فى معنى الشرق الأوسط الجديد!
4-8-2025

أيوب نصر
* باحث مغربي متخصص في المدارس الفكرية والاستشراق

أخطأ الكثيرون حين ربطوا وصوروا ما يروج فى أروقة الإعلام وتلهج به ألسنة السياسيين حول الشرق الأوسط الجديد، على أنه تغيير فى الخرائط وتبديل فى الحدود التى وضعها سايكس-بيكو، وقد ساهم فى خطئهم هذا، ما فعله وزير المالية الإسرائيلى، بتسلئيل سموتريتش، حين اعتلى منصة وعليها ما تسـمى "خارطة أرض إسرائيل"؛ تضم حدود ‫المملكة الأردنية الهاشمية والأراضي الفلسطينية المحتلة، خلال مشاركته في مؤتمر نظمته مؤسسة إسرائيلية في باريس 19 مارس2023 (1).

فهل مفهوم الشرق الأوسط الجديد يعنى توسع إسرائيل فى دول الجوار وإعادة رسم خريطة المنطقة أم إن له معنى آخر غير هذا وغير الذى يسود على ألسنة المتكلمين فى هذا الأمر ويسبق إلى أذهانهم؟

أساليب التوسع:

إن بيان هذا الأمر يقتضى منا أولا بيان أساليب التوسع وعلاقته بما يحدث الآن وفى السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، حتى يتسنى لنا معرفة الأسلوب الذى تحاول إسرائيل الخوض فيه لتحقيق غايتها وهى بسط سيطرتها وإطلاق يدها فى العالم العربى.

 وبالاستقراء التاريخى، يمكن فهم أن التوسع يحدث عبر ثلاث وسائل وطرق، إما بواسطة واحدة منها منفردة أو بها مجتمعة، فأما إحداها فهى التوسع العسكرى عن طريق احتلال البلدان وضم الأراضى وتغيير الخرائط وإعادة رسم الحدود، وهذه هى الوسيلة الظاهرة والأكثر وضوحا، وهى نفسها التى تسبق إلى الذهن إذا نظرت فى الخريطة التى حملها معه سموتريتش إلى منصة باريس.

وأما الثانية فهى عن طريق التوسع الثقافى، والدينى، واللغوى، وذلك باستغلال الروابط الدينية، والثقافية، واللغوية، وقد لا تكون هناك روابط لكن يتم فرضها بالغلبة والقهر، كما فعلت الدول الاستعمارية الأوروبية فى الدول العربية والإفريقية، أو عن طريق الآلة الإعلامية والقوة الناعمة، وأظهر مثال على هذا هو كيف روجت الولايات المتحدة الأمريكية إعلاميا لنمط عيشها وأسلوب حياتها، وكيف كان لذلك أثر قوى فى مطالبة شعوب دول الاتحاد السوفيتى بالانفصال عن الاتحاد سعيا وطمعا فى نمط العيش الغربى وأسلوب الحياة الأمريكى، فلم ينفع السوفيت أمام هذه القوة لا تقدمهم فى ميدان التسلح ولا تفوقهم فى حرب المخابرات والجواسيس.

أما الطريق الثالث من طرق التوسع، فهو توفير المظلة الأمنية والعسكرية للدول وحمايتها من التهديد المحيط بها، سواء كان ذلك التهديد وهما مختلقا أو حقيقة ثابتة، وتقديم وعود بمساعدتها على التطور العلمى والنمو الاقتصادى، ومدها بكل جديد فى هذين المجالين، وهكذا تضمن السيطرة على تلكم الدولة وخضوعها وتبعيتها.

ما الوسيلة المتاحة لإسرائيل؟

1- الوسيلة الأولى:

كما أشرنا آنفا فإن فعل سموتريتش، إضافة إلى حلم إسرائيل من النهر إلى النهر، يجعل أول شيء يسبق إلى الذهن أن المنطقة الآن مقبلة على تغيير فى خرائطها السياسية وحدودها المرسومة التى نعرفها اليوم، خاصة مع الصمت المحزن على ما يحدث فى غزة وتقلص النفوذ الإيرانى، وغياب تأثير لأى قوى دولية فى المنطقة غير التأثير الأمريكى، فكل هذا يجعل ما يسبق إلى الذهن هو الوسيلة الأولى ويرجحها، ولكن مع إعادة النظر التبصر، يتضح لنا أن الوسيلة الأولى، القائمة على الفعل العسكرى واحتلال الأراضى وإعادة ترسيم الحدود السياسية، لا تصبو إليها إسرائيل، على الأقل الآن، أو أنها ليست الخطوة الأولى.

وذلك أن إسرائيل دولة تقوم على أصلين، لا يمكنها العيش والاستمرار إذا فقدت أحدهما أو كليهما، وهذان الأصلان هما الدعاية بأن إسرائيل تملك الجيش الذى لا يقهر والمخابرات التى لا تنام، والأصل الآخر هو أنها تقوم على الهجرة إلى إسرائيل، وفى الحرب تظهر حقيقة الجيش الذى لا يقهر والمخابرات التى لا تنام، فيظهر أنها جيش يقهر ومخابرات ليس فقط تنام بل تدخل فى سبات عميق، فهذان الأصلان يجعلان إسرائيل تجتنب الدخول فى حرب مع دول لها جيوش نظامية، وأسلحة قادرة على استهداف عمقها.

وقد عبر شمعون بيريز عن استراتيجية إسرائيل، ومحاولتها النأى بنفسها عن الدخول فى حرب مباشرة مع العرب فقال: "ولكى نبلغ السلام، لابد من أن نعالج المشكلات الأساسية للشرق الأوسط بصورة واقعية، ويتعين علينا أولا وقبل كل شيء أن نعترف بعقم الحرب، فالعرب لا يستطيعون هزيمة إسرائيل فى أرض المعركة وإسرائيل لا تستطيع إملاء شروطها على العرب، إن توازن القوى هذا يعكس الدرس التاريخى المتراكم من النزاع الإسرائيلي-العربى منذ 29 نوفمبر 1948"(2).

وأضاف: " فالمدرسة الدفاعية التقليدية لا تقدم حلولا للحقائق الجغرافية الحالية أو التهديدات التكنولوجية، وقد برزت القضية الجغرافية مع تطور الصواريخ الباليستية، ففى الوقت الحاضر لم تعد الاعتبارات المادية فى الاستراتيجية التقليدية مثل العوائق الطبيعية.. لم تعد ذات قيمة"(3).

فكلامه هذا يعبر عن رغبة إسرائيل فى عدم التورط فى أى حرب مع العرب لن تستطيع أن تملى فيها شروطها، وستعود عليها بتدمير الأصلين اللذين أشرنا إليهما آنفا والذين يشكلان الأصل المتين الذى تقوم عليه دولة إسرائيل، وهذا يعزز القول إن التوسع العسكرى ليس مطروحا، على الأقل باعتباره خطوة أولى، فى رحلة الصعود الإسرائيلى نحو بسط السيطرة والنفوذ فى المنطقة.

2- الوسيلة الثانية:

 يبدو لنا أن آخر شيء يمكن أن تفكر فيه إسرائيل للتوسع هو العامل الدينى واللغوى والثقافى، فأما دينيا، فاليهودية ليست دين دعوة مثل الإسلام ولا دين تبشير كالنصرانية، وإنما هى ديانة عرقية، ويصعب على غير المنتمين للعرق اليهودى أن يعتنقوا الديانة اليهودية، أما اللغة العبرية فهى تعانى أيضا من كونها منحصرة فى اليهود، على ما هم عليه من قلة، ومنهم من لا يتكلمها، أما الثقافة، والتى رأسها الدين وبعده اللغة، ثم التجارب التى راكمتها الأمة عبر قرون طويلة متطاولة فى القدم، عبر ما أنتجه المعتنقون للدين (وهنا الدين بشكل عام) وجادت به قرائحهم وخطته وولدته عقولهم وتفتقت به ألسنتهم، وما ألفوه من أساليب العيش وطرق الحياة، من لباس وأكل وأعراف، فجرى فى دمهم وسالت به مناهج تفكيرهم، فبه يقبلون ويردون، ويعرفون وينكرون، فهذا لا يملكه اليهود وذلك لعيشهم بحسبانهم أقليات منغلقة على نفسها داخل الأمم، والحضارة الوحيدة التى كانت تعطيهم حريتهم وتتعمد الانفتاح عليهم وتتيح لهم الإنتاج الفكرى والمعرفى هى الحضارة العربية الإسلامية، فكان كل ما أنتجوه عبر هذه القرون هو ضمن هذه الحضارة العربية الإسلامية، حتى قوانين الطعام فى الديانة اليهودية لا تسمح لهم أن يربطوا جسورا تمكن لهم العبور والتوسع، وفى مقال لمأمون فندى عنوانه: "حدود توسعية بين الطعام واللغة" قال فيه: "أما الكوشر، نظام الطعام اليهودى، فهو نظام صارم ومقيّد، يجعل المائدة الإسرائيلية مغلقة، يصعب على الآخرين الاختلاط بها أو الاندماج معها. لذلك لا يرى الإسرائيليون فى فكرة تجويع الفلسطينيين ذنبا، فالطعام عندهم نظام مغلق لا أداة تواصل حضارى. الطعام فى الثقافات ليس مجرد غذاء، بل هو بناء لجسور الثقة والعهد، كما فى ثقافة كسر الخبز عند العرب، أو تعبير "بِينَّا عيش وملح". وكان الملح أساسيا فى النظام القديم، فالسيطرة عليه كانت تعنى القوة، كما شرح مارك كيرلانسكى فى كتابه "الملح وتاريخ العالم"، حيث بيّن أن الملح كان سببا فى نشوء طرق التجارة، وإقامة مدن، وإطلاق حروب، وفرض ضرائب. ومع أن المائدة اليهودية تعتمد على الملح، إلا أنها مائدة مغلقة لا تبحث عن بناء جسور بين الشعوب. حين تُغلق المائدة على قواعد صارمة، يصعب أن يتوسع تأثيرها الثقافى، ويصعب معها الإحساس بالآخر الجائع. ففى الانغلاق تبلُّد للإحساس"(4).

فكل هذا لا تملكه إسرائيل حاليا لتتوسع بواسطته، فلا دينها، ولا لغتها، ولا ثقافتها يسمحون لها بتقحم البلدان.

3- الوسيلة الثالثة:

إذا كانت إسرائيل لا تقدر على التوسع العسكرى وحيازة الأراضى، على الأقل حاليا، ولا تملك من أسباب التوسع الثقافى، والدينى، واللغوى قدرا يمكنها من ذلك، فإنه لم يبق أمامها إلا الوسيلة الثالثة: "أما الطريق الثالث من طرق التوسع، فهو توفير المظلة الأمنية والعسكرية للدول وحمايتها من التهديد المحيط بها، سواء كان ذلك التهديد وهما مختلقا أو حقيقة، وتقديم وعود بمساعدتها على التطور العلمى والنمو الاقتصادى، ومدها بكل جديد فى هذين المجالين، وهكذا تضمن السيطرة على تلكم الدولة وخضوعها وتبعيتها"، يقول شمعون بيريز: " إن ما يصلح لبقية العالم يصلح لإسرائيل والشرق الأوسط، فالقدر نقلنا من عالم تسوده الصراعات الإقليمية إلى عالم تحكمه التحديات الاقتصادية والفرص الجديدة التى وفرها التقدم الفكرى والإنسانى"(5).

ولعل القارئ الكريم يريد أن يسأل ويقول، وذلك حقه وجدير به، كيف نستدل على نية إسرائيل اليوم وما تصبو إليه فى بواطنها، بكتاب كتبه صاحبه قبل أكثر من ثلاثين سنة؟، والجواب بكل بساطة هو أن ما جاء فى الكتاب هو نفسه ما يحدث فى يومنا هذا، ويكفى لمتابع يملك شيئا من الفطنة واليقظة أن يلمح ما يحدث ويسقطه على ما جاد به شمعون بيريز فى كتابه حول منظوره للشرق الأوسط الجديد، يقول بيريز: "فتوطيد السلام والأمن يقتضى ثورة فى المفاهيم"(6)، وهذا ما نراه من ترويج لفكرة أن إيران هى الخطر الأكبر والوحيد، وأن إسرائيل هم إخواننا ومعهم المصالح الحقيقية، وسبيلنا نحو التقدم يمر عن طريقها.

يقول بيريز: "هدفنا النهائى هو خلق أسرة إقليمية، ذات سوق مشاركة وهيئات مركزية مختارة على غرار الجماعة الأوروبية" ويقول: "إن بنية نظام الأمن الإقليمى فى الشرق الأوسط سوف تتمحور على نمطين من الالتزامات المتبادلة: أمة/أمة (ثنائية ومتعددة)، وأمة/منطقة. إن الترتيبات المباشرة، أمة/ أمة ستكون فى ذاتها ولذاتها، بمثابة ردع العدوان"(7).

فإسرائيل تأمل أن تجتمع دول المنطقة فى تكتل اقتصادى على غرار الاتحاد الأوروبى، وتكتل دفاعى على غرار حلف شمال الأطلسى، مقابل الوعود بالسلام، والأمن، والازدهار، والتقدم.

فأما اقتصاديا فالرابح الأكبر هى إسرائيل، لأن كل تمويل اقتصادى وعلمى وتقنى سيكون من جيوب العرب (ومعضلة كل تقدم اقتصادى وعلمى هى التمويل المالي)، وأما عسكريا فإسرائيل ستكون بالنسبة للمنطقة والتكتل الدفاعى المنشود بمنزلة الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة لأوروبا، (ولولا أمريكا لما صنعت سلاحًا بل لكانت دولة من القرون الوسطى) وهكذا ستحكم إسرائيل قبضتها على المنطقة كما أحكمت أمريكا قبضتها على أوروبا، وإذا كانت أمريكا فعلت ما فعلت عن طريق تخويف الأوروبيين من الروس، فإن إسرائيل تخوف العرب من الإيرانيين.

إن الصراع هو الذى يحدث الحاجة والضرورة، والحاجة والضرورة هما العاملان الأساسيان فى تطور الإنسان وتقدمه، وبمفهوم المخالفة فإن السلام يزيل الحاجة والضرورة ويحمل الإنسان على العجز والكسل ويورث التبلد فى العقل، فالادعاء أن السبيل إلى التقدم والتطور هو تسليم أعنة العرب إلى إسرائيل تقودها حيث تشاء تحت مبررات واهية لا تستقيم، هو كذب وتدليس على العقول، وإلقاء للكلام على عواهنه كما اتفق من غير تحر الصواب.

الهوامش:

(1) ما قصة الصورة التى أجبرت الأردن على استدعاء السفير الإسرائيلى؟

https://2h.ae/qDri

(2) شمعون بيريز، الشرق الأوسط الجديد، ص ص43، 44، دار الأهلية، ترجمة: محمد حلمى عبدالحافظ.

(3) المصدر السابق، ص34.

(4) مأمون فندى، " حدود توسعية بين الطعام واللغة". https://2h.ae/QgXe

(5) شمعون بيريز، الشرق الأوسط الجديد، ص38.

(6) المصدر السابق، ص ص61، 62.

(7) شمعون بيريز، الشرق الأوسط الجديد، ص62.

 


رابط دائم: