دلالات الصفقة العسكرية المحتملة بين طهران وبكين وانعكاساتها
2-7-2025

د. نجلاء سعد البحيري
* باحثة في الشئون الإقليمية، مدرس بجامعة قناة السويس

في توقيت بالغ الحساسية إقليميًا ودوليًا، جاءت زيارة وزير الدفاع الإيراني العميد محمد رضا أشتياني إلى العاصمة الصينية بكين لتشكّل حدثًا نوعيًا يفتح الباب أمام قراءة جديدة لمعادلات التسلح في الشرق الأوسط. فهي ليست مجرد صفقة عسكرية بين بلدين، بل مؤشر على تحول مدروس في توجهات إيران الإستراتيجية، وبداية لتوازنات جديدة قد تُعيد رسم خريطة النفوذ العسكري في المنطقة، وتؤثر في مسارات التفاعل بين القوى الكبرى.

تأتي هذه الزيارة في ظل تزايد التوترات في الخليج العربي، وتصاعد المواجهات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، والتطورات في البحر الأحمر، إلى جانب الجمود في ملف الاتفاق النووي. وفي الخلفية، انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية، بما أضعف قدرتها على تلبية التزاماتها الدفاعية تجاه شركائها التقليديين، وفي مقدمتهم طهران. في هذا السياق، كان التوجه الإيراني نحو بكين أشبه بخطوة محسوبة ضمن إعادة هيكلة واسعة لتحالفاتها العسكرية.

دوافع التوجه الإيراني نحو الصين:

لأكثر من عقدين، كانت روسيا المزود الأبرز لإيران بالسلاح المتطور، خصوصًا في مجالات الدفاع الجوي والصواريخ. وقد لعبت موسكو دورًا حيويًا في دعم البرنامج الدفاعي الإيراني، غير أن واقع الحال تغيّر كثيرًا منذ فبراير 2022، حين انشغلت روسيا كليًا بالحرب في أوكرانيا، وبدأت تعاني من ضغوط داخلية وتحديات لوجستية كبيرة، بالإضافة إلى عقوبات غربية غير مسبوقة أضعفت قدرتها على إنتاج وتصدير التكنولوجيا العسكرية المتقدمة.

في المقابل، فإن الصين – التي تتمتع باقتصاد قوي ونظام إنتاج عسكري ضخم – أصبحت البديل المنطقي لطهران. ولا يخفى أن الصين، التي تسعى لتوسيع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وجدت في إيران شريكًا استراتيجيًا يمكن الاعتماد عليه في تعزيز وجودها السياسي والعسكري في الإقليم، بعيدًا عن الأطر الغربية التقليدية. وبالتالي، فإن تقاطع المصالح بين الطرفين أنتج الحديث حول هذه الصفقة العسكرية الرفيعة المستوى.

نقلة نوعية في التعاون الدفاعي:

اللقاءات التي عقدها وزير الدفاع الإيراني في بكين شملت محادثات مكثفة مع رئيس اللجنة العسكرية المركزية الصينية، وعدد من كبار المسؤولين العسكريين. وأفضت إلى توقيع اتفاق شامل يتضمن توريد أنظمة دفاع جوي متطورة، وطائرات مسيّرة من الجيل الجديد، وصواريخ دقيقة التوجيه، فضلًا عن تحديثات في منظومات الرادار الإيرانية، وتكاملها مع تقنيات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في أنظمة القيادة والسيطرة. وقد أكد البيان المشترك الصادر عقب الزيارة أن الصفقة لا تستهدف أي طرف، بل تهدف إلى دعم “الاستقرار الإقليمي” وتعزيز قدرة الردع الدفاعي الإيراني، في إطار شراكة طويلة الأمد.

لماذا الصين؟ ميزات تفاضلية تحسم التوجه الإيراني:

خلافًا لروسيا، تُعرف الصين بمرونة أكبر في التفاوض، وسرعة في التسليم، وقدرة على التوريد وفق شروط تمويل ميسّرة نسبيًا، إلى جانب مستوى عالٍ من التكنولوجيا. وهذا ما جعل بكين أكثر جاذبية لطهران التي تسعى لتطوير قدراتها العسكرية دون الوقوع في فخ الاعتمادية المطلقة على طرف خارجي. كما أن الصين لم تتورط في أي نزاع مباشر في الشرق الأوسط، ما يمنحها مساحة حركة أوسع، ومصداقية أكبر لدى العديد من الأطراف.

كما تراعي بكين في تحالفاتها الحفاظ على توازن دقيق يضمن استمرار علاقاتها الإيجابية مع مختلف القوى الإقليمية، بما فيها الدول العربية ومصر، التي تحظى بعلاقات شراكة متينة ومستقرة مع الصين. وهو أمر يجعل هذا التعاون الصيني الإيراني غير موجه ضد طرف بعينه، بل يقع ضمن استراتيجية صينية أكبر لتكريس دورها كضامن للاستقرار والحياد البناء في المنطقة.

أثر الصفقة على العلاقات العسكرية الإيرانية -الروسية:

لا تعني الصفقة بالضرورة أن طهران تخلت عن موسكو، بل ربما تؤشر إلى إعادة توزيع للأدوار داخل ما يمكن تسميته بمحور الشرق. إذ لا تزال إيران تحتفظ بعلاقات وثيقة مع روسيا في مجالات أخرى، إلا أن التأخير الروسي في تنفيذ بعض بنود التعاون العسكري، وتعقّد الظروف الميدانية في أوكرانيا، وضعف قدرة موسكو على تصدير أنظمة جديدة، كلها عوامل دفعت إيران إلى تنويع خياراتها، مع الإبقاء على التعاون متعدد الأطراف. بل يمكن القول إن إيران باتت تمارس "براجماتية مدروسة"، تسعى من خلالها للحفاظ على علاقاتها مع موسكو، والانفتاح في الوقت ذاته على الصين، بما يضمن استمرار دعم برامجها الدفاعية دون توقف، وتحصين نفسها من أي اختلال مفاجئ في موازين القوى. مواقف إقليمية ودولية…

متابعة قلقة ومراقبة مشددة:

الصفقة لم تمر مرور الكرام. إذ عبّرت العديد من الدوائر الغربية عن قلقها حيال تطوير إيران لقدرات هجومية قد تُستخدم في زعزعة الاستقرار، لا سيما في ظل التوترات المستمرة في مضيق هرمز وسوريا والعراق واليمن. كما تخشى إسرائيل أن تؤدي هذه الصفقة إلى حصول طهران على تقنيات قادرة على تجاوز أنظمتها الدفاعية الحالية، خصوصًا في مجال الطائرات المسيّرة والصواريخ الموجهة. أما دول الخليج، فتراقب من كثب هذا التحول، وسط محاولات حثيثة منها للحفاظ على تفوقها النوعي في مجال التسلح، وربما تدفعها هذه الصفقة إلى تعزيز شراكاتها الدفاعية الغربية، أو حتى استكشاف مسارات تعاون جديدة مع دول آسيوية كالهند واليابان، لتحقيق نوع من التوازن الإقليمي.

إيران والصناعات العسكرية المحلية:

بين الاكتفاء والسعي للتطوير منذ عقود، تعمل إيران على تطوير صناعاتها الدفاعية المحلية، وحققت إنجازات لا يمكن إنكارها، خصوصًا في مجال الصواريخ والطائرات المسيّرة والأنظمة الرادارية. لكنها تدرك أن هناك فجوة تقنية بينها وبين الدول المتقدمة، لا سيما في البرمجيات والذكاء الاصطناعي ومجالات الحرب الإلكترونية. لذا، تأتي صفقة بكين لتشكل جسرًا استراتيجيًا يُمكّن إيران من سد هذه الفجوة، مع الحفاظ على طابعها السيادي واستقلال قرارها العسكري. وتحرص طهران على تقديم الصفقة مع الصين كتعزيز للقدرات الذاتية، وليس استبدالًا لها. فهي مكملة لمجهود الداخل، لا بديلة عنه، وتستهدف بناء منظومة دفاعية هجينة تجمع بين المحلي والمستورد في توازن مدروس.

سيناريوهات المستقبل:

شراكة طويلة الأمد أم تكتيك مرحلي؟ من الواضح أن الزيارة الإيرانية إلى الصين وما نتج عنها من اتفاقيات ليست مجرد خطوة معزولة، بل ربما تمثل بداية لشراكة عسكرية أوسع. وقد نشهد خلال السنوات القادمة تعاونًا متناميًا بين الطرفين في مجالات التدريب، وتبادل الخبرات، وربما مشاريع مشتركة في البحث والتطوير الدفاعي. في المقابل، قد تستثمر إيران هذه الشراكة كورقة سياسية في أي مفاوضات مستقبلية، لتؤكد استقلال قرارها، وترفض العودة إلى طاولة التفاوض من موقع ضعف. وهي بذلك ترسل رسالة واضحة للمجتمع الدولي بأنها تملك بدائل متعددة، وأنها قادرة على إدارة علاقاتها بمرونة وذكاء.

الشرق الأوسط بين التغيير والتوازن:

ختاما، في لحظة يتسارع فيها التحول من نظام دولي أحادي القطب إلى مشهد متعدد القوى، تبدو الصفقة العسكرية بين طهران وبكين جزءًا من مشهد أوسع يعيد رسم التوازنات العالمية. وبالنسبة للمنطقة، فهي خطوة قد تفتح الباب أمام سباق تسلح جديد، أو تحفز القوى الإقليمية على تعزيز شراكاتها وتحسين أدوات ردعها. أما الصين، فهي تواصل خطاها الواثقة نحو تثبيت مكانتها كقوة عظمى متزنة تسعى إلى صياغة نظام دولي أكثر توازنًا، وهو ما يلقى قبولًا ملحوظًا في عواصم عربية عدة، من بينها القاهرة، التي تربطها ببكين شراكة تنموية وإستراتيجية تُعد من الأهم في القارة الإفريقية. وفي ظل هذه التحولات، تظلّ العلاقات المصرية الصينية نموذجًا يُحتذى به في كيفية تحقيق التوازن بين المصالح الوطنية والانفتاح على القوى الدولية الصاعدة، دون التفريط في الثوابت أو الانجرار إلى محاور مغلقة. وهي تجربة يمكن الاستفادة منها في فهم ديناميكيات الشراكات الدولية الجديدة التي تتبلور أمام أعيننا، برويّةٍ وحذر.

 


رابط دائم: