تكتيكات "المنطقة الرمادية" .. تايوان على خريطة القوة الصينية وخيارات الردع الدولية
4-8-2025

د. محمد عبد العظيم الشيمي
* أستاذ العلوم السياسية – جامعة حلوان

تعد العلاقة بين الولايات المتحدة وتايوان واحدة من القضايا الأكثر تعقيدًا فى السياسة الدولية، خاصة فى ظل تصاعد التوترات بين تايوان والصين. منذ فترة طويلة، اعتمدت الولايات المتحدة سياسة الغموض الاستراتيجى تجاه تايوان، حيث سعت إلى الحفاظ على توازن دقيق بين دعم استقلال الجزيرة وبين تفادى التصعيد المباشر مع الصين. ومع تزايد القدرات العسكرية الصينية وتطور الأوضاع الجيوسياسية فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ، أصبح من الواضح أن هذه السياسة تواجه تحديات كبيرة. كما أن التوجهات السياسية للرئيس الأمريكى دونالد ترامب قد أضافت بعدًا جديدًا لهذه المسألة، حيث يتراوح موقفه بين دعم تايوان وتطبيق ضغوط اقتصادية على الجزيرة، مما يثير تساؤلات حول المستقبل الاستراتيجى لهذه العلاقة. فى هذا السياق، تطرح هذه الفقرات تسليط الضوء على الأبعاد العسكرية والسياسية لهذا الصراع، ومدى تأثير السياسات الأمريكية فى الحفاظ على الوضع القائم، فضلا عن التحديات التى تواجهها الولايات المتحدة فى الحفاظ على الردع فى مضيق تايوان.

فى أواخر شهر أكتوبر من عام 1975، وبينما كانت الولايات المتحدة تحاول استثمار الخلاف بين موسكو وبكين لبناء تفاهم مع الصين الشيوعية، توجّه وزير الخارجية الأمريكى حينها، هنرى كيسنجر، إلى العاصمة الصينية للقاء الزعيم ماو تسى تونغ، الذى كان يعانى من المرض، وجهًا لوجه. خلال ذلك اللقاء، صرّح ماو بأن بلاده تستطيع الانتظار قرنًا من الزمان من أجل «استعادة» تايوان إذا اقتضى الأمر: «حتى لو أعيدت إلينا الآن، فلن نقبل بها، فهى غير مرغوبة. هناك عدد كبير من المعادين للثورة هناك. بعد مرور مئة عام، قد نرغب بها وسنقاتل للحصول عليها».

وبعد مرور ما يقارب نصف قرن، يعمل الرئيس شى جين بينج على تقليص الفترة الزمنية التى أشار إليها ماو. ففى عام 2013، أعلن أن مسألة تايوان «يجب ألا تبقى معلّقة للأجيال القادمة». وقد شرعت الصين فى ظل قيادة شى فى تنفيذ واحدة من أضخم التحركات العسكرية خلال أوقات السلم فى التاريخ، مع التركيز على تطوير القوات البرمائية والبحرية والدقة الهجومية المصممة خصيصًا لانتزاع الجزيرة ومنع تدخل القوات الأمريكية وشركائها الإقليميين. وفى عام 2023، صرّح بيل بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية حينها، بأن شى أصدر توجيهات للجيش الشعبى الصينى للاستعداد لاحتمال السيطرة على تايوان بحلول عام 2027.
ومع ذلك، كما كتب القائد الصينى الشهير صن تزو فى «فن الحرب»: «القائد البارع ينتصر من دون قتال». فالقوة العسكرية المباشرة ليست الخيار الوحيد أمام شى. إذ لجأ أيضًا إلى وسائل تُعرف بـ «تكتيكات المنطقة الرمادية»، وهى إجراءات تهدف إلى اختبار جاهزية جيش تايوان، واستقرار قيادتها، وتحمل سكانها، فضلًا عن قياس مدى التزام الولايات المتحدة. ووفقًا لتقرير صادر عن معهد السياسة الاستراتيجية الاسترالى، فإن «الخيار العسكرى المباشر، سواء عبر غزو شامل أو حصار بحرى، لا يزال ممكنًا، لكنه يحمل فى طيّاته مخاطر كبيرة قد تهدد قبضة الحزب الشيوعى على السلطة. وطالما أن شى يعتبر تلك المخاطر واقعية، فمن غير المرجّح أن يلجأ إلى تحركات قد تؤدى سريعًا إلى صدام مسلح».

فى مقابلة أُجريت فى أكتوبر مع مجلة «الإيكونوميست»، وصف قائد البحرية التايوانية الأعلى حملة الضغط التى تمارسها الصين على تايوان بأنها «استراتيجية الأناكندة»، حيث تهدف الصين إلى «تطويق الجزيرة تدريجيًا وبثبات» للضغط عليها وتهديد أمنها. وقد شبهها آخرون بما يُعرف بـ «غلى الضفدع»، وهى استراتيجية تسعى لتحقيق الهدف نفسه ببطء ولكن بطريقة غير ملحوظة.

فى العام الماضى، سجل جيش التحرير الشعبى الصينى رقما قياسيا بلغ 3٫075 طلعة جوية داخل منطقة تحديد الدفاع الجوى لتايوان (ADIZ)، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 81% مقارنة بعام 2023. كما شهدت الانتهاكات البحرية زيادة ملحوظة، حيث بدأ خفر السواحل والبحرية الصينية فى تنفيذ دوريات بحرية مكثفة حول الجزيرة، تصل فى بعض الأحيان إلى عدة أيام متواصلة، بما فى ذلك على الساحل الشرقى لتايوان. هذه المناورات تأتى فى إطار تدريبات تحاكى حصارًا بحريًا سريعًا ومؤثرًا.
من جهة أخرى، قام خفر السواحل الصينى بتنفيذ عمليات «تفتيش» أحادية الجانب على السفن التايوانية، وتضييق الخناق على قوارب الصيد التايوانية فى مناطق قبالة جزر كينمن. وفى بعض الحالات، تعرضت كابلات الإنترنت البحرية التى تربط الجزر التايوانية بالبر الرئيسى للقطع من قبل السفن الصينية. إضافة إلى ذلك، فى عام 2024، تعرضت أنظمة الحاسوب الحكومية فى تايوان لنحو 2.4 مليون هجوم سيبرانى يوميًا، وتُعزى معظم هذه الهجمات إلى قراصنة صينيين.
وفى مارس من العام نفسه، كشف جيش التحرير الشعبى عن أسطول مكون من ثلاث عوامات خاصة، تمتاز بقدرتها على تشكيل جسر إنزال ثقيل يمكن أن يتيح للقوات البرمائية الوصول إلى تايوان فى حال نشوب صراع مسلح. إلى جانب هذه التدابير العسكرية، فرضت الصين أيضًا مجموعة من الإجراءات غير العسكرية، مثل حظر استيراد المانجو والأسماك من تايوان فى 2023، إضافة إلى تشديد القيود على حركة المرور عبر مضيق تايوان، فضلًا عن العديد من الاستفزازات الدبلوماسية التى تهدف إلى الضغط على الحكومة التايوانية.

قد يُصدر الرئيس الصينى شى قرارًا بتوجيه جيش التحرير الشعبى لفرض حصار كامل على تايوان، رغم أن مثل هذا الحصار يُعتبر بمثابة إعلان حرب رسمى. بدلا من ذلك، قد يختار شى اتباع استراتيجية أكثر تعقيدًا تتمثل فى تنفيذ «حصار بحرى» عبر نشر قوات خفر السواحل الصينية لفرض تفتيشات قسرية على السفن التى تغادر أو تدخل جزيرة تايوان، مما يؤدى إلى إعادة توجيه الشحنات إلى الصين القارية. فى العام الماضى، نفذت الصين تدريبات بحرية لمحاصرة تايوان، حيث تمكنت سفن جيش التحرير الشعبى وخفر السواحل من إغلاق النقاط الحيوية التى تمثل نقاط اختناق استراتيجية فى غضون أقل من 24 ساعة.
من شأن هذه الإجراءات أن تكشف عن نقاط ضعف تايوان الجوهرية، باعتبارها جزيرة تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة بنسبة 97٪، وعلى 70٪ من إمداداتها الغذائية، بالإضافة إلى توليد أكثر من 100٪ من ناتجها المحلى الإجمالى من خلال التجارة. فى حالة تنفيذ حصار بحرى، يُحتمل أن يكون هدف شى هو دفع الحكومة التايوانية لتقديم تنازلات سياسية جوهرية وسريعة، مثل الالتزام بإعادة التوحيد مع الصين، وتقليص العلاقات مع الولايات المتحدة، تقييد الأنشطة العسكرية، والخضوع للرقابة الجمركية الصينية، وأخذ تنازلات إضافية.

أحد التحديات التى قد تواجه الصين فى هذه الحالة هو جعل من الصعب التمييز بين التدريبات العسكرية والتصعيد الفعلى الذى قد يؤدى إلى صراع مفتوح. فمن المحتمل أن تقوم الصين بتنفيذ مناورات ضخمة أو تدريبات تمهيدية لتقييم ردود الفعل الدولية، مثل اعتراض السفن. وبناءً على رد فعل الولايات المتحدة والدول الأخرى، قد تتراجع الصين مع انتهاء «التدريب» أو، فى حال عدم مواجهة أى مقاومة، قد تستمر فى التصعيد بشكل تدريجى. ومن هنا يطرح السؤال: متى ستشعر الولايات المتحدة بأنها مجبرة على التدخل؟
حتى الآن، أخفقت السياسات الصينية فى تحقيق هدفها الأساسى، وهو إقناع الشعب التايوانى بتعزيز علاقاته مع الصين القارية وانتخاب قيادة سياسية معتدلة تميل نحو بكين. حاليًا، يعرّف 67% من التايوانيين الذين شملهم الاستطلاع أنفسهم على أنهم «تايوانيون أولًا»، وليسوا «صينيين أولًا»، وهو تحول جذرى مقارنة بما كانت عليه نتائج الاستطلاعات فى العقود الماضية، حيث كان معظم السكان يعتبرون أنفسهم خليطًا من الهوية التايوانية والصينية. علاوة على ذلك، تشير استطلاعات الرأى الحديثة إلى أن الغالبية العظمى من التايوانيين مستعدون للدفاع عن جزيرتهم والقتال من أجلها فى حال اندلاع صراع مع الصين.

من جهته، عمل الرئيس التايوانى لاى تشينج-تى، وسلفه تساى إنج-ون، على تعزيز الإنفاق الدفاعى، وزيّدا مدة الخدمة العسكرية الإلزامية للذكور فى سن التجنيد، بالإضافة إلى تعزيز الروابط العسكرية والاقتصادية مع الولايات المتحدة. فى وقت سابق من هذا الشهر، اختتمت تايوان تدريباتها العسكرية «هان كوانغ» التى استمرت عشرة أيام، وهى من أكبر وأطول المناورات العسكرية التى أجرتها الجزيرة على الإطلاق. إلا أن تايوان، رغم هذه الجهود، لا يمكنها الرد بشكل كامل على التهديدات الصينية بمفردها، حتى وإن اعتمدت استراتيجية «القنفذ» التى تقوم على أسلوب الحرب غير المتكافئة. وكما يُقال فى المبادئ العسكرية: «الكمية تحمل نوعية خاصة بها»، تظل القوات المسلحة التايوانية صغيرة مقارنة بالتوسع العسكرى الهائل الذى تشهده الصين.
وفى إحدى المحاكاة الحربية الحديثة التى أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، أظهر النموذج أن «سيناريو تايوان تقف وحدها» انتهى به إلى انتصار جيش التحرير الشعبى الصينى. لم تكن النتيجة محل شك، حيث حقق الجيش الصينى تقدمًا بطيئًا ولكن ثابتًا خلال العملية». إن الحقيقة المؤلمة التى لا مفر منها هى أن الدعم الخارجى -وبالأخص من الولايات المتحدة- يُعتبر العامل الحاسم فى استمرار الوضع القائم لاستقلال تايوان بحكم الواقع.

ومن هنا يظهر السؤال الاستراتيجى الأكثر إلحاحًا أمام سياسة إدارة ترامب الثانية فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ: هل الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على الردع فى مضيق تايوان؟
لطالما تبنت الولايات المتحدة سياسة الغموض الاستراتيجى تجاه تايوان، لكن هذا الغموض لا يُعتبر أمرًا مستمرًا بالضرورة. فهو يعتمد على وجود تهديد موثوق بالتدخل، والقدرة على الحفاظ على هذا التهديد تصبح أكثر صعوبة مع التزايد السريع للقدرات العسكرية الصينية. وعلى الرغم من وضوح مَن سيكون صاحب القرار فى السنوات الأربع المقبلة، إلا أن السؤال يبقى مفتوحًا بشأن مدى استعداد الرئيس ترامب لتحمل هذا العبء. فمن ناحية، قام ترامب بتعيين عدد من الشخصيات المتشددة تجاه الصين فى إدارته، مثل وزير الخارجية ومستشار الأمن القومى ماركو روبيو، ونائب وزير الدفاع لشئون السياسات بريدج كولبى. كما أدار ترامب الصراع التجارى مع الصين بشكل تصاعدى. إضافة إلى ذلك، قررت إدارته تسريع مبيعات الأسلحة الأجنبية، وهى مسألة حساسة للغاية بالنسبة لتايوان، التى لديها طلبات تسليح أمريكية حيوية تصل قيمتها إلى 21 مليار دولار. كما دعت إدارته الكونجرس إلى تخصيص مليار دولار هذا العام لدعم الدفاع الذاتى لتايوان.

من ناحية أخرى، يعارض ترامب بشكل صريح الانخراط فى حروب جديدة ويُظهر اهتمامًا كبيرًا بإبرام صفقات اقتصادية كبيرة. فهل يمكن أن تتضمن إحدى هذه الصفقات الكبرى مع الرئيس شى تقديم تنازلات بشأن تايوان مقابل مكاسب تجارية أو اقتصادية؟
فى الأشهر الأخيرة، وصف ترامب تايوان بأنها «سرقت» صناعة الرقائق الإلكترونية الأمريكية، وانتقد العجز التجارى الأمريكى مع تايوان، الذى يبلغ نحو 74 مليار دولار. كما هدد بفرض رسوم جمركية بنسبة 32% على جميع الواردات التايوانية، مع فرض رسوم قد تصل إلى 25% أو أكثر على أشباه الموصلات، وطالب تايوان بدفع المزيد مقابل الحماية الأمريكية. ورغم أن الخبراء فى السياسة الخارجية وأعضاء الكونجرس من كلا الحزبين لا يزالون يدعمون تايوان بقوة، فإن مواقفهم بدأت تتباين بشكل متزايد مع الرأى العام الأمريكى. ففى استطلاعات رأى حديثة، أيد 36% فقط من الأمريكيين فكرة إرسال قوات أمريكية للمخاطرة بحياتها لصد حصار صينى أو مقاومة غزو صينى لتايوان.

إذا كان هناك أمر ثابت فى السياسة الخارجية الأمريكية اليوم، فهو أن الوضع القائم أصبح أضعف من أى وقت مضى. ففى حين قال ماو تسى تونج لهنرى كيسنجر إن مسألة تايوان لن تُحل قبل مرور قرن من الزمان، سارع كيسنجر بالرد قائلا: «لن يستغرق الأمر مئة عام. بل أقل من ذلك بكثير».
وعليه، تظل قضية تايوان واحدة من القضايا الأكثر حساسية وتعقيدًا فى السياسة الدولية، حيث تتداخل فيها العوامل العسكرية، والاقتصادية، والجيوسياسية بشكل معقد. ورغم السياسات الأمريكية القائمة على الغموض الاستراتيجى، فإن التحديات التى تفرضها زيادة القوة العسكرية الصينية، إلى جانب التحولات السياسية داخل الولايات المتحدة، قد تجعل هذه السياسة أقل قدرة على الاستمرار دون مراجعة أو تعديل. إن رغبة الرئيس الأمريكى ترامب فى فرض ضغوط اقتصادية على تايوان، جنبًا إلى جنب مع معارضة الانخراط فى حروب جديدة، قد تعكس تغييرًا فى الديناميكيات الإقليمية قد يكون له تبعات كبيرة على مستقبل الجزيرة. وفى هذا السياق، يبقى السؤال الأبرز هو: هل ستتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على الردع فى مضيق تايوان، أم إن التوترات ستتزايد لتصبح نقطة اشتعال قد تؤدى إلى مواجهة مباشرة؟ إن هذه الأسئلة ستظل مفتوحة، فى ظل استمرار التحديات الكبرى التى تواجه السياسات الدولية فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ.


رابط دائم: