يشهد الشرق الأوسط اليوم واحدة من أكثر مراحله تعقيدًا منذ نهاية الحرب الباردة، صراعات الوكالة، وانهيار بعض الدول الوطنية، وتفكك المنظومات الإقليمية التقليدية، مهّدت الطريق لظهور صراعات ذات طبيعة مركّبة، تتقاطع فيها الجغرافيا مع الجيوسياسة، والهوية مع المصالح، ويأتى الصراع الإيراني–الإسرائيلى فى القلب من هذا التحول، ليس فقط باعتباره مواجهة عسكرية غير مباشرة، بل لأنه يعكس صراع مشاريع إقليمية كبرى تتجاوز حدود الدولتين.
ما يحدث حاليًا من تصعيد متبادل بين طهران وتل أبيب، لم يعد يُقرأ فقط من زاوية الأمن النووى أو النفوذ العسكري، بل يُنظر إليه بوصفه لحظة اختبار للمنظومة الإقليمية بأسرها، إذ يُنذر هذا الصراع بإعادة تشكيل التوازنات الاستراتيجية فى المنطقة، خاصة فى ظل انكماش الدور الأمريكى التقليدي، وتصاعد أدوار لاعبين جدد كالصين وروسيا، وتنامى الأدوار الوظيفية لقوى إقليمية،مثل تركيا وإيران.
إيران تسعى لترسيخ مكانتها كقوة إقليمية من خلال أدواتها غير التقليدية: التحالفات العقائدية، والميليشيات المسلحة، والدعم غير المباشر لقوى ممانعة تمتد من اليمن حتى لبنان. فى المقابل، تتحرك إسرائيل ضمن منطق الردع الوقائي، مُستخدمة أدوات استخباراتية وعسكرية متقدمة لتوجيه ضربات استباقية، بهدف تحجيم قدرة إيران على بناء عمق استراتيجى عبر وكلائها.
لكن جوهر المسألة لا يتعلق فقط بإيران وإسرائيل، بل بمستقبل الإقليم ككل، فكل تصعيد جديد يُلقى بتبعاته على عدد من الملفات الحساسة:
- أمن الطاقة العالمي، خاصة فى ظل تهديدات محتملة لمضيق هرمز.
- استقرار الممرات البحرية فى البحر الأحمر وقناة السويس.
- بنية الدولة فى العراق، وسوريا، ولبنان، باعتبارها ساحات مفتوحة لتجاذبات النفوذ.
- مستقبل القضية الفلسطينية، التى باتت تُستخدم أحيانًا كذريعة، وأحيانًا كأداة ضغط.
"كسر القفاز الناعم".. لحظة التحول فى منطق الصراع:
بعد شهور من التصعيد الرمزى والتلويح بالقوة، تمزق القفاز الناعم للدبلوماسية بضربة أمريكية صريحة، ورد إيرانى مباشر على قاعدة أمريكية عسكرية فى قطر، نحن الآن لا نعيش فى مرحلة التفاوض بالظل، بل فى لحظة الرسائل بالنار.
فى هذا السياق ولتفكيك المشهد واستشراف مساراته فى ظل تنفيذ الولايات المتحدة لضربات مركزة ضد مواقع إيرانية ورد إيران بإستهداف مباشر لقاعدة جوية أمريكية (العديد) فى قطر23 يونيو2025، لم نعد بصدد سيناريوهات نظرية بل نعيش واحدة منها بالفعل، مع احتمال سريع للتحول إلى مواجهة شاملة، هذه القراءة تسعى إلى تأطير مايحدث ضمن أربعة سيناريوهات متكاملة تساعدنا على استشراف مآلاته وتحديد موقع العرب، ومصر تحديدا من مجرياته:
السيناريو الأول: مواجهة إقليمية شاملة:يشمل هذا التصور انزلاق المنطقة إلى حرب واسعة النطاق، تتجاوز الجغرافيا التقليدية للصراع. مثل هذا السيناريو سيؤدى إلى خلخلة البنى الأمنية فى الخليج، وتهديد مباشر لحركة الطاقة، وتدخلات دولية قد تُخرج المنطقة من أيدى أبنائها.
ومن نتائجه المحتملة: تهديد للمرات البحرية (مضيق هرمز، باب المندب)، موجات نزوح، وانهيار اقتصادى إقليمى، دخول لاعبين دوليين (روسيا، والصين، وتركيا)، واحتمالية حدوث هذا السيناريو ارتفعت بعد استهداف إيران لقاعدة أمريكية فى قطر خاصة إذا قررت واشنطن أو إسرائيل الرد بشكل موسع.
السيناريو الثانى: تصعيد محسوب ورسائل بالنار:من الممكن حدوث تصعيد عسكرى أمريكى محدود، فبعد تنفيذ واشنطن ضربات مركزة على منشآت تابعة لإيران كوسيلة "تأديب استراتيجى" دخلنا مرحلة جديدة حيث يقوم هذا السيناريو على فكرة أن الولايات المتحدة لا ترغب فى حرب شاملة مع إيران، لكنها لن تسمح بتآكل الردع الإقليمى خاصة تجاه مصالحها الحيوية فى الشرق الأوسط وعلى رأسها أمن إسرائيل، وتدفق النفط دون تهديد.
ومن نتائجه المحتملة: أنه يبقى الطرفين فى حالة احتقان قابلة للانفجار، يفتح الباب لتصعيد غير مسبوق، إيران قد ترد عبر وكلائها فى أماكن غير متوقعة.
وفى الحقيقة هذا السيناريو هو التطبيق العملى لفكرة " الردع المتحرك"، أى قدرة القوى الكبرى على إرسال رسائل عسكرية محدودة دون الدخول فى حرب مفتوحة، لكنه فى المقابل يختبر استقرار التوازنات الهشة فى الإقليم، ويعيد تفعيل دور "المسرح الثالث" – حيث تدار الحروب بالوكالة، وتحسم الرمزية السياسية بالنيران لا بالمفاوضات"، ويفتح رد إيران بشكل مباشر على قاعدة أمريكية فى قطر الباب لتصعيد ثنائى أو ثلاثى الأطراف وبالتالى هذا السيناريو هو " نقطة المنتصف الخطرة" التى قد تؤدى إلى الحرب او التهدئة.
السيناريو الثالث: حرب استنزاف طويلة بوسائط متعددة (حرب باردة- proxy cold conflict):استمرار التوتر عند مستويات قابلة للاحتواء، دون انزلاق إلى حرب شاملة، حيث يستمر الصراع عبر وكلاء الطرفين دون مواجهة مباشرة، مثل الضربات الجوية، والحرب السيبرانية، والضغوط فى مضيق هرمز، والردود الإعلامية والاستراتيجية، وهذا السيناريو يعنى استنزافًا طويل الأمد، وتآكلًا تدريجيًا فى الأمن العربي، وغيابًا للقدرة على التنمية المستقرة.
ومن نتائجه: إنهاك اقتصادى وامنى ممتد، وتوسع ساحة المعركة إلى مسارح جديدة (البحر الأحمر والعراق)، استمرار الغموض الاستراتيجى وانعدام الحسم، وهذا السيناريو لا يزال قائما بعد الأحداث الأخيرة ولكنه مهدد بالتآكل لصالح مواجهة مفتوحة، فهو الاقرب الى الاستقرار المزيف، اى انه لا يحدث انفجارا لكنه يبقى الإقليم مرهقا وغير آمن.
السيناريو الرابع: احتواء سياسى بشروط جديدة:هو سيناريو يراهن على العودة إلى مائدة المفاوضات، برعاية قوى دولية وإقليمية، ضمن صيغة توازن مصالح لا تُقصى أحدًا، لكنها تتطلب تنازلات متبادلة واعترافًا صريحًا بحدود الدور لكل طرف.
ومن نتائجه: تقليل التصعيد، وإعادة توزيع النفوذ السياسى، ورفع مشروط للعقوبات / تجميد جزئى للأنشطة النووية، وفرص حدوث هذا السيناريو تراجعت بعد التصعيد الأخير لكنها تبقى قائمة إذا استشعر الطرفان أن الكلفة بدأت تتجاوز الرسائل الرمزية.
فى خضم هذا المشهد، يبرز سؤال جوهري: ما هو موقع الدول العربية، ومصر تحديدًا، من هذه السيناريوهات؟
ليست الأطراف الفاعلة وحدها هى المؤثرة فى أى صراع إقليمي، هناك ثلاث دوائر تأثير:
- الأطراف المباشرة: (إيران، وإسرائيل، وربما الولايات المتحدة).
- الوكلاء والمسرح الثالث: (سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان).
- الدول المحورية المتأثرة استراتيجيًا: (هنا تقع مصر، ودول الخليج، والأردن).
مصر وإن لم تكن طرفًا مباشرًا فى المواجهة، إلا أنها تمتلك موقعًا استراتيجيًا حساسًا (قناة السويس – البحر الأحمر – المتوسط)، وتحتضن دورًا سياسيًا قياديًا تاريخيًا فى ضبط الإقليم.
ولمزيد من التحليل يمكن تناول موقع مصر داخل كل سيناريو كالتالى:
فى سيناريو المواجهة الشاملة:
- مصر مطالبة بحماية حدودها الغربية والشرقية فى آن واحد.
- أى تهديد لمضيق هرمز أو باب المندب يعنى تأثيرًا مباشرًا على قناة السويس والتجارة الدولية.
- احتمالات تسلل الفوضى أو الجماعات عبر ليبيا وسيناء واردة.
الرد المصرى هنا سيكون أمني–عسكري–دبلوماسى متزامن.
فى سيناريو التصعيد الأمريكى المحسوب (السيناريو الحالى):
- مصر ستتحرك سياسيًا لإعادة ضبط التوازن.
- تقديم مبادرة عربية – ربما بالتنسيق مع الأردن والسعودية – لاحتواء المسار قبل أن يتحول إلى انفجار.
- تعزيز التنسيق مع القوى الكبرى دون الانحياز لمحور.
مصر هنا تلعب دور "الضامن الإقليمى للتوازن"، لا طرفًا فى الاصطفاف.
فى سيناريو حرب الاستنزاف طويلة الأمد:
- مصر تتأثر اقتصاديًا (تأمين الممرات + أسعار الطاقة + حركة التجارة).
- تصاعد الضغوط الإعلامية نتيجة التوتر المستمر.
هنا يجب على مصر استخدام قوتها الناعمة ومؤسساتها الفكرية لتقليل التصعيد الرمزي.
فى سيناريو الاحتواء السياسى المشروط:
- مصر تملك أفضل أوراق الضغط الإقليمي: علاقاتها المتوازنة بكل الأطراف، وموقعها المقبول فى الخليج، وشرعيتها فى الوساطة.وهنا تستطيع مصر قيادة مبادرة تسوية ذكية تحفظ المصالح العربية وتُعيد تعريف قواعد الاشتباك.
مصر، بما لها من ثقل سياسي، وموقع جغرافى استراتيجي، وتاريخ حافل فى إدارة الأزمات الإقليمية، تمتلك أوراق تأثير حقيقية. لكنها بحاجة إلى تفعيل دورها من خلال:
- إطلاق مبادرة عربية لإعادة تعريف الأمن الإقليمى على أسس شراكة متوازنة.
- صياغة تصور شامل للردع العربى الجماعي.
- بناء تحالفات ذكية تحفظ التوازن دون الانخراط فى محاور استقطاب.
لقد أثبتت التجارب أن الغياب العربى عن مراكز اتخاذ القرار الإقليمى يؤدى إلى فراغ تملؤه قوى لا تضع فى اعتبارها أولويات الأمن القومى العربي، ولا مستقبل شعوبه، ولذلك فإن الدور المصرى والعربى مطلوب، ليس فقط بالدبلوماسية، بل برؤية استراتيجية طويلة المدى.
المستقبل لا يُنتظر، ولا يُمنَح… بل يُصنع، ومن يملك القدرة على التنبؤ، يملك القدرة على التأثير، بشرط أن يتحرك قبل أن يُرسم السيناريو النهائى.
"مصر ليست معنية فقط بتداعيات الصراع بل معنية بمساره ذاته. وكل سيناريو من هذه السيناريوهات الأربعة يحمل تهديدًا ما للأمن القومى المصري، لكنه فى الوقت ذاته يفتح أمامنا هامشًا ذكيًا لإعادة التموضع، ضمن مبادرة إقليمية تليق بثقلنا السياسى وموقعنا الجغرافي".