لا تزال التطورات الجيوسياسية تتلاحق إقليميا ودوليا، على إثر الصراعات التى اندلعت بالمنطقة وما أحدثته من اختلالات واضحة فى موازين القوى الإقليمية، غير أن حسابات السياسة العالمية والتى ارتكنت بالأساس إلى معايير الازدواجية والتمييز، عُدت فى مقدمة العوامل التى أسهمت فى نمو هذه الصراعات وتعزيزها، ولعل الصراع الإسرائيلى-الإيراني، تمكن من الدفع تجاه المزيد من هذه التطورات المتلاحقة، سيما مع بروز الولايات المتحدة على صعيد الأزمة، كداعم محورى لدولة الاحتلال، ارتأت فيها الشريك الاستراتيجى والراعى لمصالحها بالشرق الأوسط، غير أن قدرة طهران على المواجهة على المستويين العسكرى والسياسي، من حيث انتهاج الضربات النوعية مع القدرة على العودة للمفاوضات فى التوقيت نفسه، مكنها من الصمود ولو بشكل جزئى، سيما أن الشكوك لا تزال قائمة تجاه إمكانية قدرات إيران فى مجابهة الطرفين إن كانت إسرائيل أو الولايات المتحدة، إلا أن إعلان الرئيس الأمريكى عن اتفاق لوقف إطلاق نار بين إسرائيل وإيران، بهدف إنهاء الحرب، قد يعيد الأمور إلى مساراتها عقب هجمات برزت غير حاسمة، تخللتها بعض الضربات النوعية من الطرفين، وإن رُجحت بديهيا الكفة لصالح الولايات المتحدة وقدراتها العسكرية.
حيثيات المشهد:
لعبة سياسية تقاذفتها الأطراف، خدمت عليها الأهداف العسكرية وليس العكس، وبالرغم من الضربات النوعية المتبادلة بين الطرفين، إلا أنها اقتربت أكثر من مخطط "القلب الاتجاهى" إن جاز التعبير، فى إشارة إلى غياب الحسم من قبل الجانبين، وإن كان انضمام الولايات المتحدة وبروزها على صعيد الأزمة، وعبر ضرب أهم المنشآت النووية، مثَّل ترجيحا واضحا لكفة الأمور لصالح إسرائيل، ومن ثم برزت الهجمات المحسوبة والمدروس تداعياتها لترد إيران بضربة استهدفت القواعد الأمريكية فى قطر، وبحسب الحرس الثورى الإيرانى شنت إيران "هجوما صاروخيا قويا ومدمرا" على قاعدة العديد الجوية فى قطر ردا على الضربة الأمريكية على منشآتها النووية، وبحسب الإعلام الإيرانى أيضا: "القوات المسلحة الإيرانية استهدفت بهجوم صاروخى قاعدة العديد فى قطر"، التى قالت إنها "مقرّ قيادة القوات الجوية الأمريكية، وأكبر رصيد استراتيجى للجيش الأمريكى فى منطقة غرب آسيا"(1)، ما أسهم بشكل أو بآخر فى التهدئة والعودة إلى المفاوضات دون حسم يذكر من قبل الأطراف كافة، ما يؤطر من جديد لعودة الطموح الإيرانى بالعودة لاستئناف البرنامج النووى، ويشير حتما إلى عدم تمكن الضربات الأمريكية من تحقيق مستهدفاتها، وترى تل أبيب فى طهران الإشكالية الأهم والتى يجب التعاطى معها من أجل إزاحتها من المشهد الإقليمي، فمنذ 1979 وسقوط الشاه، وتصدر نظام آيات الله، لم تقبل تل أبيب بالنظام الجديد، سيما مع توظيف إيران لأذرعها بالمنطقة، وفى المقدمة حركة حماس والتى تمثل الهاجس الأكبر بالنسبة لإسرائيل، ومحاولاتها تصدير الثورة إلى المنطقة العربية، غير أن دعم إيران لحزب الله 2006 إبان حربه مع إسرائيل، ومحاولات طهران تأسيسه منذ حرب لبنان 1982، شكلت الطفرة النزاعية -إن جاز التعبير- فى العلاقات بين الجانبين، وربما ترجع حكومة اليمين المتطرف فى إسرائيل المسببات فى انطلاق طوفان الأقصى إلى التخطيط الإيرانى ودعم طهران لحماس، ومن ثم أقدمت إسرائيل 2024 على اغتيال النخبة القيادية لدى حزب الله وحماس وفى المقدمة حسن نصرالله وإسماعيل هنية، ناهيك عن العشرات من قادة الحرس الثورى وأبرزهم قاسم سليمانى 2020، ما صاحبه عدة هجمات متبادلة بين الجانبين شملت القنصليات والقواعد العسكرية، لتبرز هجمات يونيو 2025، عقب تراكمات من الصراعات الاستراتيجية بين الطرفين، ليس فقط على خلفية الدعم الإيرانى، لكن أيضا البرنامج النووى لإيران، وبروز عودة محتملة للمفاوضات بين ترامب وطهران، قبيل الضربات التى وجهتها واشنطن للمنشآت النووية.
نووى إيران.. وديناميكية الأحداث:
دفعت إسرائيل باتجاه الضغط على ترامب من أجل حتمية المواجهة العسكرية مع إيران، وتغليبها على الأطر السياسية والدبلوماسية، حيث يبرز البرنامج النووى الإيرانى كونه المحرك الديناميكى للأحداث، فمنذ تقلد ترامب مقاليد الأمور يناير 2025، وأعلن انفتاحه على المفاوضات مع إيران بغرض عودة الاتفاق النووى الإيرانى، والذى يعد بمثابة التهديد الاستراتيجى للوجود الإسرائيلي، وثمة مجموعة من النقاط الإيجابية يمكن تسجيلها تجاه التعاطى الإيرانى مع البرنامج النووي، أهمها أن إيران خضعت للتفتيش من قبل وكالة الطاقة الذرية، كما أن طهران ضمن الدول المنضمة لمعاهدة الحد من الانتشار النووى، وربما محاولات تسييس وكالة الطاقة الذرية من قبل الولايات المتحدة أسهمت بشكل أو بآخر فى هذه النوعية من المواجهات الدائرة خصوصا عقب تصريحت الوكالة والخاصة بخروقات إيران للبرنامج النووى السلمى وتجاوز نسب التخصيب المتعارف عليه، وهنا تحديدا تبرز ازدواجية واضحة فيما يخص التعاطى مع اتجاهات الدول ناحية برامجها النووية، فبينما تُقيد إيران، لم يحدث أن تم اعتراض التجارب النووية الهندية وما أعقبها من تجارب باكستانية، منتصف التسعينيات، حيث تعد الهند ضمن الدول المصنفة من حيث التسليح النووى بعدد 180 رأسا نووية، أما باكستان فتليها مباشرة وفى ضوء دعم صينى واضح من حيث الخبرات والتقنيات النووية.
ومن ثم يبرز البرنامج النووى الإيرانى كمحرك ديناميكى للأحداث فى ضوء مجموعة من المحددات، أهمها أن مدى سلامة البرنامج النووى ممثلا فى منشآت التخصيب والمفاعلات يعد ضمن الأطر الحاكمة لاستمرارية الصراعات أو إيقافها، ثانيا- أن الولايات المتحدة تعلم جيدا أن الاقتراب من المفاعلات تحديدا قد يتغير معه توازنات اللعبة السياسية والتى تديرها مع إيران، بدليل أن الضربة الأمريكية تجاه المنشآت الإيرانية ربما لا تزال محدودة التأثير، وأن مراكز الأبحاث والتى تعمدت البحث وراء مدى تأثير الضربات الأمريكية على المنشآت النووية تم تقييدها، ما يؤطر إلى أن الضربة كانت محسوبة ومتعارف جيدا على تداعياتها، مما قد يدفع أيضا إلى احتمالية العودة للمفاوضات وبروز نقطة تتلاقى عندها وجهات النظر، وأبرزت العديد من التفاصيل الفنية تجاه البرنامج نفسه، لا ترغب فيها أو تقبل بها الولايات المتحدة.
الموقف الأمريكى والتوازنات المُلحة:
رغم الدعم الأمريكى البارز لإسرائيل على المستويات كافة السياسية، والعسكرية، وحتى الاستخباراتية، واللوجيستية، إلا أن ثمة بعض التوازنات لا تزال تحرص عليها واشنطن، فى ضوء مجموعة من العوامل أهمها الداخل الأمريكى من جانب، وحتمية التدخل وقيادة المنطقة مع دعم إسرائيل من جانب آخر، توازنات أيضا تحرص عليها واشنطن ما بين ردع إيران، وفى الوقت نفسه عدم التورط معها وميليشياتها، وبشيء من التفصيل، فإن الداخل الأمريكى لم يعد يرغب بدعم إسرائيل المطلق فى موقفها من إيران، مع بروز اتجاهات أمريكية ترتأى أن المكاسب جراء دعم إسرائيل أقل بكثير من الأضرار والخسائر، خصوصا جماعات أمريكا أولا والتى تطالب ترامب بوعوده بعدم الانخراط العسكرى، كونها من أوصلته إلى البيت الأبيض، أيضا ترامب على علم مسبق بمخاطر التورط فى مواجهات مع إيران، حتى وإن كانت القدرات العسكرية لصالح واشنطن، إلا أن إيران بأذرعها المنتشرة بالمنطقة، واقترابها من تصنيع القنبلة النووية، تعد كفيلة بإثارة مخاوف الغرب، ولا أدل من الهجمات النوعية التى امتدت إلى داخل قلب تل أبيب، وبحسب صحيفة هآرتس تضرر مبنى من 32 طابقا فى تل أبيب بسبب الصواريخ الإيرانية، كما تم إجلاء 300 إسرائيلى تضررت منازلهم فى تل أبيب الكبرى وفق القناة الـ12 الإسرائيلية، كما أشارت صحيفة هآرتس، إلى أن الصواريخ الإيرانية دمرت 9 مبانٍ بشكل كامل فى رمات غان وسط إسرائيل، بينما تضررت مئات المباني، وقال رئيس بلدية رمات غان إن 100 شخص باتوا بلا مأوى بسبب الهجوم الصاروخى الإيرانى(2).
وهنا يمكن الفهم الجيد لما وراء الضربات المتبادلة وبروز الولايات المتحدة على صعيد الأزمة، بهدف إحداث حالة من الردع دون التورط فى حرب إقليمية واسعة، وإن تعمد نتنياهو جر الولايات المتحدة وتوريطها فى عمليات عسكرية، قد تدفع بواشنطن إلى مزيد من التصعيد، وهو ما لا يرغب فيه ترامب، وإن لا تزال الفرصة الاستراتيجية سانحة أمام الرئيس الأمريكى، من أجل صياغة معادلة سلام بالشرق الأوسط، وبذلك يكون قد تمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، عقب سلسلة من الفشل عجز خلالها عن إحداث الاستقرار عبر سياساته الخارجية، خاصة مع الفشل الإسرائيلى جراء عدم القدرة على تحقيق مستهدفاتها سواء فى غزة أو فى إيران، حيث يبرز الداخل الإيرانى موحدا ومستقرا فى مواجهة الكيان، خصوصا النظام السياسى المعقد فى طهران وعلاقاته المتشابكة ما بين المرشد، والحرس الثورى، ورئيس البلاد أيضا، وبالرغم من الإخفاقات الداخلية من حيث سياسات القمع أو حتى التراجع الاقتصادى، إلا أن البلاد بدت قادرة على صد دولة الاحتلال، وإن أثرت طبعا الضربات الإسرائيلية بشكل أو بآخر عقب الدعم الأمريكي.
اختلالات السياسة الدولية:
إذا بحثنا جيدا فيما وراء المسببات أو الدوافع وراء المزيد من التصعيد بالمنطقة مع الوضع فى الاعتبار بديهيا دولة الاحتلال كقاسم مشترك فى كل الجبهات التصعيدية، تبرز السياسات الدولية فى مجملها، وما تحمله من استثنائية وتمييز لدول بعينها على حساب دول أخرى، أيضا ميثاقات الأنظمة والمجتمع الأممى والتى أسهمت إلى حد كبير فى تقويض العديد من القضايا، وسمحت بتسييس العديد من المواقف العدائية والتى حضت على الصراعات، ما يبرز جيدا فى اتجاه عدد من الدول ناحية تصنيع الأسلحة النووية وأقربها الهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، والأبرز أيضا الخمسة الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن، حتى أدبيات معاهدة الحد من الانتشار النووى لم يحدث أن طالتهم، فى حين أن معظم مشاريع البرامج النووية بالمنطقة تم القضاء عليها وإجهاضها، وأبرزها العراق وليبيا، ويجرى تقييد إيران، وبالرغم من بعض سياسات إيران الإيجابية فيما يخص التعاطى مع المشهد النووى -إن جاز التعبير- ما برز فى خضوعها للتفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ولمعاهدة الحد من الانتشار النووى، إلا أن سياساتها والتى جرى التحفظ عليها، أسهمت بدورها فى التشكيك فى مستهدفاتها النووية، وبالعودة للحديث عن المؤسسات الأممية فطالما أحدثت العديد من الاضطرابات جراء توصياتها الضعيفة وغياب فاعليتها فيما يخص إلزام الدول حتى مجلس الأمن، وإن كان المؤسسة الأممية الوحيدة والتى لها الحق فى إرغام الدول، نجح الفيتو فى تقويض فعاليته، ما يؤطر إلى احتمالية تقويض البنية السياسية والأسباب التى أقيمت من أجلها مثل هذه المؤسسات.
المعادلة الشرق أوسطية الجديدة وسيناريوهات المرحلة:
تتبلور المعادلات والصياغات الجديدة فى ضوء انعكاسات التغيرات الجيوسياسية والتى تبرز على خلفية الحراكات السياسية والعسكرية المكثفة، سواء حروب أو نزاعات أو حتى تحالفات وانشقاقات، على غرار التغيرات الحادة والتى أحدثتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، كأن نطالع بحرب باردة تصدرتها روسيا والولايات المتحدة مع تراجع ألمانى واضح، أيضا انطلاق حلف بغداد بالمنطقة، وقومية عربية أدارها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، غير أن المعادلة الشرق أوسطية لا تزال طور التشكل، فلا يزال الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، كما أن الحراكات ورغم الصراعات المندلعة لم تتخطَ الحراك الدولى المتعارف عليه وفى أطر العلاقات فيما بين الدول حتى اختلالات توازنات القوى ما بين الفاعلين الدوليين لم تتمكن من بلورة المعادلة الجديدة الشرق أوسطية، وهنا من الممكن التعويل على سيناريوهين:
السيناريو الأول:
استمرار الهجمات الباهتة وغير الكفيلة بإحداث الحسم بين الأطراف المتصارعة بالمنطقة، مع سعى البعض ناحية كسب الوقت تجاه التحرك بأهدافه السياسية، سواء إيران التى ترغب بشدة فى التحرك ناحية استكمال برنامجها النووى، أو رئيس الوزراء الإسرائيلى والذى يسعى من أجل إعادة تكيف الداخل وتحدى المعارضة وبما يسمح بإعادة ترشحه 2026، وعلى المشهد الفلسطينى تبرز انقسامات الداخل واضحة مع استمرار معاناة غزة.
السيناريو الثانى:
أن يتمكن ترامب من إحداث معادلة سلام شرق أوسطية، تجمع الأطراف المتصارعة، وبذلك يكون قد تمكن من إحداث أهم المكاسب الاستراتيجية لفترته الحالية، وبما ينعكس إيجابيا على سياساته الداخلية والخارجية.
الهوامش:
[1]https://2h.ae/ehPO
[2]https://2h.ae/BOsa