محددات بناء التماسك وصياغة الرد الاستراتيجي الإيراني
24-6-2025

د. نجلاء سعد البحيري
* باحثة في الشئون الإقليمية، مدرس بجامعة قناة السويس

في ظل صراع النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية، تبرز إيران كقوة مركزية لا تُقاس فقط بحجم جيشها أو ترسانتها، بل بقدرتها على استيعاب الضغوط وتحويلها إلى عناصر تماسك وصمود، فطهران التي تواجه منذ عقود حصارًا غربيًا وعقوبات أمريكية مكثفة، لم تسقط أو تنزلق إلى الفوضى، بل أعادت صياغة منطق المواجهة عبر تفعيل الجبهة الداخلية وبناء شبكة إقليمية تحاكي العمق الاستراتيجي للردع، وهي معادلة باتت واضحة في المواجهة المفتوحة اليوم مع إسرائيل والولايات المتحدة، حيث تمتزج العقيدة العسكرية بالهوية الحضارية، والمشروع النووي بالدور الإقليمي، لخلق صورة شاملة لصمود الدولة.

الحديث عن إيران لا يبدأ من ثورة الخميني عام 1979، بل من تاريخ عميق الجذور يمتد عبر آلاف السنين، من كورش الأخميني إلى أردشير الساساني، ومن حافظ الشيرازي إلى الفردوسي، هذه البلاد لا ترى نفسها دولة عابرة، بل وريثة حضارة، وهو ما ينعكس في بنية الوعي الجمعي الذي ينظر إلى كل تهديد خارجي بوصفه امتدادًا لمحاولة طمس الهوية، ومن هنا تتشكل بنية دفاعية لا تستند فقط إلى القوة المسلحة، بل إلى الارتباط بالماضي كرافعة للمستقبل، يرى الشعب الإيراني في نفسه حارسًا لذاكرة متجددة لا يمكن محوها لا بصواريخ إسرائيل ولا بعقوبات البيت الأبيض، ولذلك فإن مشاعر الكرامة القومية تتفوق أحيانًا على الحسابات الاقتصادية والمعيشية.

أما الجبهة الداخلية، فهي عنوان الصلابة الإيرانية، فالمجتمع الذي صمد خلال الحرب العراقية الإيرانية طوال ثماني سنوات في ثمانينيات القرن الماضي، ليس غريبًا عليه أن يعيد إنتاج نفسه عند كل منعطف تاريخي، فالإيراني لا يرى في العقوبات اختناقًا اقتصاديًا فقط، بل اختبارًا أخلاقيًا للتماسك الوطني، وهو ما يتجلى في كل لحظة تصعيد، ولعلّ جنازة قاسم سليماني عام 2020 وما رافقها من حشود مليونية خير دليل على أن التهديد الخارجي يوحد الإيرانيين بدل أن يفرّقهم، بل يتجاوز الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية، فالعرب في خوزستان، والأكراد في الشمال الغربي، والترك الأذريون في الشرق، جميعهم يذوبون مؤقتًا في لحظة الشعور بالخطر الوطني.

البرنامج النووي الإيراني ليس مجرد مفاعل أو أجهزة طرد مركزي، بل هو رمز سيادي يشبه في الوعي الشعبي الإيراني سور طيسفون أو قصور شيراز، إنه امتداد لحلم حضاري يرى في التكنولوجيا المتقدمة والتصنيع العسكري أداة لحماية الذات وفرض الندية مع الغرب، تخصيب اليورانيوم لا يُقدَّم في الخطاب الداخلي بوصفه خطوة عسكرية، بل كحق سيادي في المعرفة والبحث العلمي، فإيران لا ترى في نفسها دولة نامية تحبو على هامش التكنولوجيا، بل أمة قادرة على امتلاك الطاقة النووية والليزر والفضاء، ولذلك فإن أي اعتداء على منشآتها النووية يُفهم شعبيًا بأنه انتهاك للكرامة القومية وليس فقط ضربًا لبرنامج فني.

أما البعد الأهم في الاستراتيجية الإيرانية فهو ما يُعرف بشبكة الوكلاء، وهو توصيف غربي في الأساس، بينما تراه إيران امتدادًا لمشروع الدفاع الإقليمي، هذه الشبكة لا تمثل فقط تحالفات سياسية أو دعمًا عسكريًا، بل منظومة متكاملة من الأذرع التي تعمل ضمن رؤية مركزية، لا تًقدَّم فقط كحركات مقاومة، بل كجبهة متقدمة للردع المتوازن، كل هذه القوى لا تتحرك عشوائيًا، بل ضمن خطة منسقة يشرف عليها فيلق القدس التابع للحرس الثوري، وهو الجهاز الذي يجمع بين التنسيق العسكري والدبلوماسية الميدانية، وتستند هذه الخطة إلى مبدأ توزيع المواجهة، فبدل أن تدخل إيران في حرب مباشرة وشاملة، تفتح جبهات متزامنة، وتستنزف الخصم عبر حروب محدودة ولكن متداخلة، وهو ما يجعل الردع الإيراني موزعًا ومتشعبًا، قادرًا على الصمود أكثر من أي نموذج كلاسيكي آخر، فإيران لا تملك فقط القدرة على الرد، بل تملك حرية اختيار توقيت وشكل الرد، وهو ما يزيد من تعقيد أي حسابات أمريكية أو إسرائيلية في إدارة الحرب.

وفي هذا السياق، جاءت لحظة 22 يونيو 2025، حين شنت إسرائيل هجومًا واسعًا على منشآت نووية في فوردو ونطنز وأصفهان، إلى جانب منشآت عسكرية في طهران، فردت إيران بإطلاق أكثر من 150 صاروخًا ومئة طائرة مسيرة على مدن إسرائيلية، استهدفت البنى التحتية في بئر السبع وأشدود، ومواقع حساسة في القدس الغربية، وتسببت في حالة من الذعر والإخلاء العام، تلاها في اليوم التالي ضربات إسرائيلية دقيقة على سجن إيفين ومقرات أمنية وسط العاصمة الإيرانية، ما أدى إلى مقتل المئات واحتجاج شعبي كبير لكنه سرعان ما تحول إلى مظاهرات مؤيدة للرد ومطالبة بالثأر، في مشهد يكرر ما حدث بعد اغتيال سليماني.

وفي صباح 24 يونيو، واصلت طهران الرد بإطلاق صواريخ متوسطة المدى على القدس وبئر السبع، حيث قتل ثلاثة أشخاص وأصيب آخرون، في وقت أعلنت فيه واشنطن عبر الرئيس ترامب عن مبادرة لوقف إطلاق نار شامل، تبدأ بإيران وتتبعها إسرائيل، إلا أن إيران نفت ذلك وأكدت أنها لن تتوقف إلا إذا توقفت إسرائيل أولا، مشيرة إلى أنها ليست البادئة بالعدوان.

إقليميًا، دخلت قطر والأمم المتحدة على خط الوساطة دون نتائج ملموسة حتى اللحظة، بينما اتخذت الإمارات والسعودية موقفًا حذرًا من التصعيد، وبدأت الكويت في إجلاء رعاياها من مناطق التوتر، وأعلنت بغداد حالة تأهب في مناطق التماس مع القوات الأمريكية، اقتصاديًا، أدّى إعلان التهدئة الجزئية إلى انخفاض أسعار النفط بنسبة أربعة بالمئة، وتراجع الذهب، ما يعكس هشاشة الأسواق أمام أي تصعيد جديد، وفي المقابل ارتفعت أسعار التأمين البحري في الخليج، وحدثت اضطرابات محدودة في حركة الشحن عبر مضيق هرمز، خاصة بعد إعلان البرلمان الإيراني عن إغلاقه جزئيًا حتى إشعار آخر.
وتبقى معادلة الردع الإيرانية قائمة على ثلاث ركائز، الأولى هي تماسك الجبهة الداخلية وقدرتها على امتصاص الضربات، والثانية هي تفعيل الوكلاء بصورة متزامنة تجعل من أي حرب عبئًا متوزعًا على أكثر من جبهة، والثالثة هي استخدام أدوات الحرب غير التقليدية كالهجمات السيبرانية، حيث رصدت إسرائيل في الأسبوع الأخير أكثر من أربع محاولات اختراق لمنشآت طبية ونفطية، قالت إنها قادمة من طهران ودمشق وصنعاء في وقت واحد، مما يعكس الطبيعة الشبكية للرد الإيراني.

إن إيران اليوم لا تُختبر في قدراتها فقط، بل في مشروعها ذاته، فهي تسعى إلى ترسيخ فكرة أنها دولة لا تُدار فقط برد الفعل، بل تملك رؤية هجومية واستباقية، ورغم الخسائر البشرية والاقتصادية، فإن النظام لم يظهر أي علامة ضعف، بل على العكس، يستثمر هذه اللحظة في إعادة إنتاج روح الثورة وربطها بالحرب، مستفيدًا من المشهد الإقليمي الممزق، ومن الانقسامات داخل الكيان الإسرائيلي، ومن تردد واشنطن في الانخراط المباشر في حرب قد تجرها إلى مستنقع جديد.

في النهاية، ما يجري في الشرق الأوسط اليوم ليس مجرد حرب عابرة، بل لحظة اختبار كبرى لمعادلة الردع الجديدة، حيث لم يعد النصر يُقاس بعدد الطائرات أو الدبابات، بل بقدرة الدولة على البقاء والتماسك، وعلى إدارة الوقت والسردية والإعلام، في هذا المشهد، تحاول إيران أن تحوّل كل قصف إلى فرصة، وكل حصار إلى وعي، وكل تهديد إلى مشروع سيادي جماعي، لتقول إن الجغرافيا لا تصنع الردع وحدها، بل تصنعه الإرادة، وأن الرد يُقاس بالثبات الأطول.

 


رابط دائم: