تحديات جسيمة:| مستقبل النفوذ الإيراني في العراق بعد الانسحاب الأمريكي
28-12-2011


*

ارتبط الحديث دوما عن الانسحاب الأمريكي من العراق بالمخاطر المترتبة على ترك فراغ قوة، ستتجه إيران إلى ملئه على نحو يؤدي إلى تزايد نفوذها في المنطقة، ويضمن تحول العراق إلى دمية تحركها طهران كيف تشاء. ولكن متابعة سياسات إيران تجاه العراق، خلال الفترة السابقة على الانسحاب الأمريكي، تؤكد نجاحها في تحقيق ذلك، وفي ظل وجود القوات الأمريكية، ويعد موقف العراق من الأزمة في سوريا خير مثال على ذلك. يجادل هذا التحليل بأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق سيكون له أثر مختلف على إيران، حيث سيخلق لها تحديات حقيقية، تجعل إعادة تموضع نفوذها في العراق هو المتغير الأكثر أهمية في تحديد مستقبل نفوذها في المنطقة، ربما على نحو يفوق أهمية الوضع في سوريا، ومن أبرز هذه التحديات ما يلي :

أولا: صراع إيراني - تركي، فمن المتوقع أن يتحول العراق إلى ساحة مواجهة مباشرة بين إيران وتركيا، القوى الإقليمية الثانية في العراق. والحديث عن هذه المواجهة مرتبط باختلاف الخيار السياسي لكل منهما في العراق، والذي اتضح خلال انتخابات 2010، حيث راهنت تركيا على القائمة العراقية التي يتزعمها إياد علاوي، في مواجهة قائمة دولة القانون التي يتزعمها المالكي، في محاولة منها لتقليص النفوذ الإيراني، من خلال دعم وصول نخبة حاكمة أقل تبعية لإيران وأكثر "وطنية". ومع نجاح إيران في ضمان تمديد ولاية المالكي، تراجعت فرص تمدد تركيا اقتصاديا في بغداد وغيرها من المدن التي تتبع الحكومة المركزية في بغداد، وذلك مقابل تزايد استثماراتها في كردستان.

ومن المتوقع أن تبدأ هذه المواجهة بين إيران وتركيا، مع  معاودة الحديث عن مصير مدينة كركوك على سبيل المثال، وما إذا كانت ستنضم إلى إقليم كردستان، أم ستكون تابعة لبغداد، أم سيتم التعامل معها كإقليم ذى وضعية خاصة.  فحكومة المالكي تماطل في تطبيق مادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بكركوك، وترغب في الحفاظ على الوضع القائم حاليا في المدينة، وتدعمها في ذلك إيران، في حين تسعى تركيا للحفاظ على وضع خاص للمدينة، يضمن تمثيلا نسبيا للتركمان، ويحفظ حقوقهم الخاصة بالمشاركة في قوات الأمن الموجودة في المدينة.

ويلاحظ أنه خلال الأشهر الماضية، سعت إيران إلى تكثيف وجودها الاقتصادي في كركوك، من خلال ضخها استثمارات في مجال الطاقة وتوليد الكهرباء، في مسعى إلى تعزيز نفوذها هناك. وهذا يطرح تحديا على تركيا لموازنة النفوذ الاقتصادي لإيران في كركوك. إن هذا التحدي يرتبط بقدرة إيران على إدارة المواجهة "المباشرة" مع تركيا، كشريك لها في العراق، وهو أمر لم يتم اختباره من قبل.

ثانيا: أزمة التحالف الشيعي بالحكومة ، صحيح أن إيران دوما أرادت أن تكون هناك حكومة يسيطر عليها الشيعة، ونجحت في خلق تحالف صوري بين القوى الشيعية، رغم ما بينها من خلافات، وضمنت من خلاله استمرار نوري المالكي في منصبه على نحو يخالف نتائج انتخابات مارس 2010، إلا أنها ظلت مدركة أهمية وجود "تمثيل ما" لكل القوى الرئيسية في العراق، مع ضمان وضع مهيمن للقوى الشيعية الموالية لها، وذلك بصرف النظر عن نتائج الانتخابات. ولذا، قبلت إيران على مضض الشراكة بين التحالف الوطني والقائمة العراقية، والأكراد، استنادا لاتفاق 11 نوفمبر الذي أنهى الأزمة السياسية التي أعقبت انتخابات مارس 2010. ولكن هذه الشراكة لم تترجم فعليا، حيث احتفظ المالكي بسيطرته على المؤسسات الأمنية في البلاد، وعطل تشكيل مجلس السياسات الاستراتيجية العليا الذي نص عليه اتفاق نوفمبر.

ولكن قدرة إيران على ضمان استمرار هذه الصيغة، بعد انسحاب القوات الأمريكية، تواجهها عدة تحديات. فمن ناحية، هناك نزعة لدى المالكي لإقصاء من ليس بـ"شيعي" عن الحكومة، حيث بدأ المالكي خلال الأشهر الماضية عملية تصفية لمن يراه معارضا لسياساته التي أصبحت تتسم بالديكتاتورية، وكان آخرها سعيه لإقالة نائبه صالح المطلك، نائب رئيس الوزراء، وإصدار مذكرة اعتقال طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية، وكلاهما من قيادات القائمة العراقية. كما تم استهداف 30 شخصية مقربة من إياد علاوي رئيس القائمة العراقية، بتهمة ترتيب انقلاب على نظام الحكم.

ثالثا: مشكلة التيار الصدري، حيث يتطلب استمرار الوفاق الشيعي - الشيعي خلال الفترة المقبلة، يتطلب تنازلات سياسية حقيقية يقدمها المالكي لشركائه من القوى الشيعية، خاصة التيار الصدري. حيث من المرجح أن يدخل التيار الصدري في صراع مع المالكي، خاصة مع عدم اتخاذه خطوات نحو دمج جيش المهدي في القوات العراقية، وهو مطلب تقدم به التيار الصدري منذ أغسطس الماضي.كما أن احتمال معاودة جيش المهدي، خلال الفترة المقبلة، نشاطه العسكري، وتحدي السلطة الأمنية للحكومة، وتحويل مدينة الصدر إلى مدينة مغلقة أمام القوات العراقية كما كانت قبل مارس 2008 ، يظل قائما.

وأهمية التيار الصدري في المرحلة التالية على الانسحاب الأمريكي مرتبطة بأهميته كقوة سياسية، استطاعت أن تثبت وجودها كتيار سياسي في انتخابات مارس 2010 بعد تراجع نفوذها في الانتخابات المحلية، حيث ظل يلعب دورا مهما في تحدي مرشح الائتلاف الوطني بعد تحالفه مع المالكي، وظل متمسكا بموقفه الرافض للتجديد للمالكي وطرح منافسين له، من أمثال عادل عبد المهدي وإبراهيم الجعفري.

إلى جانب ذلك، ظل رغم تجميد جيش المهدي محتفظا بقوته العسكرية، حيث أطلق منظمتين مدنيتين تمتلكان سلاحا، وهما: "ممهدون" و"مناصرون"،لتقديم الخدمات للفقراء الشيعة، وحماية المساجد، وطور جناحا عسكريا صغيرا وسريا، هو "لواء اليوم الموعود"، هدفه المعلن مقاومة القوات الأمريكية.

وحتى الآن، لم يظهر المالكي رغبة في تقديم أي تنازلات حقيقية لشركائه، بمن في ذلك شركاؤه من الشيعة. وقد يتطلب هذا الوضع من إيران التدخل المباشر، حتى تكبح سياسات المالكي، وتحافظ على استمرار تمثيلية الحكومة للقوى الأخرى، بهدف الحفاظ على صيغة "محاصصة" تضمن استقرارا شكليا، وتضمن عدم تشكل ديكتاتور جديد يحول العراق إلى دولة "قوية". وبالتالي، فإن التحدي مرتبط بقدرة إيران على الحفاظ على قواعد اللعبة التي تخدم تلك الصيغة بين القوى الشيعية وبعضها، وبينها والقوى الأخرى.

رابعا: مخاوف التورط بحرب أهلية، فإذا كانت إيران قد نجحت في رفع تكلفة الوجود الأمريكي في العراق، من خلال توفيرها الدعم المادي والعسكري لجيش المهدي قبل تجميده، ولمنظمة بدر، وغيرهما من الجماعات المسلحة، والتي نفذت العديد من الهجمات التي استهدفت أهدافا أمريكية، فإن قدرتها على التحكم في سلوك هذه الجماعات، على نحو يجنبها التورط في أي حرب أهلية في العراق، غير واضحة، خاصة أن هناك جماعات أخرى مسلحة غير مرتبطة بإيران، حصلت بشكل أو بآخر على أسلحة إيرانية تم تهريبها إلى داخل العراق، ونفذت عمليات ضد الحجاج الشيعة الإيرانيين في أكثر من مناسبة.

وبالتالي، فإنه من المحتمل أن تخرج الفوضى التي نجحت إيران في خلقها خلال السنوات الماضية عن قدرتها على السيطرة عليها. وقد تنتقل إلى داخل الأراضي الإيرانية.

خامسا: مؤسسات أمنية ضعيفة ، حيث تنسحب القوات الأمريكية من العراق، مخلفة وراءها عراقا ضعيفا أمنيا، فالمؤسسات الأمنية العراقية بحاجة إلى إعادة هيكلة، لاسيما جهاز الشرطة، حتى يكون قادرا على القيام بمهام المرحلة التالية على الانسحاب الأمريكي. فالدعم الذي كانت تقدمه القوات الأمريكية في حماية الحدود، وفي شن العمليات، وفي تأمين نقاط التفتيش، لن يكون موجودا بالمستوى ذاته، حيث يحتاج العراق إلى زيادة عدد القوات.

فاستنادا لعدد من الخبراء، فإن العدد الحالي لقوات وزارة الداخلية يقترب من 464 ألفا، وهو غير كاف، وهناك حاجة لتوفير عنصر شرطة واحد لكل أربعة مواطنين، حتى تتم استعادة الأمن والنظام في المدن العراقية، خاصة أن الأمن في العراق لا يزال يعتمد على إظهار القوة.كما أن هناك حاجة إلى إعادة هيكلة قوات الشرطة التي تعمل في قطاعات نوعية مثل النفط، والكهرباء، وحماية المنشآت بهدف الحفاظ على الاقتصاد العراقي، وجذب الاستثمارات.

إلى جانب ذلك، فإن الأجهزة العراقية تعاني مشكلة مرتبطة بغياب الكفاءة والمهنية، حيث تعاني اختراقا طائفيا، ويتدنى فيها الولاء لجهاز الشرطة، خاصة أن من انضم إليها إما هربا من البطالة التي تتراوح نسبتها ما بين 27% و60% إذا لم يكن هناك حظر تجوال، أو لخدمة الإثنية التي ينتمي إليها. كما أن مشكلة عناصر الصحوات، الذين لم يتم دمجهم بصورة كاملة في الأجهزة الأمنية، من المتوقع أن تزداد أهميتها خلال الفترة القادمة

وهذا الوضع  يطرح نظريا أمام إيران خيارين: الانخراط في عملية إعادة بناء الأجهزة الأمنية لرفع كفاءتها، أو إبقاء الوضع على ما هو عليه، ورفع تكلفة مهمة أي دولة أخرى ستحاول رفع كفاءة هذه الأجهزة. ومن الواضح أن إيران قد فضلت الانخراط  في عملية إعادة البناء، من خلال توفير مستشارين ومدربين، بما يرفع مستوى الأداء، ويحافظ في الوقت ذاته على ضعف هذه الأجهزة، أي السير على ذات خطى خطط التدريب الأمريكية للقوات العراقية. وقد تقدمت إيران أخيرا رسميا بخطة لتدريب القوات العراقية.

ورغم ما سيضمنه ذلك لإيران من سيطرة مباشرة على الأجهزة الأمنية في العراق، فإنه قد يثير إشكاليات خاصة بتجانس أساليب التدريب، حيث تدربت القوات العراقية منذ 2004 على النمط الغربي في التدريب  القائم على "الدليل"، وعلى السيطرة الديمقراطية على الأجهزة الأمنية.  كما أنه من غير الواضح مدى نجاح إيران في نقل نموذج مؤسساتها الأمنية إلى دول أخرى.

سادسا :الأزمة الاقتصادية العراقية، إذا كانت إيران قد نجحت في اختراق الاقتصاد العراقي، من خلال ضخ الاستثمارات وفتح الحدود أمام السلع الإيرانية، خاصة الغذائية، وسيطرتها على صناعة السياحة في المدن الدينية، حتى إنها وفرت سنويا لعمليات إعادة البناء في مدينة النجف نحو 20 مليون دولار، بهدف تطوير البنية التحتية للسياحة، ونجحت في الدخول في شراكة مع الشركات التي تمتكلها القوى السياسية القريبة منها، بهدف الترويج لفكرة التجديد للمالكي بعد انتخابات مارس 2010- فإن الانسحاب الأمريكي سيرتب عليه مسئولية محددة فيما يتعلق بإعادة بناء البنى التحتية في العراق وتوفير الخدمات، خاصة في المناطق التي تتمتع فيها بنفوذ قوي، مثل بغداد وكربلاء والمحافظات الجنوبية، حتى تضمن عائدا اقتصاديا لاستثماراتها على المدى الطويل، إلى جانب العائد السياسي.

فهذه المدن لاتزال تعاني انقطاعا مستمرا في التيار الكهربائي، وتدني جودة المياه ومستوى الخدمات العامة، وذلك رغم إنفاق واشنطن ما يقرب من 44.6مليار دولار. ويمكن تفسير ذلك بغياب الأمن، واستمرار الهجمات المنظمة. كما أنه وبسبب تدني مستوى الأمن في العراق، يتدنى حجم الاستثمارات الموجهة للبنى التحتية، نتيجة تحولها إلى استثمار خاسر، حيث لا يتعدى نصيبها من الاستثمارات المباشرة التي تفوق قيمتها  مليارى دولار، ما نسبته  0.5%، ولا تتعدى نسبة 2 % من الاستثمارات التي تقل قيمتها عن المليار دولار.

وبالتالي، إذا قررت إيران الاحتفاظ بنفوذها في العراق لفترة أطول، فعليها أن تبحث عن صيغة ما تمكنها من تحويل الاستثمار في مجال البنى التحتية من استثمار خاسر إلى استثمار رابح، بحيث توفر "شرعية" خدمية واقتصادية لرجلها في العراق (نوري المالكي)، وتضمن لها سوقا جديدا، تقلص من خلاله آثار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الدول الغربية.

سابعا: القيادة الدينية للعالم الشيعي، فإذا كانت إيران قد دعمت السياسات الأمريكية التي أنتجت نظاما "دينيا" في العراق، يقدس دورا ما للمرجعية الشيعية، خاصة آية الله السيستاني، فإنها اليوم  تسعى إلى أن تستبدل بهذه المرجعية أخرى أكثر ولاء لها، حيث اتخذ حزب الدعوة، الذي يتزعمه المالكي، آية الله شهرودي، المعروف بعلاقاته مع النظام الإيراني،  مرجعا له، وتم افتتاح مكتب له في نوفمبر في النجف، وذلك بهدف خلق مصدر يوفر شرعية دينية لسياساته، في مواجهة القوى الشيعية الأخرى التي يدعمها السيستاني، مثل المجلس الأعلى الإسلامي.

وهذه الصيغة ستعلي من أهمية قضية القيادة الدينية للعالم الشيعي، بين العراق وإيران خلال الفترة القادمة. فرغم نفوذ إيران في العراق، فإن هناك العديد من الشيعة العراقيين الذين يرفضون استمرار تراجع  دور النجف كمرجع  للشيعة العرب لصالح مرجعية قم، والذي كان بسبب قمع النظام السابق لشيعة العراق وطردهم ونفيهم. ومن ذلك حديث علي الدباغ عن أن "عافية  الجسم الشيعي في العالم هو في تعافي شيعة العراق، ومرضه من سقم شيعة العراق"، وأكد في مؤلفه  حول بناء الهوية الوطنية الشيعية كون النجف "القلب"، بالنسبة للشيعة.

وبالتالي، إذا كان الانسحاب الأمريكي من العراق سيوفر فرصة لإيران لتعظيم نفوذها في العراق، فانه سيخلق لها أعباء وتحديات قد لا تتمكن من مواجهتها، على نحو يحول العراق من كونه فرصة إلى عبء، مما سيضطر إيران إلى تغيير المبدأ الذي ارتكزت عليه سياستها منذ احتلال العراق، والقائم على فكرة "إثارة فوضى يمكن إدارتها" .فالانسحاب الأمريكي من العراق قد يكون في النهاية المدخل لتقليص نفوذ إيران في المنطقة.


رابط دائم: