًا بالدور المصري التاريخي، وما قدمته مصر وما زالت للقضية الفلسطينية.

2.   تحميل الجميع المسؤولية المشتركة:“لا يُترَك العبء على القاهرة وحدها”، محفزًا دول الخليج على الدعم المالي، والمغرب والجزائر على الدعم الدبلوماسي.

3.   إعادة تعريف التضامن:كالتزام عملي، مثل اقتراح صندوق عربي لإعادة إعمار غزة بـ50 مليار دولار.

هذه الدعوة للتحرك العملي تأتي بعد فشل قمم سابقة، مثل قمة جدة 2023، حيث لم تُترجم الوعود إلى أفعال. السيسي يستلهم من “ميثاق جامعة الدول العربية” ليبني تحالفًا عمليًا، مع التركيز على الضغط على الأمم المتحدة. هذا يعزز دور مصر كـ “قائد للتحركات العربية”، ويمنع تكرار الانقسامات مثل تلك التي حدثت في بعض الملفات الخلافية.

خامسًا: الرسالة إلى الأمم المتحدة.. كشف العجز الدولي

في خطابه، وجّه الرئيس السيسي نقدًا مباشرًا لآليات الأمم المتحدة، معتبرًا أن عجز مجلس الأمن عن إصدار قرار ملزم لوقف إطلاق النار يكشف أزمة الشرعية الدولية. لكنه لم يكتف بالنقد، بل دعا إلى إصلاح هذه المنظومة لتكون أكثر عدلًا وفاعلية، خاصة مع إزدواجية المعايير التي يتم التعامل بها مع القضية الفلسطينية مقارنة بالأزمات الدولية الأخرى.

هذه الرسالة ليست جديدة في السياسة المصرية، لكنها جاءت هذه المرة بصياغة أكثر حدة، تعكس حجم الإحباط من ازدواجية المعايير.

تحليلًا، يمكن القول إن الرئيس السيسي أراد أن يضع الأمم المتحدة أمام اختبار وجودي: إما أن تقوم بدورها، أو تفقد ما تبقى من مصداقيتها. وهذه رؤية تنسجم مع الموقف المصري التقليدي منذ الخمسينيات، الداعي إلى إصلاح النظام الدولي بما يحقق التوازن بين الشمال والجنوب.

سادسًا: الرسالة إلى الولايات المتحدة.. التحول إلى شريك ضاغط

من أكثر الرسائل دقة تلك التي وجّهها السيسي إلى الولايات المتحدة. فقد حمّلها مسؤولية خاصة بحكم كونها الحليف الأول لإسرائيل، وطالبها باستخدام نفوذها لوقف العمليات العسكرية.

هذه الرسالة تنطوي على معادلة دقيقة؛ من جهة، اعتراف بالدور الأمريكي المحوري، ومن جهة أخرى، كشف لحدود هذا الدور إذا ما استمر في الانحياز المطلق لإسرائيل.

مصر، هنا تتبنى مقاربة “الضغط الناعم”، فهي لا تقطع خطوط الاتصال مع واشنطن، لكنها في الوقت ذاته تُظهر للرأي العام الدولي أن المشكلة الأساسية تكمن في الموقف الأمريكي.

سابعًا: الرسالة إلى دول العالم المحبة للسلام.. بناء تحالف إنساني عالمي

أحد أكثر جوانب الخطاب تميزًا هو توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي الأوسع، بما فيه الدول الإفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية وأوروبا التي لا تنخرط مباشرة في الصراع. دعوة السيسي لهذه الدول للعمل معًا من أجل وقف الحرب جاءت لتوسيع قاعدة التحالفات، ونقل القضية من كونها نزاعًا عربيًا-إسرائيليًا إلى قضية إنسانية وأخلاقية عالمية.

هذا التوجه يعكس إدراك مصر أن النظام الدولي يشهد تحولات كبرى، وأن بناء تحالفات جنوب-جنوب، أو مع قوى متوسطة، قد يكون أكثر جدوى من انتظار الموقف الغربي التقليدي.

ثامنًا: ثوابت السياسة المصرية تجاه فلسطين.. من المبادئ إلى التطبيق

جميع هذه الرسائل لم تأتِ بمعزل عن الثوابت المصرية، التي يمكن تلخيصها في:

1. دعم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

2. رفض التهجير القسري للفلسطينيين تحت أي ذريعة.

3. التمسك بحل الدولتين باعتباره الإطار الوحيد المقبول.

4. ضمان أمن مصر القومي بعدم السماح بتحويل غزة إلى ساحة للفوضى أو إلى عبء إنساني على سيناء.

بعد 7 أكتوبر 2023، اكتسبت هذه الثوابت بعدًا جديدًا؛ فهي لم تعد شعارات عامة، بل أدوات عملية لإدارة أزمة متفجرة. الخطاب في الدوحة كان تجسيدًا لهذه النقلة النوعية، حيث قدّم السيسي موقفًا صلبًا، يجمع بين الدفاع عن المبادئ وحماية المصالح الوطنية.

يمكن القول إن كلمة الرئيس السيسي في القمة بالدوحة شكّلت وثيقة سياسية تعكس بوضوح موقع مصر في المعادلة الراهنة. فهي دولة تحرص على أمنها القومي، لكنها لا تتخلى عن دورها التاريخي في الدفاع عن فلسطين. وهي تسعى إلى بناء توافق عربي وإقليمي، لكنها في الوقت ذاته لا تتردد في توجيه النقد للمنظومة الدولية وللقوى الكبرى.

الخطاب قدّم رسائل متوازنة؛ طمأنة الداخل، دعوة للعقلانية لدى الإسرائيليين، تنسيق مع قطر، تحفيز للعرب، نقد للأمم المتحدة، مطالبة للولايات المتحدة، واستنهاض لدول العالم. كل ذلك يرسّخ حقيقة واحدة، أن مصر، بثوابتها ومكانتها، لا تزال حجر الزاوية في أي حل عادل ودائم وشامل للقضية الفلسطينية، وأن صوتها في مثل هذه اللحظات التاريخية يبقى مرجعًا لا يمكن تجاهله.

في ختام هذه القراءة التحليلية لكلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في القمة العربية-الإسلامية بالدوحة، يتجلى بوضوح تحقق الإطار النظري المقدم في البداية، حيث يتحول الخطاب السياسي من مجرد نص بلاغي إلى آلية حية لإنتاج السلطة والمعنى في السياسة الخارجية المصرية. كما أوضح التحليل النقدي للخطاب (CDA) لفيركلوج، فقد نجح الخطاب في تجاوز المستوى الوصفي (اللغة الصريحة في تأكيد الثوابت مثل رفض التهجير وحل الدولتين) إلى التفسيري (الرسائل التفاعلية الموجهة للشعب الإسرائيلي وقطر، التي تبني تحالفات وتكسر روايات الخصومة)، ثم النقدي (الكشف عن ازدواجية المعايير في الأمم المتحدة والولايات المتحدة، مما يعكس سياقًا اجتماعيًا أوسع يعاني من عدم التوازن الدولي). هذا التقسيم الثلاثي ليس نظريًا مجردًا، بل يتجسد عمليًا في كيفية صياغة الرسائل المتعددة المستويات، حيث أصبحت اللغة أداة لتعزيز الشرعية الداخلية المصرية وتوسيع التحالفات الإقليمية، مما يؤكد أن الخطاب ليس مجرد رد فعل للعدوان على السيادة القطرية، بل إعادة بناء للواقع السياسي.

كذلك، يثبت المنهج ما بعد البنيوي لفوكو صحة افتراضه بأن الخطاب ينتج السلطة من خلال الصراع حول المعاني، إذ أعاد السيسي صياغة مفاهيم “الأمن” و”السلام” لتتحول من سردية إسرائيلية وجودية إلى دعوة أخلاقية عالمية، موجهة إلى الحكام العرب والدول المحبة للسلام. هذا الصراع الدلالي لم يكن عرضيًا؛ بل كان استراتيجيًا، يعكس الثوابت المصرية كأدوات للحفاظ على الأمن القومي (رفض تحويل سيناء إلى ساحة فوضى) مع المرونة التكتيكية في الوساطة، مما يجسد كيف يُستخدم الخطاب لإنتاج تحالفات جنوب-جنوب، بعيدًا عن الاعتماد على القوى الكبرى. وفي هذا، يتجاوز الخطاب حدود الدبلوماسية التقليدية ليصبح عاملاً في إعادة تشكيل الهويات العربية-الإسلامية، كما في الدعوة للوحدة العملية مع قطر، التي تحولت من تنافس إلى تنسيق.

أما المنهج التداولي لوتينين، فيثبت تحققه من خلال تفسير الرسائل كأفعال كلامية فعالة: الإشادة بالدور القطري كـ”فعل تعاوني” يبني الثقة، والنقد للعجز الدولي كـ”فعل توجيهي” يحفز الإصلاح، والطمأنة للشعب المصري كـ”فعل تأكيدي” يعزز التماسك الاجتماعي. هذه الأفعال لم تكن منعزلة؛ بل كانت مترابطة في سياق ثقافي-سياسي يجمع بين الواقعية (الحفاظ على السلام البارد مع إسرائيل) والبنائية (إعادة بناء الرواية الفلسطينية كقضية إنسانية عالمية)، مما يؤكد أن خطاب السيسي لم يقتصر على الرد على العدوان الإسرائيلي على قطر في سبتمبر 2025، بل رسم خريطة طريق لدور مصر القيادي في النظام الإقليمي الجديد.

بهذا، يُثبت الخطاب في الدوحة أن الإطار النظري ليس مجرد أداة تحليلية، بل مرآة للواقع الدبلوماسي، حيث حقق التوازن بين الثوابت والتكيف، بما يعيد التأكيد على الدور المصري كحجر زاوية في حل القضية الفلسطينية. في عصر التحديات المتسارعة، يبقى مثل هذا الخطاب دليلاً على أن اللغة، عندما تُدار بحكمة، تصبح سلاحًا للسلام العادل، وصوتًا يتجاوز الحدود ليُسمع في أروقة العالم.


رابط دائم: