حلفاء طهران بين الصمت والانكفاء..قراءة في تحولات المواقف الإقليمية
14-7-2025

د. نجلاء سعد البحيري
* باحثة في الشئون الإقليمية، مدرس بجامعة قناة السويس
منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، اتخذت طهران مسارًا مختلفًا في بناء نفوذها الإقليمي عبر تأسيس شبكة من التحالفات غير التقليدية، حيث تجاوزت منطق العلاقات الرسمية لتبني ما أصبح يُعرف بمحور المقاومة. هذا المحور الذي رفع راية التصدي للاحتلال الإسرائيلي وجعل دعم القضية الفلسطينية أولوية عقائدية وإقليمية، تحول مع مرور العقود إلى أداة استراتيجية لمواجهة النفوذ الغربي والأمريكي في الشرق الأوسط.
 
بنى هذا المحور على تضافر قوى غير دولية، تنظيمات عابرة للحدود، إلى جانب حكومات وحركات تدور في فلك إيران، وشمل أكثر من ساحة ملتهبة بدءًا من لبنان مرورًا بفلسطين وسوريا والعراق واليمن، وانتهاءً بعلاقات متشابكة مع أطراف في مناطق أخرى مثل أمريكا اللاتينية. هدف هذا التكوين الاستراتيجي كان خلق توازن ردع مقابل التحالفات الغربية والإسرائيلية الخليجية، وفرض نفوذ إيراني فاعل في معادلات الأمن والسياسة بالمنطقة.
 
لكن المواجهة المباشرة التي اندلعت بين طهران وتل أبيب في يونيو 2025 على مدى عدة أيام، شكلت زلزالًا كشف عن هشاشة جوهرية في منظومة الحلفاء التي بنتها إيران على مدار أكثر من أربعة عقود. فالحرب لم تكن فقط رد فعل عسكريًا على اغتيالات أو استهدافات متكررة، بل كانت أول مواجهة عسكرية بهذا الحجم بين الطرفين منذ عقود طويلة، وأظهرت بوضوح غياب الحلفاء التقليديين، أو اكتفاءهم بدور محدود جدًا أو محسوب، ما طرح تساؤلات جدية حول معنى وجود التحالفات الإيرانية وجدواها في المشهد الإقليمي الجديد.
 
من هم هؤلاء الحلفاء الذين راهنت عليهم إيران طيلة هذه السنوات؟ ولماذا لم يقدموا الدعم الذي توقعته طهران في تلك اللحظة الفارقة؟
 
1. حزب الله في لبنان: بين الحسابات الداخلية والردود المحدودة
يعد حزب الله الذراع الأقوى والأكثر تنظيمًا داخل محور المقاومة، حيث استندت إيران عليه كحليف رئيسي لتحقيق أهدافها في لبنان ومنطقة شرق المتوسط. ومع ذلك، خلال حرب يونيو 2025، اكتفى الحزب بردود محدودة جدًا على الجبهة الجنوبية للحدود مع إسرائيل، محافظًا على قواعد الاشتباك التي فرضتها السنوات السابقة، ولم ينخرط في مواجهة شاملة أو مفتوحة.
 
يرجع هذا الحذر إلى عوامل عديدة، يأتي على رأسها الوضع الاقتصادي الكارثي الذي يعيشه لبنان، حيث يشهد انهيارًا ماليًا ونقديًا حادًا أثر بشكل مباشر على الاستقرار الداخلي. الأوضاع الاجتماعية والسياسية المرتبكة أدت إلى رفض شعبي واسع لأي تورط في نزاع عسكري جديد، حيث أظهرت استطلاعات الرأي أن غالبية اللبنانيين يفضلون السلام والاستقرار بعيدًا عن أتون الحروب الإقليمية.
 
إضافة إلى ذلك، كانت هناك تهديدات إسرائيلية مباشرة تستهدف المناطق الحيوية مثل الضاحية الجنوبية وبيروت، ما دفع حزب الله إلى تقليل مستوى الرد الفعلي حفاظًا على المدن اللبنانية من دمار واسع النطاق. في خطاب الأمين العام حسن نصر الله بتاريخ منتصف يونيو 2025، أعلن الحزب عن اتباع “العقلانية الثورية” في مواجهة التصعيد، مشددًا على أن أي خطوة تصعيدية يجب أن تحسب بدقة حتى لا تؤدي إلى كارثة داخلية.
 
وقد أشارت تقارير إعلامية لبنانية إلى نقل الحزب جزءًا من قواته إلى مناطق أكثر هدوءًا مثل البقاع، وتقليص ظهوره الإعلامي لأسباب أمنية. إذن، الحذر اللبناني الداخلي، والخوف من تدخل دولي واسع، وضغوط القوى الإقليمية والدولية، كلها عوامل شكلت جدارًا من القيود أمام استجابة حزب الله الميدانية.
 
2. حماس والجهاد الإسلامي: إرهاق ميداني وتوتر مع طهران
يأتي جناح المقاومة الفلسطينية كحليف مهم لإيران، لكن فترة ما بعد حرب غزة التي امتدت من أكتوبر 2023 حتى فبراير 2024 شهدت تراجعًا كبيرًا في قدرات حماس والجهاد الإسلامي، خصوصًا على الصعيد العسكري والتنظيمي. خسرت الحركتان آلاف المقاتلين، وتعرضت بنية الأنفاق ومخازن الأسلحة لضربات دقيقة من قبل إسرائيل، مما أثر بشكل واضح على قدرتها على المشاركة في أي مواجهة إقليمية لاحقة.
 
الدعم الإيراني ظل محدودًا، إذ اقتصرت طهران على خطاب سياسي وإعلامي مؤيد، من دون توفير دعم عسكري أو لوجستي نوعي خلال المواجهة، وهو ما أدى إلى فتور مكتوم في العلاقة بين الطرفين. طهران شعرت بأن قرار السابع من أكتوبر جاء منفردًا دون تنسيق، وحماس بدورها شعرت أن إيران استثمرت الحدث إعلاميًا دون تقديم دعم ميداني يذكر.
 
وعلى الصعيد الداخلي، بدأت أصوات براغماتية تظهر داخل حماس تدعو إلى إعادة تموضع الحركة والبحث عن دعم عربي وإقليمي أوسع بعيدًا عن التبعية المطلقة لطهران، وهو ما دفع لظهور تحركات وساطات قطرية وسعودية لتقريب وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية والسلطة، ما يفسر جزءًا من الانكفاء الميداني خلال حرب يونيو 2025.
 
3. النظام السوري: الحذر الاستراتيجي تحت وطأة الانهيار الداخلي
بالرغم من كونه من أقدم حلفاء إيران، اختار النظام السوري موقفًا حذرًا في مواجهة حرب يونيو، مقتصرًا على تقديم بعض التسهيلات اللوجستية لطهران دون الانخراط في هجمات أو فتح جبهات جديدة ضد إسرائيل.
 
عوامل هذا الانكفاء تتعدد بين الضغوط الروسية التي سعت لمنع التصعيد العسكري في سوريا للحفاظ على مصالحها، والوضع الداخلي الهش الذي تعيشه دمشق من انهيار اقتصادي، وفرض عقوبات غربية شديدة، مع استمرار الانقسامات الجغرافية بين مناطق النظام والمعارضة وقوات سوريا الديمقراطية.
 
أيضًا، استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية خلال شهري مايو ويونيو 2025 مواقع حساسة في ريف دمشق والقنيطرة، مستهدفة مخازن أسلحة إيرانية وقواعد لحزب الله، ما خلق حالة ردع إضافية للنظام السوري.
 
4. الميليشيات الشيعية في العراق: الانشغال بالسياسة المحلية والردع الأمريكي
مثلًا "عصائب أهل الحق" و"النجباء" شكّلت أساسًا لانتشار النفوذ الإيراني في العراق، لكن خلال حرب يونيو اكتفت هذه الفصائل بشن هجمات محدودة على قواعد أمريكية في الأنبار ودير الزور، ثم توقفت تحت ضغوط واشنطن.
 
حكومة محمد شياع السوداني في بغداد لعبت دورًا مركزيًا في ضبط التصعيد، موجهة رسائل تهدئة مفادها أن العراق لا يرغب أن يصبح ساحة حرب بين إيران وأمريكا أو إسرائيل. كما تكشفت صراعات داخلية بين الفصائل على النفوذ والموارد، مما أعاق قدرتها على التحرك بشكل موحد، وأضعف من جاهزيتها لمواجهة عسكرية حقيقية.
 
5. الحوثيون في اليمن: الحماس الخطابي والفاعلية الرمزية
كان الحوثيون أكثر الأطراف الحماسية خلال المواجهة، حيث نفذوا هجمات متكررة على السفن التجارية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، موجهين ضربات رمزية ضد المصالح الإسرائيلية والأمريكية.
 
إلا أن هذه الهجمات لم تؤثر على معادلة الردع، إذ تعرض الحوثيون لضربات جوية أمريكية وبريطانية استهدفت مراكز إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة، مما قلل من قدرتهم على تنفيذ عمليات نوعية. الخطاب التعبوي الذي أطلقه قادتهم لم يترجم إلى دعم ميداني ملموس لإيران أو محور المقاومة.
 
تحولات استراتيجية: من مشروع مقاومة متكامل إلى أدوات ضغط محلية
المشهد العام بعد حرب يونيو 2025 يعكس تآكلًا عميقًا في طبيعة التحالفات الإيرانية، إذ باتت الأطراف تتحرك وفق حسابات وطنية ضيقة ومصالح داخلية، مع مراجعات فكرية وسياسية تحوّل بعضها إلى وكلاء محليين أو أدوات ضغط تفاوضية أكثر من كونها شريكًا موحدًا في محور إقليمي.
 
فكرة المقاومة المتكاملة، التي شكلت الأساس للخطاب الإيراني لعقود، تراجعت لتفسح المجال لحسابات واقعية تهيمن عليها الظروف المحلية، وتعقيدات السياسة الدولية، ما يطرح تحديات كبيرة لطهران في إعادة إنتاج دورها الإقليمي.
 
مآلات المشهد: تراجع الردع وصعود الواقعية السياسية
أولًا، ضعف مصداقية المحور، إذ فشلت إيران في توحيد حلفائها في أول مواجهة مباشرة على هذا المستوى، وتراجع الخطاب الثوري أمام قوة الردع الإسرائيلية الحديثة والمتطورة.
 
ثانيًا، صعود مسار التطبيع، حيث باتت إسرائيل تُنظر إليها كشريك أمني محتمل لدى بعض الدول العربية، مما قلل من حدة الصراع في بعض العواصم، وبدد التركيز على الصراع كعنوان رئيسي للسياسة الإقليمية.
 
ثالثًا، ازدياد الضغط الدولي على أذرع إيران، من خلال فرض عقوبات جديدة وتنسيق أمني مكثف بين الغرب ودول الخليج، مع إعادة تموضع عسكري إسرائيلي.

 


رابط دائم: