تفعيل التعاون العربي المشترك في مواجهة مخاطر عدم الاستقرار الإقليمي
14-9-2025

أحمد ناجي قمحة
* رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية

في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، وتصاعد حدة الاستقطاب والتنافس بين القوى الكبرى، تجد المنطقة العربية نفسها في قلب عاصفة من التحديات الجيوسياسية التي تهدد أمنها واستقرارها. لم تعد المخاطر تقتصر على التهديدات التقليدية، بل امتدت لتشمل أبعادًا جديدة أكثر تعقيدًا، تتداخل فيها الأجندات الإقليمية والدولية، وتتلاشى فيها الخطوط الفاصلة بين ما هو داخلي وما هو خارجي. في هذا السياق، يبرز العدوان الإسرائيلي الأخير على السيادة القطرية، من خلال محاولة اغتيال قادة من حركة حماس في الدوحة، كحدث مفصلي يكشف عن طبيعة المخاطر التي تواجه المنطقة، ويؤكد على حتمية تفعيل التعاون العربي المشترك كضرورة استراتيجية لا غنى عنها.

من منظور نظريات العلاقات الدولية، يمكن تحليل هذا العدوان كدليل واضح على إصرار إسرائيل على تبني سياسة “الواقعية الهجومية” (Offensive Realism)، التي تفترض أن الدول تسعى لتعظيم قوتها النسبية والهيمنة على نظامها الإقليمي لضمان أمنها. هذا النهج، الذي يتجلى في سياسة “حرق الأرض” وتجاهل سيادة الدول الأخرى، لا يهدف فقط إلى تحقيق أهداف تكتيكية محدودة، بل يسعى إلى فرض واقع جديد في المنطقة، يتم فيه القضاء على أي جهود للوساطة أو الحلول السلمية التي لا تتوافق مع الرؤية الإسرائيلية. إن استهداف الدوحة، التي لعبت دورًا محوريًا في جهود الوساطة لوقف إطلاق النار في غزة، يمثل رسالة واضحة مفادها أن إسرائيل لن تسمح بوجود أي صوت عربي يسعى إلى حلول دبلوماسية خارج إطار شروطها.

هذا السلوك الإسرائيلي، الذي يعكس رغبة توسعية مؤكدة، لا يمكن فهمه بمعزل عن حالة الضعف والتشرذم التي أصابت النظام الإقليمي العربي مؤخرًا بفعل عوامل كثيرة. ففي غياب موقف عربي موحد ورادع، تجد إسرائيل نفسها مطلقة اليدين في تنفيذ أجنداتها، ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية. إن نظرية “معضلة الأمن” (Security Dilemma)تشير إلى أن سعي دولة ما لتعزيز أمنها يؤدي إلى زيادة شعور الدول الأخرى بانعدام الأمن، مما يدفعها إلى اتخاذ إجراءات مضادة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تصعيد الصراع. وفي الحالة الراهنة، فإن السياسات الإسرائيلية العدوانية لا تؤدي إلا إلى تعميق حالة عدم الاستقرار الإقليمي، وتغذية دورات العنف التي لا تنتهي.

أمام هذا الواقع، يصبح تفعيل التعاون العربي المشترك ليس مجرد خيار سياسي، بل حتمية وجودية. إن بناء جبهة عربية متماسكة، قادرة على التحدث بصوت واحد واتخاذ مواقف موحدة، هو السبيل الوحيد لمواجهة الرؤية التوسعية الإسرائيلية وسياسة فرض الأمر الواقع. هذا التعاون يجب أن يتجاوز البيانات والإدانات الشكلية، ليمتد إلى تنسيق سياسي واقتصادي وأمني حقيقي، قادر على خلق توازن قوى جديد في المنطقة. إن نظرية “التوازن” (Balance of Power)في العلاقات الدولية تؤكد على أن الدول تميل إلى تشكيل تحالفات لمواجهة القوى التي تهدد استقرار النظام. وفي ظل التهديد الإسرائيلي المتصاعد، فإن بناء توازن قوى عربي هو الضمانة الوحيدة للحفاظ على الأمن القومي العربي وحماية سيادة الدول العربية.

من هنا، يكتسب تحليل المشهد الحالي أهمية كبرى كونه يأتي في سياق أحداث بالغة الأهمية شهدتها المنطقة مؤخرًا، أبرزها صدور البيان المشترك لوزراء خارجية اللجنة العربية الإسلامية بشأن غزة في 8 سبتمبر 2025، والذي عكس موقفًا عربيًا وإسلاميًا موحدًا رافضًا للسياسات الإسرائيلية الرامية إلى تهجير الشعب الفلسطيني وتوسيع انتهاكاتها في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة.فلم يكد يمر يوم واحد على صدور هذا البيان حتى شهدت الدوحة، عاصمة دولة قطر، عدوانًا إسرائيليًا صارخًا على السيادة القطرية، تمثل في محاولة اغتيال وفد من قيادات حركة حماس. هذا العدوان، الذي وصفته قطر بـ”الغادر” وأسفر عن سقوط قتلى مدنيين، لم يكن مجرد حادث عابر، بل كان دليلًا واضحًا على تصعيد إسرائيلي خطير يهدد الاستقرار الإقليمي برمته، ويثير تساؤلات حول مدى التزام إسرائيل بالقوانين والأعراف الدولية.

في المقابل، وفي ذات الفترة الزمنية، برز الدور المصري كعامل استقرار ووسيط دبلوماسي فعال، تجلى في نجاح القاهرة في تجديد التعاون بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والوكالة الدولية للطاقة الذرية. هذا الدور المصري، الذي يعكس مقاربة تعتمد على الدبلوماسية الهادئة والالتزام بمبادئ القانون الدولي، يقدم نموذجًا مغايرًا للتعامل مع التحديات الإقليمية، بعيدًا عن منطق التصعيد العسكري.

يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل مقارن معمق بين الدورين المصري والإسرائيلي، مع التركيز على الأبعاد النظرية التي تحكم سلوك كل منهما، والقراءة التحليلية للبيان العربي المشترك، وتحليل العدوان الإسرائيلي الأخير، واستعراض الدور المصري في الوساطة الدولية، وصولاً إلى استشراف سيناريوهات المستقبل المحتملة وتفعيل التعاون العربي المشترك. سيتم الاستناد في هذا التحليل إلى الأحداث الراهنة حتى تاريخ 10 سبتمبر 2025، مع محاولة تقديم رؤية شاملة ومتوازنة لديناميكيات القوى في المنطقة.

أولًا: المقاربة النظرية بين الدور المصري والإسرائيلي

لفهم التباين الجوهري بين الدور المصري والإسرائيلي في السياسة الإقليمية، يمكن الاستعانة بأطر نظرية متعددة من حقل العلاقات الدولية، والتي تقدم عدسات مختلفة لتحليل سلوك الدول. جيث يمكننا القول بأن الدور الإسرائيلي، بحكم نشأته وتحدياته الأمنية، يميل إلى التماهي مع مبادئ الواقعية الكلاسيكية والواقعية الهجومية، بينما يتجه الدور المصري نحو الليبرالية المؤسساتية مع لمسات من البنائية الاجتماعية.

- الواقعية الكلاسيكية والهجومية: الإطار النظري للدور الإسرائيلي

تعد الواقعية، بمختلف مدارسها، الإطار النظري الأكثر ملاءمة لتحليل السياسة الخارجية الإسرائيلية. فمن منظور الواقعية الكلاسيكية، التي طورها مفكرون مثل هانز مورغنثاو، تسعى الدول بشكل أساسي إلى تعظيم قوتها وأمنها في نظام دولي فوضوي، والسردية الإسرائيلية منذ أكتوبر 2023 تحاول التأكيد على فوضوية المشهد الإقليمي. هذا السعي للقوة غالبًا ما يتم من خلال الوسائل العسكرية، وهو ما يتجلى بوضوح في السياسة الإسرائيلية منذ تأسيسها. إسرائيل، كدولة تصور أنها محاطة بما تعتبره تهديدات وجودية، تبنت استراتيجية أمنية تقوم على مبدأ “الردع النشط” أو “الدفاع الاستباقي”، والذي يتجاوز حدودها الجغرافية ليشمل عمليات عسكرية خارج أراضيها.

العدوان الإسرائيلي على السيادة القطرية ومحاولة اغتيال قيادات حماس في الدوحة في 9 سبتمبر 2025، يمثل تجسيدًا صارخًا لهذه المقاربة الواقعية. فمن وجهة نظر واقعية، تبرر إسرائيل هذا الهجوم بأنه محاولة لإزالة تهديد أمني (حركة حماس) حتى لو كان ذلك يتطلب انتهاك سيادة دولة أخرى. هذا النهج يعكس رؤية توسعية للمجال الأمني الإسرائيلي، حيث يُنظر إلى المنطقة بأكملها كساحة صراع صفري المجموع، ولا يتم التورع عن استخدام القوة لتحقيق الأهداف الأمنية، حتى لو كان ذلك على حساب القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية.

يمكن أيضاً تحليل السلوك الإسرائيلي من منظور الواقعية الهجومية، التي يمثلها جون ميرشايمر. ترى هذه النظرية أن الدول تسعى ليس فقط للحفاظ على أمنها، بل لتعظيم قوتها النسبية لتصبح القوة المهيمنة في نظامها الإقليمي. هذا السعي للهيمنة يدفع الدول إلى تبني سياسات عدوانية واستباقية، بما في ذلك الضربات الوقائية والتدخلات العسكرية. إن التفوق العسكري الإسرائيلي، المدعوم بشكل كبير من القوى الغربية وتحديدًا الولايات المتحدة وبريطانيا، يمنحها القدرة على تنفيذ مثل هذه السياسات، ويسهم في سعيها للهيمنة الإقليمية من خلال فرض إرادتها بالقوة. إن استمرار العمليات العسكرية في غزة، والتي وصفت بأنها حرب إبادة وأدت إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا، يعكس هذا السعي للهيمنة والتحكم في مصير المنطقة، بغض النظر عن التكاليف الإنسانية والسياسية.

- الليبرالية المؤسساتية والبنائية: الإطار النظري للدور المصري

على النقيض من المقاربة الإسرائيلية، يميل الدور المصري في السياسة الإقليمية إلى التوافق مع مبادئ الليبرالية المؤسساتية والبنائية الاجتماعية. فمن منظور الليبرالية المؤسساتية، التي ارتبطت بأسماء مثل روبرت كيوهان، تُعزز الدول التعاون فيما بينها من خلال المؤسسات الدولية والقوانين المشتركة لتحقيق مصالحها المتبادلة. مصر، كقوة إقليمية تاريخية ذات إرث دبلوماسي عريق، تركز على الوساطة والدبلوماسية كأدوات رئيسية لسياستها الخارجية.

يتجلى هذا النهج بوضوح في دور مصر في تجديد التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية. فمن خلال استضافة المفاوضات وتسهيل التوصل إلى اتفاق يسمح باستئناف التفتيشات على المنشآت النووية الإيرانية، أظهرت مصر التزامًا راسخًا بالقانون الدولي والمؤسسات المتعددة الأطراف. يهدف هذا الدور إلى تخفيف التوترات النووية في المنطقة، وهو ما يصب في مصلحة الاستقرار الإقليمي والأمن الاقتصادي لمصر. إن هذا السلوك يتناقض بشكل صارخ مع النهج الإسرائيلي الذي يميل إلى تجاهل القرارات الدولية والعمل خارج إطار المؤسسات.

من منظور بنائي، كما في نظرية ألكسندر ويندت، تتشكل هويات الدول وسلوكياتها من خلال التفاعلات الاجتماعية والأفكار المشتركة. يشكل الدور المصري هوية “الوسيط الإقليمي” الذي يسعى إلى بناء الثقة وتعزيز الحوار بين الأطراف المتنازعة. هذه الهوية، التي ترسخت عبر عقود من الدبلوماسية المصرية في حل النزاعات الإقليمية (مثل وساطاتها المتكررة في اتفاقات وقف إطلاق النار في غزة)، تمنح مصر شرعية ونفوذًا معنويًا في المنطقة، بل وفي العالم حتى تحولت إلى شريك ووسيط دولي فاعل في العديد من الأزمات وفقًا لمبدأ التوازن الاستراتيجي. في المقابل، يعزز الدور الإسرائيلي هوية “المحارب” أو “القوة العسكرية”، مما يؤدي إلى دورات عنف متكررة ويحد من قدرتها على بناء علاقات مستقرة مع جيرانها.

إن المقارنة بين الدورين تكشف عن تناقض واضح: فبينما تعتمد إسرائيل على القوة الصلبة (العسكرية) لضمان بقائها وتحقيق أهدافها، تستثمر مصر في القوة الناعمة (الدبلوماسية والوساطة) لتعزيز ريادتها الإقليمية وتحقيق الاستقرار والأمن والتعاون وفقًا للمبادئ الرئيسية للأمم المتحدة. هذا التباين يجعل مصر شريكًا مفضلًا للعديد من الدول العربية والدولية التي تسعى إلى حلول سلمية ومستدامة للصراعات الإقليمية.

تبرز المقاربة النظرية السابقة الدور الإسرائيلي كعامل محتمل لعدم الاستقرار الإقليمي، مدفوعًا بمنطق غطرسة القوة، في حين يظهر الدور المصري كعامل توازن واستقرار، مستندًا إلى الدبلوماسية والتعاون المؤسساتي. هذا التباين ليس مجرد اختلاف في الأساليب، بل هو انعكاس لفلسفتين مختلفتين في التعامل مع تحديات المنطقة، وله تداعيات عميقة على مستقبل الشرق الأوسط.

ثانيًا: قراءة تحليلية لبيان مجلس وزراء الخارجية العرب

يمثل البيان المشترك الصادر عن وزراء خارجية اللجنة العربية الإسلامية بشأن غزة في 8 سبتمبر 2025 وثيقة سياسية بالغة الأهمية، تعكس موقفًا عربيًا وإسلاميًا موحدًا تجاه التطورات الخطيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. إن تحليل هذا البيان يكشف عن تحولات في الخطاب العربي، وتأكيد على مبادئ القانون الدولي، ومحاولة لتوحيد الصفوف في مواجهة السياسات الإسرائيلية.

- رفض التهجير وإدانة الانتهاكات

يبدأ البيان برفض قاطع للتصريحات الإسرائيلية المتعلقة بتهجير الشعب الفلسطيني من أراضي عام 1967، معتبرًا ذلك محاولة للاقتلاع الجماعي. هذا الرفض ليس مجرد موقف سياسي، بل هو تأكيد على مبدأ عدم جواز التهجير القسري للسكان، وهو مبدأ أساسي في القانون الدولي الإنساني. إن ربط هذا الرفض بإدانة توسيع العمليات العسكرية في غزة، والحصار المفروض على القطاع، والتجويع المتعمد، واستهداف المدنيين، يشير إلى أن الدول العربية والإسلامية تعتبر هذه الممارسات أدوات حرب ممنهجة تهدد الأمن والسلم الإقليميين.

كما يجدد البيان إدانة الإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما في ذلك التوسع الاستيطاني غير القانوني وعنف المستوطنين المتزايد. هذه الإدانة تؤكد على أن القضية الفلسطينية ليست مقتصرة على غزة، بل تشمل جميع الأراضي المحتلة، وأن الاستيطان يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

- التأكيد على القانون الدولي ومحاسبة الانتهاكات

من الناحية التحليلية، يعكس البيان تحولًا ملحوظًا في الخطاب العربي نحو التركيز على القانون الدولي والمطالبة بمحاسبة الانتهاكات. فالمطالبة بمحاسبة الانتهاكات التي قد ترقى إلى “التطهير العرقي” و”الإبادة الجماعية” تعكس وعيًا متزايدًا بالمسؤولية القانونية الدولية لإسرائيل، ومحاولة لتفعيل آليات العدالة الدولية. هذا التوجه يعزز من مبدأ الشرعية الدولية، ويستند إلى ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية ذات الصلة.

يدعو البيان أيضًا إلى وقف فوري لإطلاق النار ورفع القيود على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. هذه المطالب ليست مجرد دعوات إنسانية، بل هي تأكيد على التزامات إسرائيل كقوة احتلال بموجب القانون الدولي، وضرورة حماية المدنيين وتوفير احتياجاتهم الأساسية. إن الإشارة إلى أن الحرب في غزة قد أدت إلى كارثة إنسانية ونزوح أكثر من مليون فلسطيني، تضفي بعدًا إنسانيًا ملحًا على المطالب السياسية للبيان.

- حل الدولتين وتوحيد الصف العربي

يؤكد البيان أن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، هو السبيل الوحيد للحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية. هذا التأكيد يتسق مع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، مثل القرارين 242 و338، ويعكس التزامًا عربيًا راسخًا بمبدأ حل الدولتين كإطار للتسوية السلمية، وفقًا للمبادرة العربية للسلام.

من منظور إقليمي، يعبر البيان عن التزام عربي-إسلامي مشترك، ويشدد على دور مجلس الأمن في حماية الشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال. هذا يعكس محاولة لتوحيد الصفوف العربية. وهو الأمر الذي يتطلب تفعيل مضمونه من خلال آليات ضغط دولية.

ثالثًا: قراءة تحليلية في العدوان الإسرائيلي

شكلت العملية الإسرائيلية في 9 سبتمبر 2025، التي استهدفت قيادات الوفد المفاوض حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة وقت اجتماعه لمناقشة العرض الأمريكي الأخير، حدثاً مفصلياً أثار إدانات دولية واسعة، وفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول دوافع إسرائيل وأهدافها الحقيقية. فهل كان هذا العدوان مجرد رد فعل على البيان العربي المشترك، أم أنه جزء من رؤية إسرائيلية توسعية أوسع نطاقًا؟

- العدوان كرد فعل على البيان العربي

من أحد الزوايا التحليلية، يمكن اعتبار العدوان الإسرائيلي على الدوحة بمثابة رد فعل مباشر على البيان المشترك لوزراء خارجية اللجنة العربية الإسلامية بشأن غزة، والذي صدر قبل يوم واحد فقط من الهجوم. فبينما أدان البيان السياسات الإسرائيلية وطالب بمحاسبة الانتهاكات، فإن إسرائيل، التي تعتبر حركة حماس تهديدًا وجوديًا لأمنها، قد رأت في هذا البيان محاولة لتقويض شرعيتها الدولية وتضييق الخناق عليها.

إن استهداف وفد حماس في الدوحة، الذي كان موجودًا هناك لمناقشة مفاوضات وقف إطلاق النار، يشير إلى أن إسرائيل ربما سعت إلى تعطيل هذه المفاوضات وإفشال الدور القطري كوسيط. فمن منظور إسرائيلي، قد يكون نجاح المفاوضات يعني تعزيزًا لمكانة حماس، وهو ما يتعارض مع استراتيجيتها المعلنة للقضاء على الحركة.

وقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن العملية جاءت ردًا على هجوم سابق في القدس، إلا أن التوقيت الدقيق للهجوم، بعد يوم واحد من صدور البيان العربي، يشير إلى وجود دافع سياسي أعمق يتمثل في محاولة إضعاف الوحدة العربية التي عبر عنها البيان. فاستهداف عاصمة عربية ذات سيادة، وفيها وفد دبلوماسي، يمثل رسالة واضحة مفادها أن إسرائيل لن تتهاون مع أي محاولة لتوحيد الصفوف ضدها.

في تقرير لـBBC، أُشير إلى أن الهجوم يهدف بشكل رئيسي إلى إنهاء الدور القطري كوسيط في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهو ما يعزز الارتباط بين العدوان والبيان العربي. فإذا كانت قطر تلعب دورًا مهمًا في تسهيل المفاوضات، فإن استهدافها يعني محاولة لعرقلة أي جهود دبلوماسية قد تؤدي إلى تسوية لا تتوافق مع المصالح الإسرائيلية.

- العدوان كجزء من رؤية توسعية

من زاوية أخرى، يمكن تحليل العدوان الإسرائيلي على الدوحة كجزء لا يتجزأ من رؤية إسرائيلية توسعية أوسع نطاقًا، تقوم على استراتيجية “الحدود المفتوحة” لمكافحة ما تسميه “الإرهاب”. فمنذ تأسيسها، اعتمدت إسرائيل على تنفيذ عمليات عسكرية خارج حدودها، واغتيال قادة فلسطينيين في دول مختلفة مثل تونس وبيروت. هذه العمليات تعكس قناعة إسرائيلية بأن أمنها لا يقتصر على حدودها المعترف بها دوليًا، بل يمتد ليشمل أي مكان يتواجد فيه من تعتبرهم أعداء لها.

في عام 2025، ومع استمرار الحرب في غزة وتصاعد التوترات الإقليمية، يُنظر إلى الهجوم على الدوحة كامتداد لسياسة التوسع هذه. فإسرائيل تستهدف أي مكان يؤوي معارضيها، متجاهلة بشكل صارخ مبدأ السيادة الدولية، الذي يعتبر حجر الزاوية في العلاقات الدولية. هذا التجاهل للسيادة ليس جديدًا في السياسة الإسرائيلية، ولكنه يتصاعد في ظل الظروف الراهنة، مما يعكس رغبة في إعادة رسم الخريطة الأمنية للمنطقة وفقًا لمصالحها.

إن الدعم الأمريكي-البريطاني المزعوم لإسرائيل، والذي نفته واشنطن رسميًا، مع استحالة هذا النفي على ارض الواقع، يعزز هذه الرؤية التوسعية. ففي حين تنفي الولايات المتحدة أي تورط مباشر، إلا أن الدعم العسكري والسياسي المستمر لإسرائيل يمنحها شعورًا بالحصانة، ويشجعها على تنفيذ عمليات تتجاوز الأعراف الدولية. وقد اتهمت حركة حماس الولايات المتحدة بالمسؤولية المشتركة بسبب هذا الدعم العسكري، مما يسلط الضوء على الدور الأمريكي في تمكين السياسات الإسرائيلية.

حتى ردود الفعل الدولية، تشير إلى تواطؤ ضمني أو على الأقل عدم رغبة في ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل. هذا الصمت الدولي، أو الإدانة الخجولة، يمنح إسرائيل الضوء الأخضر لمواصلة سياستها التوسعية، مما يعمق الصراع ويزيد من حالة عدم الاستقرار في المنطقة. بالتالي، نصل إلى قناعة بأن العدوان على الدوحة لم يكن مجرد رد فعل على البيان العربي، بل كان جزءًا من نمط سلوكي إسرائيلي أوسع يهدف إلى إعادة رسم الخريطة الإقليمية بالقوة، وتأكيد هيمنتها، وتهميش أي جهود دبلوماسية لا تتوافق مع رؤيتها. هذا النهج، الذي يعمق الصراع ويغذي دورات العنف، يضع المنطقة على شفا المزيد من التصعيد.

رابعًا: قراءة تحليلية في الدور المصري في الوساطة والالتزام بقواعد القانون الدولي

في خضم التوترات الإقليمية المتصاعدة والعدوان الإسرائيلي المتكرر، يبرز الدور المصري في عام 2025 كنموذج للدبلوماسية الفعالة والالتزام بمبادئ القانون الدولي. فبينما تتجه بعض القوى نحو التصعيد، اختارت مصر مسار الوساطة وتفعيل الاتفاقيات الدولية، وهو ما تجلى بوضوح في وساطتها الناجحة لتجديد التعاون بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA).

- الوساطة المصرية في الملف النووي الإيراني

في 9 سبتمبر 2025، شهدت القاهرة توقيع اتفاق تاريخي بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، يسمح باستئناف التفتيشات على المنشآت النووية الإيرانية. هذا الاتفاق، الذي جاء بفضل الوساطة المصرية، يمثل إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا، ويعكس قدرة مصر على لعب دور بناء في حل النزاعات الإقليمية المعقدة.

وقد أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن هذا الاتفاق يساهم بشكل فعال في منع التصعيد في المنطقة، وهو ما يعكس التزام مصر الراسخ بالحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليميين. إن نجاح مصر في هذه الوساطة يعتمد على خبرتها الطويلة في حل النزاعات، كما في اتفاقات غزة السابقة، حيث توسطت القاهرة مرارًا في وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين الأطراف المتنازعة. هذه الخبرة منحت مصر مصداقية وثقة لدى جميع الأطراف، مما مكنها من لعب دور الوسيط النزيه والفعال.

- الالتزام بالقانون الدولي وتفعيل الاتفاقيات

من منظور القانون الدولي، تلتزم مصر بشكل راسخ بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، مما يجعلها شريكًا موثوقًا به في المجتمع الدولي. ففي الاتفاق الإيراني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، غطى الاتفاق جميع المنشآت النووية الإيرانية، بما في ذلك منشأة نطنز الحساسة، كما أعلن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل جروسي. هذا الالتزام بالشفافية والتعاون يتناقض بشكل صارخ مع النهج الإسرائيلي، الذي غالبًا ما يتجاهل القرارات الدولية ويعمل خارج إطار القانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بقطاع غزة.

لم يقتصر الدور المصري على الوساطة في الملف النووي الإيراني، بل امتد ليشمل إدانة العدوان الإسرائيلي على قطر، معتبرة إياه انتهاكًا صارخًا للسيادة القطرية ومبادئ القانون الدولي. هذه الإدانة تعكس التزام مصر بتفعيل اتفاقيات مثل اتفاقية جنيف، التي تحمي سيادة الدول وتدين الاعتداءات على أراضيها.

إن هذا الدور المصري يعزز مكانة القاهرة كقوة توازن في المنطقة، تسعى إلى حل النزاعات بالطرق السلمية والدبلوماسية، وتلتزم بمبادئ القانون الدولي، مما يجعل الوساطة أداة لتعزيز النفوذ المصري على الساحة الإقليمية والدولية، وتحقيق مصالحها الوطنية من خلال الاستقرار الإقليمي.

خامسًا: قراءة في سيناريوهات المستقبل

إن التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط، من البيان العربي المشترك إلى العدوان الإسرائيلي في الدوحة والدور المصري-القطري في الوساطة، ترسم ملامح مستقبل معقد ومتشابك. إن استشراف سيناريوهات المستقبل يتطلب تحليل العوامل المؤثرة، والبحث عن سبل لتفعيل التعاون العربي المشترك في مواجهة التحديات الإقليمية.

- سيناريوهات محتملة

يمكن تصور عدة سيناريوهات لمستقبل المنطقة، تتراوح بين الإيجابية والسلبية:

1. السيناريو الإيجابي: توحيد الصف العربي وتفعيل الضغط الدولي.

في هذا السيناريو، يتم تفعيل البيان العربي المشترك من خلال آليات عملية لتعزيز التعاون المشترك. يمكن للدول العربية، تحت مظلة جامعة الدول العربية، أن تفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على إسرائيل، بالتنسيق مع المجتمع الدولي. يتطلب هذا السيناريو دعمًا دوليًا قويًا من مجلس الأمن لوقف إطلاق النار الدائم في غزة، وإنهاء الحصار، وتوفير الحماية للشعب الفلسطيني. كما يتطلب تفعيل مبدأ التعاون في دعم السلطة الفلسطينية للعودة إلى غزة وبدء عملية التعافي تمهيدًا لإعادة إعمار القطاع. هذا السيناريو يعتمد على تحول الخطاب العربي إلى أفعال ملموسة، وتوحيد الجهود الدبلوماسية والاقتصادية لمواجهة السياسات الإسرائيلية.

2. السيناريو السلبي: استمرار التصعيد وحرب إقليمية.

في هذا السيناريو، تستمر إسرائيل في سياستها التصعيدية، وتتجاهل الإدانات الدولية والبيانات العربية. يؤدي ذلك إلى المزيد من العنف في الأراضي الفلسطينية، وقد يتطور إلى حرب إقليمية أوسع نطاقًا تشمل إيران، خاصة إذا فشل الاتفاق النووي الذي توسطت فيه مصر. في هذا السيناريو، يمكن لمصر أن تلعب دورًا حاسمًا في منع التصعيد، من خلال وساطاتها المستمرة مع جميع الأطراف، ومحاولة احتواء الأزمة قبل أن تخرج عن السيطرة. ومع ذلك، فإن قدرة مصر على احتواء الأزمة ستكون محدودة إذا استمرت القوى الإقليمية والدولية في تغذية الصراع.

- سبل تفعيل التعاون العربي المشترك

لتحقيق السيناريو الإيجابي وتفعيل التعاون العربي المشترك، يجب التركيز على عدة محاور:

• بناء تحالف اقتصادي-أمني:يمكن للدول العربية أن تعمل على بناء تحالف اقتصادي-أمني قوي، يهدف إلى دعم القضية الفلسطينية وتعزيز الأمن الإقليمي. يمكن إنشاء صندوق مساعدات عربي لدعم الشعب الفلسطيني وإعادة إعمار غزة، وتنسيق الجهود الاقتصادية لتقليل الاعتماد على القوى الخارجية.

• تنويع الشراكات الدولية:في ظل الدعم الأمريكي-البريطاني المستمر لإسرائيل، يحتاج العرب إلى تنويع شراكاتهم الدولية. يمكن تعزيز العلاقات مع قوى صاعدة مثل الصين وروسيا، والتي قد تكون أكثر استعدادًا لدعم المواقف العربية في المحافل الدولية. هذا التنويع يمنح الدول العربية نفوذًا أكبر في مواجهة الضغوط الغربية، وذلك دون الخروج عن مبدأ التوازن الاستراتيجي.

• تفعيل الدبلوماسية في الأمم المتحدة:يجب على الدول العربية تفعيل جهودها الدبلوماسية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والمطالبة بتطبيق قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. يمكن تشكيل مجموعات ضغط عربية-إسلامية داخل الأمم المتحدة لزيادة الوعي بالانتهاكات الإسرائيلية والمطالبة بمحاسبتها، وذلك في سياق اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي سيشهد مؤتمر خاص حول القضية الفلسطينية والتسوية السلمية لها وفقًا لمبدأ حل الدولتين، والجهود الإنسانية، والإغاثية، وإعادة الإعمار.

• الضغط الشعبي والإعلامي:لا يقل الضغط الشعبي والإعلامي أهمية عن الجهود الدبلوماسية. يجب على الدول العربية دعم الحركات الشعبية التي تناصر القضية الفلسطينية، وتفعيل دور الإعلام العربي في فضح الانتهاكات الإسرائيلية وتصحيح الرواية الغربية.

في النهاية، يعتمد مستقبل المنطقة على قدرة الدول العربية على تحويل خطابها الموحد إلى أفعال ملموسة. إن مواجهة التحديات الإسرائيلية بفعالية تتطلب ليس فقط الإدانة، بل أيضًا بناء قوة عربية مشتركة، دبلوماسية واقتصادية وسياسية، قادرة على فرض إرادتها وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. إن الدور المصري، كقوة توازن ووسيط، يمكن أن يكون حجر الزاوية في هذا المسعى، ولكن النجاح يتطلب تضافر جهود جميع الدول العربية والإسلامية.

وفي هذا السياق، يأتي انعقاد القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة يومي الأحد والاثنين (14 و15 سبتمبر 2025)، كخطوة عملية حاسمة تجسد تفعيل التعاون العربي المشترك الذي نادى به هذا التحليل. هذه القمة، المخصصة لمناقشة تداعيات العدوان الإسرائيلي على السيادة القطرية واستهداف قيادات حماس، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكل ما تم تناوله هنا: فهي رد مباشر على العدوان الإسرائيلي الذي يعكس الواقعية الهجومية والرؤية التوسعية، وتعزز من البيان المشترك لوزراء الخارجية العرب الذي رفض الانتهاكات ودعا إلى محاسبة دولية. كما أنها تبرز الدور القطري كوسيط دبلوماسي نشط بالتوافق مع الدور المصري، وتؤكد على حتمية بناء جبهة موحدة لمواجهة معضلة الأمن وتحقيق توازن القوى. من خلال هذه القمة، يمكن أن تتحول السيناريوهات المستقبلية من التصعيد إلى الاستقرار، عبر تنسيق جهود أمنية واقتصادية ودبلوماسية، وتفعيل آليات الضغط الدولي لدعم حل الدولتين وحماية السيادة العربية. إن نجاحها عبر تبني خطوات تصعيد وضغط دبلوماسية محسوبة سيثبت أن الوحدة العربية الإسلامية ليست مجرد خطاب، بل قوة فاعلة قادرة على إعادة رسم ديناميكيات المنطقة نحو السلام والاستقرار، محاصرةً السياسات العدوانية ومفتحةً أبواب التعاون المشترك كحتمية وجودية لمواجهة التحديات الإقليمية.

نقلًا عن جريدة الجمهورية..الأحد 14 سبتمبر 2025.


رابط دائم: