كيف تنهار الشرعية الدولية فى عيون الشعوب؟
14-7-2025

د. هبة الحسينى
* مدرس العلوم السياسية-كلية اقتصاد وإدارة- جامعة ٦ أكتوبر

من الواضح أن إدراك الشعوب لفكرة الشرعية الدولية فى ظل الأزمات الممتدة من فلسطين إلى أوكرانيا قد تغير عما قبل، حيث تآكلت الثقة الشعبية فى النظام العالمى، وسط تصاعد لبدائل المقاومة الرقمية والوجدانية، وفى ظل صمت دولى بات يُرى كصمت متواطئ.

فى الأزمنة العادية، تلجأ الشعوب إلى القانون الدولى كملاذ أخير، كضامن للعدل حين تعجز القوة، وكمعادل أخلاقى حين تفشل السياسة، لكن يبدو أن العالم الذى نشهده اليوم، يتخلّى حتى عن هذا الوهم الأخير.

فمن غزة إلى أوكرانيا، ومن سوريا واليمن إلى السودان ولبنان، وبين الصراع والتعاون فى أمن البحر الأحمر إلى حافة الصراع الإيرانى–الإسرائيلى، يتبدى أمامنا مشهد غير مسبوق من الصمت المتواطئ، والشرعية الانتقائية، والعدالة ذات الهوية الواحدة، لم تعد الأمم المتحدة سوى ظلٍّ مفرغ من الفعل، ولم تعد قوانين الحرب تحمى من الموت، بل باتت تُستخدم لتبريره.

ففى عامٍ واحد، شُيّعت "إنسانية" النظام الدولى أكثر من مرة، حيث قُتل آلاف الفلسطينيين بلا مساءلة، تُمزّق السودان فى غياب أى تحرك حقيقى، تُعاقَب إيران على أى ردّ، وتُغضّ الأبصار عن ضربات إسرائيل المفتوحة وغياب العدالة فى التعامل معها من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بحكم أنها الدولة الوحيدة التى تمتلك سلاحًا نوويًا ولكنها غير منضمة لمعاهدة حظر الانتشار النووى، وتُدار الحروب بالوكالة فى فراغ أخلاقى كامل.

لكن السؤال المركب هنا: كيف ترى الشعوب هذه الفوضى؟ وكيف تنعكس تلك الانتقائية فى الوعى الجمعى العربى والعالمى؟ وهل لا تزال هناك ثقة فى أن "النظام الدولي" يُمكن أن يُنصف، أو يردع، أو يحمى؟ أم إننا أمام نهاية فعلية لفكرة "الشرعية الدولية" كما تأسست بعد الحرب العالمية الثانية؟

هنا لا نسعى لتوثيق الانهيار المؤسسى فقط، بل لاستكشاف ما فعله هذا الانهيار فى ضمائر الناس، لأن نهاية القانون لا تبدأ بإلغاء النصوص، بل حين تكفّ الشعوب عن تصديقها.. وحين تتحوّل العدالة إلى ذكرى، لا إلى وعد.

فحين تأسس النظام الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، وُلدت معه فكرة جديدة نسبيًا: أن القانون يمكن أن يردع القوة، وأن الأمم مهما اختلفت أحجامها تظل متساوية أمام الشرعية، لكن هذه الفكرة لم تصمد طويلًا.

من فيتنام إلى رواندا، ومن غزو العراق إلى تقسيم السودان، ومن تجاهل فلسطين إلى شرعنة التدخلات العسكرية الانتقائية، بدأت الشرعية الدولية تفقد مضمونها الأخلاقى تدريجيًا.

وبات واضحًا أن ما يُسمى بـ "النظام العالمي" لا يُنصف الضعفاء، بل يخضع لمعادلة المصالح، ويُدير العدالة كأداة سياسية لا كمبدأ قانونى.

الشعوب هنا، لم تعد تحتاج إلى تقارير حقوقية لتكتشف ازدواجية المعايير؛ هى ترى ذلك يوميًا. ففى غزة، آلاف الشهداء، وحصار شامل، ودعم معلن للعدوان، ومجتمع دولى يُبرر بدل أن يُدين. وفى أوكرانيا، تسليح مفتوح، وتحالف دولى للدفاع عن شعب أبيض، وتكريس لفكرة أن هناك "ضحايا يُستحقّ لهم الإنصاف" وآخرين لا. وفى إيران، يُدين النظام الدولى أى تصعيد منها، لكنه غض الطرف عن الاغتيالات والضربات التى استهدفتها من إسرائيل، كذلك الحال فى سوريا، ولبنان، والعراق.

هكذا يتحول الصمت من تقاعس إلى تواطؤ مرئى، وتفقد الشعوب إيمانها بأن النظام الدولى منصف أصلًا.

من هنا، نجد أن الانهيار الحقيقى ليس فقط فى المؤسسات، بل فى وجدان الشعوب، فلم تعد "الشرعية الدولية" تُؤخذ على محمل الجد، بل تُقابل بسخرية مُرّة، وتتنامى سرديات العدالة البديلة، من قبيل المقاومة، والمقاطعة، والسرد الشعبى، ويُعاد إحياء مفاهيم السيادة والكرامة الوطنية كأطر للصمود لا للمساومة، فلم تعد الشعوب تنتظر عدالة من الخارج، بل تصنع لغتها الخاصة للنجاة والاحتجاج.

نتيجة لكل ما سبق، برزت منصات التواصل الاجتماعى كمنصات بديلة للرواية والمساءلة.

ففى غياب العدالة الرسمية، بات المواطنون –لا الحكومات– هم من يُوثقون الجرائم، ويُديرون حملات الضغط، ويُعيدون تعريف "المجتمع الدولي" كمجتمع رقمى حى، لا كمجموعة من الدول.

فى الحرب على غزة، مثلًا، لعبت مقاطع الفيديو والبث المباشر دورًا يتجاوز فى تأثيره مئات الجلسات الدبلوماسية، وفى ظل الصمت الأممى، كانت منشورات الضحايا على "إنستغرام"، و"تيك توك"، و"إكس (تويتر سابقًا)" تنقل الألم لحظة بلحظة، وتُعيد تشكيل الوعى العالمى بالقضية.

لقد سمحت هذه الوسائل بظهور "عدالة شعبية رقمية"، قد لا تُنتج قرارات أممية، لكنها تُنتج تعاطفًا عالميًا، وتُربك السرديات الرسمية، وتمنح الضحية صوتًا فى مواجهة الرواية المُحتكرة للسلطة.

ختاما، يمكن القول إنه فى عالم يتآكل فيه القانون، وتُدار فيه العدالة بمعايير القوة، لم يعد انهيار "الشرعية الدولية" احتمالًا مستقبليًا، بل واقع معاش، لكن الخطر لا يكمن فقط فى عجز المؤسسات، بل فى أن الشعوب لم تعد تراها شرعية من الأصل.

ما نشهده اليوم ليس فقط تصدعا فى النظام، بل تحوُّلًا فى الإيمان به، وحين يسقط الإيمان، لا تعود المشكلة قانونية أو سياسية، بل وجودية، فنحن ربما لا نعيش نهاية النظام الدولى بصيغته المؤسساتية، لكننا بالتأكيد نعيش نهايته فى وجدان الشعوب، وحين تصمت العدالة طويلًا، تتكلم الذاكرة ولا تُسامح أحدًا فى إهدار حقوقها تحت مظلة الشرعية الدولية المزعومة.

 


رابط دائم: