الأنماط المعاصرة للدبلوماسية ومسارات التغيير فى العمل الدبلوماسي
27-8-2025

أ.د. على حسين حميد
* جامعة النهرين-العراق

تمظهر الوضع السياسى الدولى منذ مطلع العقد الأخير للقرن العشرين فى سياق تحولات جذرية عميقة أدت إلى تطور النظام السياسى الراهن، وكان أهم هذه التحولات هو تهاوى أنظمة الحكم الاشتراكية، وسقوط حلف وارسو، وتفكك الاتحاد السوفيتى، وانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين: المعسكر الشرقى الاشتراكى بقيادة الاتحاد السوفيتى والمعسكر الغربى الرأسمالى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وتبع هذا التطور انخراط الكثير من دول العالم فى سلسلة من التجمعات الاقتصادية الضخمة ذات النظام الرأسمالى. وقد اتسمت هذه التحولات السياسية بأنها كانت تحولات سريعة وفاصلة وتأسيسية، حيث إنها أسست لمفاهيم دولية جديدة مختلفة عما كان سائدا قبل تلك الفترة. وظهر نظام أحادى القطبية جعل الولايات المتحدة القوة الأكثر تأثيرا فى ما يتعلق بالعلاقات الدولية وبدأت تفرض هيمنتها على العالم بما تمتلك من إمكانيات اقتصادية، وعسكرية، وتقنية، وجيوسياسية.

وفى خضم هذا الوضع الدولى، ظهرت جملة من المتغيرات فى إطار العلاقات الدولية، حيث اتجه العالم بصورة عامة نحو العولمة والسير وفق قيم الأيديولوجية الليبرالية التى تدعم تطبيق مبادئ الديمقراطية، والتعددية، وحقوق الإنسان. وظهر اتجاه اقتصادى نحو فتح الأسواق وإزالة القيود أمام حركة السلع والأفراد وحتى رءوس الأموال، وجعل العالم أشبه ما يكون بالسوق المفتوحة أمام منتجات الدول الأقوى والأقدر على خوض المنافسة الاقتصادية. وقد أدى هذا الانفتاح إلى إزالة الحواجز الثقافية بين المجتمعات عن طريق انتشار انماط الحياة الحديثة والتركيز على ثقافة الأسواق الواسعة وجعل العالم مزيجا متداخلا يعيش بعضه مع بعض.

فضلا عن ذلك، أدى انتشار ابتكارات التكنولوجيا والإنترنت والثورة المعلوماتية الهائلة إلى تمكين الشعوب من خلق قنوات اتصال للتخاطب فيما بينها، حيث ألغت أجهزة الاتصال الحديثة الحدود المكانية والزمانية بين الدول، وأصبحت القضايا الدولية متداولة بين عامة الناس عن طريق وسائل الإعلام والاتصال ولم تعد حكرا على السياسيين وصناع القرار. هذه التطورات أدت إلى ظهور فاعلين جدد من غير الدول وأصبح لهم دور واضح فى السياسة الدولية والاقتصاد الدولى، ومن أمثلة هؤلاء الفاعلين الأفراد ذوو السلطة والنفوذ، ومنظمات المجتمع المدنى، والشركات المتعددة الجنسيات، وحركات التحرر، والحركات الدينية، والجماعات المتطرفة وغيرها.

أدت كل هذه التغييرات إلى ظهور مجتمع دولى يتسم بتعدد الوحدات الدولية، حيث تعقدت العلاقات العالمية فيه ولم تعد الدولة هى الفاعل الوحيد فى النظام العالمى، وبرزت تحديات جديدة، مثل الهجرة، وتغير المناخ والبيئة، والفقر، والمخدرات، والإرهاب، والمجتمع المدنى وغيرها. وفى ظل هذه التطورات وجدت الدول نفسها مرغمة على تغيير ممارساتها الدبلوماسية واستحداث وسائل جديدة من التواصل والتفاعل والتأثير على الرأى العام لتحقيق أهداف سياساتها الخارجية، حيث أصبحت الدبلوماسية تأخذ أبعادا متعددة ترتبط بشتى الوظائف الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية للمجتمعات، وأصبحت العلاقات الدولية قائمة على ضرورة التواصل بين الشعوب والأمم من أجل تخفيف التوترات وإحلال السلام، وظهرت مجالات جديدة للعمل الدبلوماسى، مثل الدبلوماسية الاقتصادية، ودبلوماسية القوة الناعمة، والدبلوماسية العامة، والدبلوماسية الرقمية.

إن التطور السياسى الذى حدث فى المجتمع الدولى وما رافقه من تقدم صناعى وتكنولوجى سريع جعل العامل الاقتصادى يكتسب دورا مركزيا فى النشاطات الدبلوماسية، حيث نشط التعاون الاقتصادى الدولى على كافة المستويات الثنائية، والإقليمية، والعالمية، وازداد الاهتمام بالعامل الاقتصادى بكل أبعاده التجارية، والاستثمارية، والتجارة الحرة بين مختلف دول العالم. وأخذت الجوانب الاقتصادية تحتل مكانة بارزة فى العلاقات الدولية، مما دعا الدول إلى مزيد من الاهتمام من أجل حشد أكبر قدر ممكن من الموارد لمواجهة المشكلات والأزمات الاقتصادية وتحقيق التنمية بأبعادها المختلفة.

وبدأت أجهزة الدبلوماسية تلعب دورا مهما فى هذا المجال، فلم يعد العمل الدبلوماسى يقتصر على الجوانب السياسية فقط، وإنما تعدى ذلك ليشمل الترويج لمنتوجات الدولة، وتشجيع السياحة فيها، ومحاولة جذب الاستثمارات المطلوبة، ومعالجة قضايا المديونية الخارجية، وأسعار المواد الأولية، فضلا عن إقامة التجمعات والتكتلات الاقتصادية المشاركة الفاعلة فى المؤتمرات والندوات والاجتماعات التى تعالج هذه القضايا فى الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وفى المنظمات الإقليمية المختلفة.

وقد لعبت الدبلوماسية الاقتصادية دورا مهما فى تطوير قواعد القانون الدولى الاقتصادى، حيث تم إيجاد قواعد قانونية تتسم بالمرونة وتلائم طبيعة الأوضاع الاقتصادية للدول المختلفة. رغم أن الواقع يشير إلى أن الدول المتقدمة هى المستفيد الأكبر من هذه القواعد مقارنةً بالدول النامية، وذلك للقوة الاقتصادية لهذه الدول وما تمتلكه من قدرات وإمكانات أدت بالنتيجة إلى إرساء القواعد التى تحقق مصالحها.

كما أدت ثورة المعلومات والتكنولوجيا وتطور وسائل الإعلام والاتصال إلى زيادة قوة وتأثير الرأى العام الجماهيرى على السياسات الخارجية للدول، حيث صارت الشعوب أكثر وعيا بالقضايا الدولية وما يحقق مصالحها على المستوى الإقليمى والدولى، وأصبحت الدول مهتمة بتحسين صورتها أمام الرأى العام الداخلى والخارجى على حدٍ سواء، بهدف خلق صورة ذهنية إيجابية تؤدى إلى التعاطف وحشد الرأى مع أهدافها وسياستها الخارجية.

ومن هنا برزت أهمية الدبلوماسية العامة كأداة مكملة للدبلوماسية التقليدية، ووسيلة مهمة لتحسين صورة الدولة أمام الجماهير المحلية والأجنبية، وجذب تعاطف جماهيرى مع سياساتها الخارجية عن طريق الجهود الثقافية والإعلامية والاعتماد على الفاعلين من غير الدول، مثل مؤسسات الإعلام، والمجتمع المدنى، والجامعات، ومراكز الأبحاث وغيرها، وتعتمد الدبلوماسية العامة وسائل متنوعة فى إيصال الرسالة إلى الشعوب الأخرى، منها البرامج الإعلامية، والمسلسلات، والأفلام، والاحتفالات الرياضية والوطنية وغيرها.

كما يرتبط مصطلح الدبلوماسية العامة بمصطلح القوة الناعمة الذى كان أول من استخدمه المفكر الأمريكى جوزيف ناى فى 1990، وتعنى القدرة على تحقيق الأهداف المطلوبة بالاعتماد على جاذبية الدولة المستمدة من موارد يغلب عليها الطابع غير المادى، مثل ثقافتها، ومبادئها، وقيمها، وسياستها الداخلية والخارجية، وما ينشأ عن ذلك من صورة ذهنية إيجابية عن الدولة المعنية على نحوٍ يخلق تعاطفا معها ومع سياساتها وأهدافها، وتعتمد القوة الناعمة على ثلاثة موارد أساسية يغلب عليها الطابع المعنوى، مثل:

-   ثقافة الدولة، مثل الأدب، والفن، والتعليم، والرياضة، أو الثقافة الشعبية بشكل عام.

-   القيم السياسية الداخلية والخارجية للدولة، مثل مؤشرات الديمقراطية والحوكمة.

-   السياسة الخارجية للدولة عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية وأخلاقية.

ولا يخطئ من يرى أن الدبلوماسية العامة من نتاج تطور الفكر الدبلوماسى خلال العقود الثلاثة الأخيرة، حيث أدركت الدول الحاجة الماسة لبناء علاقات حسنة دائمة ومباشرة مع الشعوب الأخرى لاسيما مع ثورة الاتصالات والمعلومات وانتشار قيم الديمقراطية والشفافية.

كما تمتاز الدبلوماسية العامة بأنها مرتبطة بسياسات الدول ومكملة لها وفى العديد من الحالات تعمل باستقلالية عن العمل الدبلوماسى الرسمى. فبينما تركز الدبلوماسية التقليدية على الاتصال المباشر والرسمى بين موظفى السفارات والبعثات الدبلوماسية والحكومات، نجد أن الدبلوماسية الشعبية تعمل باستقلالية عن السفارات والبعثات عن طريق أطراف غير رسمية، مثل وسائل الإعلام، والهيئات التعليمية، ووسائل التواصل الاجتماعى، وجمعيات الأعمال والصداقة الدولية وغيرها. وبينما تعتمد الدبلوماسية الرسمية فى عملها على مبدأ التفاوض كوسيلة مهمة لتسوية الخلافات والوصول إلى قرارات، نجد أن الدبلوماسية العامة تركز على مبدأ الحوار كوسيلة مهمة للإقناع وكسب تأييد الطرف الآخر.

وفى سياق تحليل الأنماط، تعد الدبلوماسية الثقافية من وسائل الدبلوماسية العامة لارتباطها المباشر بتغيير أفكار الناس وإيجاد تأييد شعبى لسياسة الدول خارج حدودها، حيث تسعى الدول إلى الوسائل الدبلوماسية الثقافية لنقل تراثها، وحضارتها، وقيمها، وتقاليدها إلى الشعوب الأخرى بهدف خلق صورة إيجابية عن الدول ودعم مركزها وسمعتها على المستوى الدولى. كما أصبحت الدبلوماسية الثقافية أداة قوية وفعالة لإقامة شبكة واسعة من علاقات التعاون فى المجالات العلمية، والثقافية، والتكنولوجية بما يخدم عملية التنمية بمختلف أبعادها الإنسانية والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية.

علاوة على ما تقدم، تعد منظمات المجتمع المدنى من الجهات الفاعلة المهمة ضمن إطار الدبلوماسية العامة لما لها من دور كبير فى الـتأثير على سياسات الدولة، فرغم أن عملية صنع السياسات هى من المهام الرئيسية لأى دولة، إلا أن هذه العملية باتت تتأثر بالضغوطات والمشاورات والاتصالات الداخلية والخارجية مع أطراف عديدة غير حكومية، ومن ضمنها منظمات المجتمع المدنى التى تقدم أنماطا عديدة من المدخلات للنظام السياسى، مثل: المطالب، والتأييد، والمشاورات، والمعلومات... إلخ.

ولا يغيب عن التحليل دور وسائل الإعلام ووكالات الأنباء أيضا لها أهمية خاصة فى الدبلوماسية العامة لما لها من تأثير فاعل على الرأى العام والأجندة الخارجية للدول، وقد أنشأت بعض السفارات، مثل: الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، والصين وربما غيرها من الدول، صفة الملحق الصحفى ضمن كادر سفاراتها من أجل إعطاء صورة إيجابية عن بلدانها على الساحة الدولية. كذلك يعد القطاع الخاص من أبرز الجهات الفاعلة فى الدبلوماسية العامة عن طريق تسويق المنتجات الوطنية وجعلها رائجة عند الشعوب الأخرى.

بلا ريب يقتضى توظيف موارد الدبلوماسية العامة وجود درجة من التوازن بين قوة المجتمع والدولة من جهة، وبين وجود رؤية واضحة لدى القيادة والحكومة الممارسة للدبلوماسية العامة لكيفية توظيف هذه الموارد دون السيطرة عليها بالضرورة، حيث يبقى دور الدولة هو امتلاك رؤية واستراتيجية واضحة لكيفية تعزيز موارد الدبلوماسية العامة وتوظيفها بما يخدم مصالح السياسة الخارجية للدولة.

 على هذا الأساس برزت أهمية الدبلوماسية الرقمية فى ظل التقدم التكنولوجى السريع الذى يشهده العصر الراهن، وثورة الإعلام الرقمى، وانتشار تطبيقات الهواتف الذكية، وشبكات التواصل الاجتماعى. اذ أصبحت المنصات الرقمية الاجتماعية وسيلة فعالة لترسيخ علاقات تواصل وبناء شبكة دبلوماسية عبر الفضاء الافتراضى وإيصال الرسائل إلى ملايين الناس عبر مجتمعات الإنترنت. حيث منحت منصات التواصل الاجتماعى للمواطن القدرة على التعبير والحشد والتنظيم وأزاحت احتكار الدولة والمؤسسات الإعلامية للرسالة السياسية ونقلت القوة من الدولة إلى شبكة الإنترنت.

إن المفاهيم والدلالات الأساسية أعلاه، تظهر أن التغيير فى العمل الدبلوماسى هو عامل جوهرى بنيوى فى طبيعة العمل الدبلوماسى على المستوى المؤسسى وعلى مستوى الممارسة على حد سواء، فما تتسم به البيئة الدولية اليوم من تنافس كبير بين الدول على مختلف الصعد الأيديولوجية، والاقتصادية، والسياسية، والنمو المتسارع والانفجار الكمى والنوعى للمعرفة وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وتنوع مصادر القوة التى تمتلكها الدول للتأثير على سلوكيات الدول الأخرى بما يحقق مصالحها، وزيادة تأثير الرأى العام على السياسات الخارجية للدول. كل هذه العوامل تجعل التغيير فى العمل الدبلوماسى ضرورة حتمية لا فرار منها؛ لذا لا بد لصناع القرار السياسى والديبلوماسى وللعاملين فى الحقل الدبلوماسى أيضا التهيؤ والاستعداد المبكر لكل تغيير، بل وربما المساهمة فى صناعة التغيير. وأن الدبلوماسية الفاعلة والمؤثرة هى التى يكون لديها من القدرة والمرونة ما يمكنها من التفاعل مع مسارات التغيير، والتى سوف تسهم بفاعلية باستمرارية العمل الدبلوماسى الناجع والمؤثر.


رابط دائم: