صعود سياسي:|الخريطة الفكرية للتيارات السلفية في مصر
27-12-2011

علي بكر
* نائب رئيس تحرير السياسة الدولية وخبير الحركات المتطرفة

طرح الصعود السياسي اللافت للتيارات السلفية في مصر خلال الجولة الأولى من الانتخابات المصرية تساؤلات حول طبيعة الأفكار الحاكمة لهذا التيارات وخريطته الفكرية وأسباب صعوده بعد ثورة 25 يناير.

وبدا أن القاسم المشترك بين التيارات السلفية عقب الثورة المصرية، هو المشاركة في الحياة السياسية، وتأسيس الأحزاب ، والمشاركة فى الانتخابات البرلمانية، رغم أن بعضا من هذه التيارات كانوا يرون قبيل الثورة عدم جواز المشاركة السياسية والعمل الحزبي من الناحية الشرعية.

ولم تعد السلفية هي تلك المدارس العلمية التي تقتصر على طلب العلم الشرعي وتصحيح العقيدة،والتمسك بالكتاب والسنة، والابتعاد عن العمل السياسي ، مثل المدارس السلفية المنتشرة في الإسكندرية والقاهرة، وهى ما يطلق عليها " السلفية التقليدية" .

فالسلفية الآن أصبحت مظلة كبيرة تضم تحتها العديد من الجماعات الإسلامية التي تتصف بأنها " سلفية المنهج والاعتقاد"، ولا تستخدم العنف مطلقا، مثل الدعوة السلفية في الإسكندرية والقاهرة، والمدارس السلفية المختلفة والمنتشرة فى الوجه البحري. يضاف إلى ذلك التيارات الأخرى، مثل " أنصار السنة المحمدية"، و"الجمعية الشرعية"، و"الجماعة الإسلامية"، والجهاد بعد المراجعات الفكرية،  إضافة إلى السلفية التقليدية.

لقد أصبح في مصر في السنوات الأخيرة ما يمكن أن يطلق عليه "المظلة السلفية"، التي تضم تحتها تقريباً كل التيارات الدينية في مصر باستثناء الإخوان المسلمين، وبعض الجماعات التكفيرية الصغيرة، والطرق الصوفية، وجماعة الدعوة والتبليغ.

التيارات الدينية التي تضمها " المظلة السلفية" يوجد بينها العديد من الاختلافات الفكرية والفقهية، ولكنها يجمعها أصول الفكر السلفي العام، وكذلك بعض الأهداف التي تسعى هذه التيارات إلى تحقيقها، مثل تطبيق الشريعة الإسلامية، وإقامة الدولة الإسلامية، وكذلك إعادة الخلافة الإسلامية من جديد إلى العالم الإسلامي.

أولا : التحول نحو السياسة

مثلما غيرت ثورة يناير الكثير من الأوضاع السياسية في مصر، فقد أصاب التغيير التيارات السلفية، فحدث ما يشبه الثورة الفكرية فى فكر هذه التيارات التي هرولت نحو المشاركة السياسية.

وقد دخل التيار السلفى بشكل عام إلى العملية السياسية من جميع أبوابها، سواء كان عن طريق الانضمام للأحزاب، أو إنشاء أحزاب سياسية،  مثل حزب النور السلفي، والأصالة السلفي، والفضيلة السلفي، والبناء والتنمية- الذراع السياسية للجماعة الإسلامية - ثم رفضت هذه الأحزاب التحالف مع جماعة الإخوان المسلمين ، وأنشأت ما يسمى تحالف الكتلة الإسلامية الذي ضم الأحزاب سالفة الذكر لمواجهة القوى السياسية الأخرى، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين .

وبدأت المشاركة السياسية الفعلية للتيار السلفي، عقب الثورة ، بحشد الشارع المصري للتصويت بنعم على التعديلات الدستورية الأخيرة ، حيث دخلت التيارات السلفية فى سباق محموم ضد القوى السياسية الأخرى الموجودة فى البلاد، والتي ترغب فى التصويت بـ"لا".

وقد حشدت التيارات السلفية فى هذا السباق السياسي كل قوتها من أفرادها وقادتها ومشايخها ودعاتها بشتى صورهم وأطيافهم الفكرية، وهذه أول مرة فى تاريخ التيار السلفي التي يشارك فيها فى الحياة السياسية ، ثم سرعان ما بدأت بعض التيارات السلفية عقب الاستفتاء على التعديلات الدستورية بالإعلان عن إنشاء الأحزاب السياسية.

ومن اللافت للنظر فى توجه التيار السلفى نحو المشاركة السياسية سرعة التحول الفكري للتيار السلفى نحو العمل السياسي، لأن هناك قطاعا داخل التيار السلفى كان يمنع العمل السياسي، وتيارا آخر يقاطع المشاركة السياسية. ولكن بعد ثورة 25 يناير، هرول التيار السلفى نحو المشاركة السياسية بشتى صورها، وهذا تحول فكرى كبير ، والتحول الفكرى غالباً ما يحتاج إلى وقت طويل.

غير أن التيار السلفى استطاع أن يقوم بهذا التحول الخاص بالمشاركة السياسية فى وقت قصير للغاية لا يتجاوز بضعة أشهر. والأغرب من ذلك أن التيار السلفى أخذ يقترب من قضايا كان لا يمكن أن يقترب منها أو يناقشها من قبل، نظراً لتصادمها مع الفكر السلفى ومعتقداته، مثل قضية المواطنة، وحقوق الأقباط، وسيادة القانون، والدولة المدنية، وتجديد الخطاب الديني، وما شابه ذلك من القضايا التي كان الفكر السلفى لا يقترب منها فى الماضي.

ثانيا: خريطة سلفية

من المعروف لدى المختصين فى التيارات الدينية ، أن السلفيين فى مصر ليسوا تيارا واحدا، وأن مصر عرفت ظهورالاتجاهات السلفية بالمعنى العام مع بواكير ظاهرة الصحوة الإسلامية في مفتتح القرن الماضي.غير أن خريطة الاتجاهات السلفية شهدت، مع توالي السنين، حالة من التنوع في الأفكار والرؤى.

وبرغم التصاعد السلفي في المجتمعات العربية والإسلامية بشكل عام وفى مصر بشكل خاص - فقد ظلت هذه الخريطة السلفية تتسم بتعقد وتداخل الخيوط إلى الحد الذي بات معه من الصعوبة بمكان الإحاطة الدقيقة بمكونات الخريطة السلفية في الساحةالمصرية، والوقوف على أفكارها ورموزها، واتجاهاتها، ومحددات الافتراق والتمايز.

 ومن أهم ملامح تعقد الخريطة السلفية في مصر هو أنه يوجد نوعان من التيار السلفي، هما:-

1- السلفية التقليدية، وهى ما يطلق عليها السلفية العلمية، مثل المدارس السلفية وشيوخها في الإسكندرية والقاهرة والمنصورة ، إضافة إلى الدعاة المستقلين، مثل محمد حسان، ومحمد حسين يعقوب، ومحمود المصرى ، وهى تضم ثلاثة أشكال من السلفية، هى :

- الدعوة السلفية

          نشأت فى سبعينيات القرن الماضي عن طريق  النشاط الطلابي ، وبدأ عملهم بشكل منظم عام 1980،  حيث قرر الشباب السلفيون العمل بطريقة منظمة، فكونوا ما يشبه باتحاد الدعاة، ثم أطلقوا على أنفسهم بعد ذلك اسم (المدرسة السلفية).وبعد عدة سنوات من العمل الحركي والجماهيري، أطلقوا على منظمتهم (الدعوة السلفية) بعد انتشارهم في كل أنحاء مصر، وكثرة أتباعهم الذين يقدرون بمئات الآلاف، لكنهم يشتهرون بمسمى هو (سلفيوالإسكندرية.(

          ويدعو هؤلاء السلفيون إلى العودة لأخذ الإسلام من أصليه: الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح منالصحابة والتابعين، ويهتمون بمسائل التوحيد وتصحيح العقيدة، والنهي عن البدع والخرافات، ويدعون كل من التزم بهذا المنهج إلى الاجتهاد في طلب العلم الشرعي؛ حتى يتسنى للمسلم معرفة الأوامر والنواهي في الفروض والسنن والواجبات، كما يهتمون بكتب التراث، ومقولات الأئمة من أصحاب المذاهب والفقهاء؛ ولذا يطلق عليهم أيضا (السلفية العلمية).

- السلفية الحركية

          في الوقت ذاته الذي نشأت فيه الدعوة السلفية في الإسكندرية، كان هناك في حي شبرا في القاهرة مجموعة من الشباب شكلت تيارا آخر، أطلق عليه فيما بعد: السلفية الحركية. ويكاد يتطابق منهج السلفية الحركية مع منهج الدعوة السلفية (مدرسة الإسكندرية)،إلا أن السلفيين الحركيين لا يكتفون بتكفير الحاكم حكما فقط، ولكن يذهبون إلى تكفيره عينيا، إذا لم يحكم بما أنزل الله، ويجهرون بذلك في خطابهم الدعوي، ويعتقدون بحرمة المشاركة في المجالس النيابية؛ لأنها تتحاكم إلى غيرشرع الله، وتجعل الدستور الذي وضعته حاكما لشريعة الله عز وجل، وهذا كفر، وهذه الأفكار كانت قبل ثورة يناير.

- السلفيون المستقلون

          وهم امتداد للتيار السلفي القديم في مصر، وقد مثله العديد من المجموعات والجمعيات منذ بدايات القرن العشرين، مثل جمعية الهداية التي قادها الشيخ محمد الخضر حسين، وكانت تقوم على الدعوة إلى الالتزام بالسنة ومحاربة البدع. وكان منتموها يهتمون بالهدي الظاهر في المسائل المتعلقة بشكل الملابس واللحية وشعر الرأس والحجاب، وغيرها من هذه الأمور.

ولا يؤمن هذا التيار بالعمل الجماعي التنظيمي، كما أنه لا يشتغل بالسياسة، ولا ينشغل بها أصلا، لكن هناك من أكد أن رموز هذا التيار يبدون آراءهم في الشأن السياسي في جلسات سرية لأتباعهم المقربين، ويقتصر كلامهم السياسي على شرح تصوراتهم للواقع السياسي ومشكلاته.

2 - سلفية المنهج:

          وهذا النوع الثاني من السلفية يمثله عدد من التيارات الاسلامية التي تعد سلفية المنهج والاعتقاد، وليست العمل والتنظيم، حيث لها طريقة عملها الخاص وأسلوبها الدعوى المستقل. ومن أهمها:

- جماعة أنصار السنة المحمدية

          تأسست جماعة أنصار السنة المحمدية في مدينة القاهرة على يد الشيخ محمد حامد الفقي، وقامت هذه الجماعة على دعوة الناس إلى التوحيد الخالص المطهر من جميع أنواع الشرك، والدعوة إلى صحيح السنة بفهم السلف الصالح، وإرشاد الناس إلى نصوص الكتاب، والدعوة إلى مجانبة البدع والخرافات ومحدثاتالأمور. كما تدعو إلى أن الإسلام دين ودولة، وعبادة وحكم، وصالح لكل زمان ومكان،ومن ثم يجب الدعوة إلى إقامة المجتمع المسلم، والحكم بما أنزل الله .

-  الجمعية الشرعية

          أسس الشيخ محمود خطاب السبكي الجمعية الشرعية عام 1912 تحت اسم"الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية"، والهدف الأساسي الذي سعت إليه الجمعية عند إنشائها هو الوعظ والإرشاد، والدعوة إلى الالتزام بالسنة ومحاربة البدعة، وكذلك تدعيم قيمة التعاون والتكافل بين أبناء الشعب. لذلك، تنتشر فروع الجمعية الـ350 في جميع أنحاء جمهورية مصر.

- الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد

          نشأت الجماعة الإسلامية في فترة السبعينيات من القرن الماضي، في ظل الأجواء التي سمح بها الرئيس أنور السادات أمام التيارات الدينية،  وكانت الجماعة الإسلامية في ذلك الوقت تضم أفراد الجماعة الإسلامية، والجهاد الذين انفصلوا عن الجماعة الإسلامية، بعد دخول السجون عقب أحداث 1981م، وقضيتها المعروفة بإسم قضية تنظيم الجهاد.

          ولقد قام كل من الجماعة الاسلامية والجهاد بمراجعات فكرية شاملة للمنظومة الفكرية الخاصة بهم ، حيث تعد المراجعات الفكرية التي قامت بها الجماعات الإسلامية في مصر أمرا فريدا من نوعه، وسابقة لم تحدث من قبل في تاريخ التيارات الإسلامية .

رابعا: أسباب الصعود

          يمكن القول أن هناك عاملين رئيسيين ساهما في صعود التيار السلفى فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية الأخيرة ، لاسيما بعد أن حصدت قائمة حزب النور 24 % من أصوات الناخبين، وهما:

          1-  سقوط نظام مبارك وتداعياته، والذي نتج عنه العديد من المتغيرات من أبرزها :

-   حرية ممارسة العمل السياسي وتشكيل الأحزاب السياسية دون أي معوقات، الأمر الذي أتاح الفرصة أمام  التيار السلفى لكي ينشئ الأحزاب السياسية، ويمارس العملية الحزبية والانتخابية.

-   عدم وجود قوى سياسية حقيقية ليبرالية أو قومية أو يسارية لها قواعد جماهيرية تستطيع أن تنافس التيار الديني بصفة عامة والتيار السلفى بصفة خاصة ، مما جعل التيار الديني هو  القوى السياسية الأكبر في البلاد.

. 2- قوة التيار السلفى على الساحة والتي تتمثل فى :  

-   التنظيم الجيد والقوي للجماعة، ووجود الأعداد الغفيرة من الكوادر والشباب، إضافة الى الإمكانيات المالية القوية، والتي ظهرت بوضوح أثناء العملية الانتخابية .

-   القدرة الكبيرة على الحشد في الشارع المصري، وهذا ناتج عن سنوات طويلة من العمل الدعوي للجماعة، والتي استطاعت من خلاله التغلغل في الشارع المصري

-   استخدام الأساليب الدعوية الدينية في الدعاية الانتخابية، مثل استخدام المساجد، وذلك عن طريق الخطباء والوعاظ التابعين للجماعة ، وذلك عن طريق  حث الناخبين على التصويت لصالح مرشحي التيار الإسلامي بصفة عامة،  والتيار السلفى  بصفة خاصة.

-   قوة التيار السلفى في العمل الاجتماعي والخدمي، ذلك العمل الذي  يترك أعظم الأثر فى نفوس البسطاء والفقراء ، والذي يجعلهم  يسيرون خلف من يقوم بهذا  العمل،  ويدعمونه بشتى الوسائل، وعلى رأسها التصويت لصالح المرشح الذي ينتمي لهذا التيار.

          يظل أن خوض للتيار السلفي في مصر لغمار العمل السياسي لا زال في مراحله المبكره ، وأن التفاعلات السياسية بينه وبين التيارات الأخرى في المجتمع ستكشف الكثير عن مشروعه السياسي والاجتماعي.


رابط دائم: