الوعى المختطف.. التيك توك وتهديد الأمن القومى
4-8-2025

د. هبة الحسينى
* مدرس العلوم السياسية-كلية اقتصاد وإدارة- جامعة ٦ أكتوبر

تعيش المجتمعات الحديثة صراعًا مفتوحًا على الوعى، إذ بات تشكيل العقول، لا الأجساد، هو ساحة المعركة الحقيقية. وتُعدّ منصات التواصل الاجتماعى، وعلى رأسها تطبيق "تيك توك"، إحدى أبرز الأدوات المستخدمة فى هذا الصراع، ضمن ما يُعرف بحروب الجيل الرابع والخامس.

وفى ظل ما يشهده العالم من تحولات رقمية متسارعة، تتصاعد المخاوف من الأدوار المركبة التى باتت تلعبها هذه المنصات فى التأثير على الأخلاق العامة، والوعى الجمعى، بل وتهديد منظومة الأمن القومى نفسها، لاسيما فى دول الجنوب التى لم تستكمل بعد مشروعها الحداثى.

لا تنبع خطورة "تيك توك" من كونه مجرد وسيلة ترفيهية، بل من كونه أداة هندسة سلوكية تُعيد برمجة أنماط التلقى والتفكير والتمثُّل القيمى لدى الأفراد، لاسيما الشباب والأطفال، فى اتجاهات قد تكون مغايرة لما ترنو إليه الدول من بناء إنسانٍ واعٍ ومحصَّن إدراكيًا.

ففى لحظة يبدو فيها أن الإنسان بات مستهلكًا لا واعيًا للمحتوى الرقمى، تبرز منصة "تيك توك" كأحد أهم تجليات الحروب غير التقليدية على وعى الشعوب. لم تعد المسألة ترفيهًا بريئًا أو انخراطًا شبابيًا عابرًا فى عالم الرقص والتحديات، بل أصبحت تلك المنصة ساحةً لإعادة تشكيل الإدراك الجمعى، وتفكيك منظومات القيم، وتعريض الأمن القومى للمخاطر تحت مسمى "حرية التعبير" و"الترند".

فما بين خوارزميات تروّج للمحتوى الصادم، وانتقائية فى تصدير الرموز، وفضاء مفتوح يتيح للأكاذيب أن تتحول إلى "قضايا رأى عام"، أصبحنا أمام تهديد مركّب لا يمس فقط بنيات الدولة، بل يشكك فى مقوماتها الثقافية والأخلاقية، ويفكك إدراك المواطن للحقيقة.

يطرح هذا المقال إشكالية مركزية ترتبط بتأثير "تيك توك" فى بنية الأخلاق والوعى الجمعى فى المجتمعات العربية، خاصة من زاوية علاقته بالأمن القومى. ذلك أن التفاعلات داخل هذا الفضاء لا تُنتج فقط مضامين ترفيهية أو خطابًا شبابيًا عابرًا، وإنما تُعيد تشكيل النظام الرمزى القيمى لدى الفئات الأكثر هشاشة وتأثرًا، فى ظل غياب الحصانات المؤسسية والثقافية.

ينقسم التحليل إلى عدة محاور تتناول: منطق السيطرة الخفية داخل تيك توك، وظاهرة تسليع الإنسان بوصفه مادة استهلاكية رقمية، واستغلال قضايا حساسة، مثل العنف، والهوية، والعدالة فى صناعة الإثارة، وانتهاءً بالتداعيات الأمنية والثقافية لانتقال التحديات من المجال الرقمى إلى المجال الواقعى.

• تسليع الإنسان وتفكيك المعنى عبر منطق "الفيديو القصير":

يُعد تيك توك تجسيدًا حيًّا لمفهوم "اقتصاد الانتباه" الذى يقوم على اختطاف لحظة التركيز العقلى وتحويلها إلى مادة قابلة للبيع. لا يقدم التطبيق محتوى بالمعنى التقليدى، بل يُنتج سلسلة متواصلة من المقاطع السريعة التى تُجهز على قدرة الإنسان على التأمل، وتسجن الوعى فى دوائر من الاستجابة الفورية غير الواعية. وفى ظل هيمنة "الخوارزميات الموجهة"، يتم الترويج لمضامين لا تقوم على القيم أو المعرفة، بل على الجاذبية والإثارة، والقدرة على خلق صدمة عاطفية أو حسية.

وكنموذج دالّ على خطورة هذا النمط، نرصد عددًا من المقاطع التى تحوّلت إلى "تريندات" تتداولها الملايين، تقوم على مشاهد العنف التمثيلى، أو استخدام الأطفال والنساء فى سياقات ترويجية مسيئة، أو تقديم سرديات زائفة عن النجاح والثراء السريع، مما يُنتج ما يمكن تسميته بـ"التحايل الوجودى"، حيث لا يُكافأ الإنسان على الفعل الحقيقى، بل على القدرة على إثارة انتباه الخوارزمية والجمهور الرقمى.

هذا المنطق يُعيد تشكيل الإنسان ككائن معروض، تتحدد قيمته بمدى قابليته للمشاهدة والمشاركة، لا بمدى وعيه أو مساهمته الحضارية. وهو ما يُسهم تدريجيًا فى تفكيك المعنى، وتراجع مكانة القيم، مثل الاجتهاد، والصدق، أو حتى الجمال الفنى، لصالح قيم سطحية قائمة على الأداء الزائف والتمثيل المفتعل والانفعالات اللحظية.

• من التسلية إلى التهديد.. كيف ينتج "تيك توك" هشاشة الوعى القومى؟

لا يقتصر الخطر على المستوى الأخلاقى أو التربوى، بل يمتد إلى تهديد الأمن القومى فى معناه الثقافى والاجتماعى. إذ يمثل "تيك توك" اليوم بيئة خصبة لتكريس العنف الرمزى، وشرعنة أنماط سلوكية شاذة، وتفكيك المرجعيات الوطنية والثقافية. ففى غياب رقابة حقيقية، ومع الترويج الخوارزمى لمضامين "صادمة"، أو "ساخرة"، أو "خارجة عن السياق"، يغدو "التيك توك" أداة تفكيك بطيء لمنظومة القيم التى تُسهم فى تماسك المجتمع.

تُظهر دراسات حديثة فى علم الاجتماع الرقمى أن المنصات القائمة على خوارزميات الاهتمام الفورى لا تُنتج تعددية فكرية، بل تؤدى إلى "غرف صدى" Echo Chambers، حيث يُعاد تدوير المحتوى المشابه، مما يؤدى إلى تضخم الانحيازات، وتسطيح الفهم، وتشظية الانتماء الوطنى لمصلحة هويات افتراضية ضيقة أو مفككة.

وتتضاعف خطورة هذا الواقع حين يُستخدم تيك توك لتصفية الحسابات السياسية أو المجتمعية، كما فى حالات التشهير، والابتزاز، ونشر الاتهامات المرسلة فى قضايا حساسة. فقد تحوّلت بعض القضايا إلى ما يشبه "العدالة الشعبوية الرقمية"، حيث يُدان الأفراد أو تُنتهك سمعتهم بناءً على سردية مصورة أو مقطع مُجتزأ، بما يتجاوز مؤسسات الدولة التقليدية ويُعيد توزيع سلطة "الفرز الأخلاقى" فى أيدى جمهور غير مؤهل.

• التناول الشعبوى لقضية إنسانية حساسة:

تجلّى هذا النمط بوضوح فى التفاعل الشعبوى الواسع مع قضية تداولها "تيك توك" خلال الأشهر الماضية، حيث ظهرت فتاة تتهم شخصيات عامة بتورطها فى قضايا اتجار بالأعضاء البشرية. ورغم حساسية الاتهام، وخطورته الجنائية والأخلاقية، لم تتردد خوارزميات تيك توك فى الترويج المكثف للفيديو، ولم يتوانَ الجمهور عن المشاركة فى توزيع الاتهام دون تحقق أو التزام بالحد الأدنى من المعايير الأخلاقية أو القانونية.

تحوّلت القضية من مسارها القانونى إلى ساحة استقطاب رقمى، تم فيها خلط الحقائق بالتحريض، واستُخدم فيها البُعد الإنسانى للضحية المحتملة كورقة لإثارة الرأى العام، دون مراعاة لحجم الانتهاك القانونى لقرينة البراءة أو لحقوق الأفراد فى الخصوصية والحماية من التشهير.

هذا النموذج يكشف بجلاء كيف أصبح التيك توك بيئة خصبة لتصفية الحسابات، أو ممارسة ما يشبه "الفضيحة المُعولمة"، التى لا تُنتج عدالة، بل تخلق حالة من الفوضى القيمية والتشويش العام، قد تُستغل لاحقًا لإضعاف مؤسسات الدولة أو خلق فجوة بين المواطن وسلطاته الشرعية.

وختاما، لابد أن نجد طريقا نحو مقاربة أمنية–ثقافية جديدة حيث إن المخاطر المتراكبة لتطبيق تيك توك لا تستوجب فقط تدخلات قانونية، بل تستدعى تفكيرًا استراتيجيًا فى كيفية إعادة تأهيل البيئة الرقمية تربويًا وأخلاقيًا. فالأمن القومى لا يُبنى فقط بالسلاح والردع، بل كذلك بالحصانة القيمية، والقدرة على إنتاج وعى ناقد، ومجتمع رقمى يعرف الفرق بين الحرية والفوضى، وبين التسلية والإهانة الرمزية للذات الجماعية.

وفى هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى التقاطع بين دور الدولة ودور الأسرة والمؤسسات التعليمية والدينية فى بناء "مناعة رقمية" جماعية، تتجاوز الحلول التقنية أو الحجب المؤقت للمحتوى، نحو بناء إنسان أكثر وعيًا بكيفية تلقى المحتوى، واختيار ما يُشاهده، وتمييز الصدق من التضليل.

وأمام التهديدات المركبة التى يطرحها تيك توك، لا بد من تحرك متعدد المستويات، يجمع بين الحسم القانونى، والاحتراف التربوى، والوعى الاستراتيجى:

1- إنشاء وحدة وطنية لرصد المحتوى الرقمى الضار تتبع جهة مستقلة، تكون مهمتها تقييم تأثير المحتوى على القيم المجتمعية والأمن الثقافى.

2- إدراج مناهج "التربية الرقمية" فى المدارس والجامعات، بما يزرع لدى الأجيال الناشئة أدوات نقد المحتوى وتمييز المعلومة من التضليل.

3- إطلاق حملات إعلامية منظمة تُسلط الضوء على خطورة بعض الاستخدامات الشائعة للمنصات، مع دعم صناع محتوى إيجابى قادر على المنافسة.

4- تفعيل اتفاقيات التعاون الدولى لمكافحة الجرائم الرقمية، خاصة فى ما يتعلق بالاتجار بالمعلومات، والتشهير الرقمى، واستغلال الأطفال.

5- تشجيع البحث العلمى الجاد فى علم الاجتماع الرقمى، لبناء قاعدة معرفية وطنية تُرشد السياسات العامة فى هذا المجال بالغ التعقيد.

بهذا الفهم المتكامل، يمكن ألا نكتفى فقط بردّ الفعل تجاه "تيك توك"، بل نتحرك نحو استعادة السيطرة على وعينا الجمعى، وتحصين الأمن القومى من بوابة الثقافة.


رابط دائم: