لا تعد الحرب القائمة بين إيران وإسرائيل مجرد نزاع جغرافي أو سياسي بعيد عن معظم الشعوب العربية، بل هي أزمة نفسية تعصف بالأرواح والعقول، حتى لأولئك الذين لا يعيشون المواجهات المباشرة. فالحروب لا تقتصر آثارها على الدمار المادي فقط، بل تتغلغل في النفوس، وتثير حالة من التوتر المزمن الذي يؤثر في حياة الناس اليومية. الأخبار المتسارعة، والتحليلات المتضاربة، والخوف من امتداد الصراع، كلها تخلق بيئة نفسية مليئة بالضغط والقلق، وهو ما يشكل تهديدًا حقيقيًا للصحة النفسية ويحتاج إلى فهم دقيق حتى يتم التعامل معه بفعالية. فالشعوب اليوم لا تنتظر أن تصل الحرب إلى أبوابها كي تعيش رعبها. إنها تتابعها لحظةً بلحظة عبر شاشات الهواتف والتلفاز، وتنهال عليها الأخبار المتضاربة، وتغمرها التحليلات والتسريبات والتهديدات، فتعيش في حالة ترقّب وقلق دائمين، كأنها في ساحة معركة غير مرئية. هذا القلق العام ليس مجرد شعور عابر، بل هو حالة نفسية متجذّرة تُصيب المجتمعات في أوقات التهديدات الكبرى، وتعرف في علم النفس باسم القلق الجمعي. وهو لا يفرّق بين المهتم وغير المهتم، فالخوف حين ينتشر يتحول إلى طاقة ضاغطة تتجاوز الإرادة الفردية، وتنعكس في شكل اضطرابات في النوم، وشعور بعدم الأمان، وتوتّر داخلي متواصل، يصعب تفسيره في كثير من الأحيان.
الأمر الأكثر خطورة هو أن هذا التوتر لا يأتي فقط من الواقع، بل من الغموض. فحالة عدم اليقين التي تفرضها الحرب الحالية تُعد أحد أقوى محفّزات القلق لدى الإنسان. حين لا يعرف الشخص ما الذي سيحدث غدًا، وإلى أي مدى قد تتصاعد الأمور، وهل ستتوسع الحرب إلى المنطقة كلها أم ستظل محصورة، وهل ستتأثر الأسواق والاقتصاد والطاقة، تتوالد داخله تساؤلات لا تنتهي، وتغذّي داخله شعورًا بالخطر المستمر.
في ظل هذا المشهد، تظهر وسائل الإعلام بوصفها ساحة معركة موازية، لا تقل شراسة عن ميدان الحرب. فمع انفجار تدفق الأخبار، وتداول مقاطع الفيديو المفبركة، والتصريحات المتضاربة، يتحوّل العقل الجمعي إلى ضحية لحالة من التشويش الذهني. ويزداد التأثر حين تتحوّل الأخبار إلى وسيلة تهويل، أو وسيلة ترويج للرعب، بدلًا من نقل الحقيقة.
نتيجة لهذا التشويش، يصبح الفرد غير قادر على التمييز بين الحقيقة والخيال، ويقع تحت ضغط نفسي يتراكم بصمت. وفي أحيان كثيرة، يشعر الإنسان بالعجز الكامل أمام ما يسمعه ويشاهده. إذ لا يستطيع أن يغيّر شيئًا، ولا يملك وسيلة للدفاع أو المقاومة. وهنا يولد ما يمكن تسميته بشعور العجز، الذي قد يقود لاحقًا إلى حالة من الاكتئاب أو اللامبالاة العامة.والأطفال والمراهقون ليسوا بمنأى عن هذه الدائرة. ورغم أن وعيهم السياسي لا يزال في طور التشكّل، إلا أن حواسهم النفسية تلتقط كل إشارات القلق من حولهم. عندما يرون الكبار صامتين أكثر من المعتاد، أو يتابعون الأخبار بانفعال، أو يطيلون النظر إلى شاشات الهاتف دون راحة، يبدأ التوتر في التسلل إليهم. وقد يظهر ذلك في صورة كوابيس، أو أعراض جسدية، أو تغيّرات في سلوكهم المعتاد.
ما يجعل هذا النوع من الأزمات أكثر تعقيدًا، هو أنها لا تتطلّب مجهودًا جسديًا لمواجهتها، بل تحتاج إلى وعي نفسي عميق، وقدرة على إدارة الانفعالات. فلا أحد يستطيع أن يوقف الحرب الدائرة، لكن كل إنسان قادر أن يخلق لنفسه نوعًا من المسافة النفسية التي تحميه من التورط الكامل في الرعب والتوتر.
من هنا تأتي أهمية تنظيم استهلاك الأخبار، وتحديد أوقات معيّنة لمتابعة المستجدات، بدلًا من الاستغراق طوال اليوم في تتبّع الأحداث. كما أن التعبير عن المشاعر والحديث مع الآخرين حول المخاوف الداخلية يُعد خطوة ضرورية لتفريغ القلق بدلًا من كتمانه. ومن المفيد أيضًا العودة إلى الأنشطة اليومية المعتادة، وممارسة بعض الطقوس البسيطة التي تعيد الإحساس بالسيطرة على الواقع، كالمشي، أو الكتابة، أو حتى الاهتمام بالأبناء والحوار معهم بلغة مطمئنة.
أما على المستوى المجتمعي، فثمّة مسئولية تقع على عاتق المؤسسات التربوية، والإعلامية، والدينية، في تقديم محتوى يُساعد على التوعية، ويُعيد الناس إلى التوازن، بدلًا من زيادة حالة الذعر والانفعال.
مصادر الضغط في ظل الحرب والتعامل معها :
تتعدد مصادر الضغط في ظل الحرب بداية من الخوف من خطر التصعيد العسكري المباشر، مرورًا بالشكوك حول المستقبل السياسي والاقتصادي، إلى التأثر الإعلامي السلبي الذي يغذي الرعب. هذا التشويش المستمر يزيد من مشاعر العجز والقلق لدى الأفراد، ويخلق حالة من التعب النفسي المزمن التي لا يمكن التغاضي عنها على النحو التالى:
1- مع تدفق الأخبار بشكل مستمر، يواجه الأفراد تحديًا كبيرًا في إدارة وقتهم النفسي، حيث إن الإفراط في متابعة الأخبار يفاقم القلق والتوتر، لذا يصبح من الضروري تخصيص أوقات محددة لمتابعة المستجدات وعدم السماح للقلق بأن يسيطر على كامل يوم الفرد، مما يساهم في تقليل استنزاف الطاقة النفسية.
2- في أوقات الحروب والأزمات، يكون الجسم معرضًا لإفراز هرمونات التوتر بشكل مستمر، مما يثقل الحالة النفسية. لذلك، تُعد ممارسة التمارين الرياضية أو المشي أو حتى تمارين التنفس وسيلة فعالة لخفض مستويات الكورتيزول، ومنح الفرد فرصة لاستعادة هدوئه وسط الضغوط النفسية المتراكمة.
3- شعور الوحدة هو أحد أعظم أعداء النفس في أوقات الحروب، لذا فإن المشاركة في الحوار مع الأصدقاء والعائلة والتعبير عن المخاوف والمشاعر يخفف من الشعور بالعزلة النفسية ويعزز من القدرة على تحمل التوترات.
4- في ظل الإحساس بالخوف والقلق من الأحداث الجارية، تساعد وسائل التعبير الفني مثل الرسم أو الكتابة على تفريغ المشاعر المكبوتة وتنظيم الأفكار، مما يقلل من الضغط النفسي ويعيد ترتيب العقل بصورة أكثر هدوءًا.
5- في زمن الحروب، تنتشر الأخبار بسرعة، وتتضاعف فرص التعرض للمعلومات المضللة أو المثيرة للرعب، لذا يتحتم اختيار مصادر أخبار موثوقة وعدم الانسياق وراء الشائعات، مما يقي من الانجراف في دوامة القلق والخوف المستمر.
6- تعلم تقنيات التنفس العميق والتأمل يوفر للفرد أداة فعالة للتحكم في استجاباته العاطفية والتوترية، ويعمل على تهدئة الجهاز العصبي، مما يجعل الشخص أكثر استعدادًا لمواجهة ضغوط الحرب النفسية بشكل متزن.
7- حين يتفاقم الشعور بالعجز أو القلق إلى حد يؤثر على الحياة اليومية، يصبح اللجوء إلى المختصين النفسيين أمرًا ضروريًا، إذ يمكن للدعم المهني أن يوفر استراتيجيات علاجية تساعد الفرد على التعامل مع ضغوط الحرب بوعي وفهم عميقين.
8- المجتمع له دور فاعل في دعم أفراده خلال أوقات الأزمات، حيث يعزز تقديم الدعم النفسي الجماعي من خلال المؤسسات الدينية، والتعليمية، والاجتماعية من مقاومة الضغوط، ويخلق شبكة أمان نفسي للأفراد.
9- تمثل المرونة النفسية القدرة على التكيف مع المتغيرات والضغوط بطريقة صحية، وهي من أهم المهارات التي تساعد على الصمود النفسي خلال أوقات الحروب. وتنميتها تحتاج إلى ممارسة مستمرة للوعي الذاتي، والتحكم في المشاعر، وتبني نظرة إيجابية وسط التحديات.
إن الحرب الإيرانية-الإسرائيلية تحمل معها تداعيات نفسية تمتد إلى خارج حدودها الجغرافية، وتؤثر في شعوبنا العربية عبر موجات من القلق والتوتر. وإدارة هذه الضغوط النفسية ليست رفاهية، بل ضرورة حتمية للحفاظ على توازننا العقلي والوجداني. ومن خلال الوعي، والتنظيم، والدعم المجتمعي، واللجوء إلى وسائل التكيف الإيجابية، يمكننا أن نحمي أنفسنا وأسرنا من تبعات هذه الحروب التي قد لا نختارها، لكنها بالتأكيد تؤثر علينا.فيمكننا القول إن الحرب الجارية بين إيران وإسرائيل وإن كانت بعيدة من حيث الجغرافيا، إلا أن انعكاساتها النفسية أقرب إلينا مما نتصوّر. فالخوف ينتقل اليوم بسرعة البرق، ولا يحتاج إلى جيوش ولا إلى صواريخ. وإذا كان من حق الشعوب أن تقلق، فإن من واجبها أيضًا أن تحافظ على وعيها وسلامها النفسي، حتى لا تكون أولى ضحايا هذه الحروب المعقدة. فالحرب ليست فقط في الخارج، بل قد تبدأ في داخل الإنسان نفسه. والنجاة اليوم ليست فقط بالبقاء على قيد الحياة، بل بالحفاظ على العقل والقلب متماسكين في وجه عاصفة لا نعرف متى تهدأ، ولا كيف تنتهي.