ولكن ما يفوق كل هذه الأرقام وقعًا، هو مشهد الحياة وقد تحوّلت إلى صراع بدائى للبقاء، فالأمهات لا يقللن عدد الوجبات هذه المرة حفاظًا على المخزون، بل يقترضن، ويُقسّمن قطعة خبز واحدة بين أربعة أطفال.حتى أصبح العثور على حفنة دقيق بمثابة مكسب يومى، وانتصار! فلم تعد "التدابير الوقائية" تجدى، إذ انهارت كل استراتيجيات البقاء.
فحين تتحوّل الأمومة إلى معركة مع العدم.. لا تعود الحياة حياة، بل انتظار مؤلم للمجهول. وحين يصبح فتات الخبز أملًا، هنا لا يكون الحديث عن "حرب".. بل عن نهاية كل ما تبقّى من قيم العدالة.
وفى قلب هذه المجاعة، تدفع الأمهات الثمن مضاعفًا. فبينما يُجاهدن لإبقاء أطفالهن على قيد الحياة، تُنهك أجسادهن تحت وطأة الجوع، حيث تكشف بيانات منظمة "العمل ضد الجوع" أن واحدة من كل أربع نساء حوامل أو مرضعات تعانى من سوء تغذية حاد لتصل إلى 25% فى يوليو 2025 بزيادة مقلقة بلغت 16% على يونيو2025([8]). أما الحقيقة الأشد فتكًا، فهى أن نحو 100% من النساء الحوامل والأطفال بين 6 و23 شهرًا لا يحصلون على الحد الأدنى من الغذاء اللازم للنمو أو البقاء([9]). ففى هذا الركن المحاصر من العالم، لا تحتفل الأمهات بالحياة، بل يقلقن من استقبالها وهى مثقلة بالحرمان.
وهنا نحن لا نتحدث عن خطر محتمل، بل عن كارثة فعلية تتسارع، إذ تشير تقديرات المنظمة إلى أن 300 ألف طفل دون سن الخامسة، و150 ألف امرأة حامل أو مرضعة، بحاجة عاجلة إلى مكملات علاجية للبقاء أحياء([10]). ورغم الجهود اليومية لنحو 100 متخصص من منظمة "العمل ضد الجوع"، والذين يحاولون توفير المكملات والمياه النظيفة والرعاية الصحية، فإن العدّاد لا يتوقف، بل يتسارع([11]).
لقد أصبحت غزة ــ وفق كل المؤشرات الأممية ــ أقرب ما تكون إلى مجاعة القرن، فى مشهد يذكّرنا بما شهدته إفريقيا فى تسعينيات القرن الماضى، لكن هذه المرة... على مرأى ومسمع من "العالم المتحضر".
فى غزة، لا تبدأ الحياة بخطوتها الأولى، بل تتعثر منذ اللحظة الأولى بالجوع والحرمان. فى غزة، لا تنبض الحياة فى الأرحام، بل تخنقها المجاعة قبل الولادة. ففى هذه الحرب، لا تُسمع الانفجارات.. بل يُقاس الدمار بوزن الأجساد الهزيلة، وصمت الأمهات، ودموع الأطفال التى لا تجد ما يُسكِتها. هنا، لا تُدوَّن أعداد الضحايا بالرصاص.. بل تُحصى بنبضاتٍ تتلاشى جوعًا تحت الحصار.
ومع كل رقم يتصاعد فى تقارير الجوع، يزداد ثقل الأسئلة التى لا تجد من يُجيب عنها، فما يجرى فى غزة ليس مجرد أزمة إنسانية.. بل مرآة تعكس صمتًا دوليًا تُقابَل به معاناة مستمرة.. وفى عالم يُقاس فيه كل شيء بالمصالح، يبقى الأطفال وحدهم بلا حماية، ينتظرون موقفًا لا بيانًا.
فهل ينجح الجوع فى غزة بما لم تنجح فيه السياسة؟ وهل تتمكن أجساد الأطفال الهزيلة، وصرخات الأمهات الصامتة، أن تزعزع اعتياد أوروبا على الحياد المتردّد تجاه إسرائيل؟
· ففى لحظة سياسية نادرة، تقف أروقة القرار الأوروبى أمام اختبار أخلاقى وسياسى معقّد، عنوانه: غزة.. فماذا بعد؟ هل ستتحرك أوروبا بما يتجاوز بيانات الإدانة التقليدية؟ وهل تستطيع الخروج من عباءة الحسابات الاستراتيجية إلى مساحة الفعل الحقيقى؟
· تلك الأسئلة لم تعد مطروحة فقط فى الإعلام أو أروقة المجتمع المدنى، بل تجد صداها الآن داخل البرلمان الأوروبى نفسه. حيث وقّع نحو أربعين نائبًا من 15 دولة أوروبية، يمثلون ست كتل سياسية مختلفة، على بيان مشترك يطالب باتخاذ إجراءات صارمة ضد الحكومة الإسرائيلية بسبب ما وصفوه بـ "الانتهاكات الجسيمة" فى غزة، والتى تمثل بحسب تعبيرهم انتهاكًا واضحًا لاتفاقية جنيف والقانون الإنسانى الدولى([12]).
- حظر سفر.. وضغوط لتعليق الشراكة:
وتزامن هذا البيان مع تحرك غير مسبوق من الحكومة الهولندية، التى فرضت حظر سفر على وزيرين إسرائيليين، فى سابقة تعكس تحولًا واضحًا فى لغة التعامل السياسى. بالتوازى، يضغط النواب الأوروبيون على المفوضية لتعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، وهى الاتفاقية التى تحدد الإطار التجارى والسياسى للعلاقات بين الجانبين، وسبق أن وصفها دبلوماسيون أوروبيون بأنها "الورقة الأقوى فى يد الاتحاد الأوروبى" للضغط على إسرائيل([13]).
بينما التحركات لم تقتصر على المستوى الدبلوماسى، بل امتدت إلى برامج التعاون العلمى. حيث اقترحت المفوضية الأوروبية تعليق مشاركة إسرائيل فى برنامج "هورايزون أوروبا"، أحد أضخم برامج الاتحاد فى تمويل الأبحاث والابتكار، والذى يشمل مجالات حساسة، مثل الأمن السيبرانى، والطائرات المسيّرة، والذكاء الاصطناعى([14]). ورغم أن هذا التعليق لا يزال جزئيًا، إلا أن البيان البرلمانى المشترك يطالب بتوسيع نطاقه، مؤكدين أن "الكلمات لم تعد كافية، وأن الوقت حان لإجراءات تليق بحجم الكارثة"."هورايزون أوروبا" تحت المجهر.
- اعترافات رسمية بدولة فلسطين كخيار سياسى أخلاقى:
وفى تطور موازٍ، بدأت ملامح تغيير فى سياسات الدول على الصعيد الثنائى، حيث اعترفت كل من إسبانيا وأيرلندا بدولة فلسطين فى مايو 2024، فى خطوة اعتُبرت ضاغطة على إسرائيل، وتمهّد لاتجاه أوسع فى داخل أوروبا)[15]). وفى يونيو، لحقت سلوفينيا بتوسيع الاعتراف. كما أعلنت بريطانيا رسميًا نيتها الاعتراف بدولة فلسطين فى سبتمبر 2025 إن لم تتحقق شروط التهدئة ورفع الحصار. وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية([16]).
ليتزايد الزخم الدبلوماسى للاعتراف بدولة فلسطين، ويقفز إعلان فرنسا، والمملكة المتحدة، وكندا، والبرتغال وعدة دول أخرى بأنها قد تعترف قريبًا بدولة فلسطين فى الأمم المتحدة، مما يضعها فى مصاف أكثر من 140 دولة أخرى حول العالم([17]).
والتحول لم يتوقف عند حدود الاعتراف، بل شهدت أوروبا خطوات أشدّ وضوحًا، ففى خطوة أكثر حزما، أعلنت سلوفينيا حظرًا كاملًا على تصدير واستيراد الأسلحة إلى إسرائيل، فى أول قرار من نوعه داخل الاتحاد الأوروبى، استجابة لما يُوصف بـ "تصاعد الإدانة الأخلاقية" للسلوك الإسرائيلى فى غزة([18]). ما يعكس تنامى المواقف الأخلاقية الرافضة لتجاهل الكارثة فى غزة.
الخلاصة: إلى أين تتجه أوروبا.. لحظة تحوّل أم غضب عابر؟
هل يقود جوع غزة المتصاعد أوروبا لتحويل تأفّفها الأخلاقى إلى مواقف فعلية تؤثر فى الاتفاقات والعلاقات؟ وهل يصبح الصمت مخاطرة تُحسب فى المعايير السياسية؟ فيما يصبح القول "يجب أن يتغيّر المجتمع الدولى" أكثر من مجرد تعاطف إعلامى؟ بينما يبقى السؤال الأخطر: هل ما نراه من مواقف أوروبية هو تحوّل بنيوى فى نظرة القارة العجوز لعلاقاتها مع إسرائيل، أم مجرد رد فعل أخلاقى مؤقت سرعان ما يتبدّد تحت ضغط مصالح السياسة؟ فهل ينجح الأطفال الذين ماتوا جوعًا فى هزّ أركان العلاقات الغربية مع إسرائيل؟ وهل تنجح الصورة –أخيرًا– فى كسر جدار الإنكار، داخل غرف القرار الأوروبى؟
ختاما، فلا يُطلب من العالم أن يتعاطف، بل أن يتذكّر مسئوليته، حينما تصبح المجاعة أداة حرب جديدة، ويصبح الشهيد، شهيد رغيف لم يصل، وشهيد حفنة أرز لم تُمنح.
المراجع: