اختبار الإسلاميين:|قراءة في نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي بتونس
31-10-2011

كمال بن يونس
* كاتب تونسي، رئيس منتدى ابن رشد المغاربي الأوروبي.

مثل فوز حزب النهضة الإسلامي بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي في تونس، بداية لمرحلة جديدة في الحياة السياسية في البلاد بعد ثورة الياسمين التي أطاحت بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وثمة دلالات حملتها الانتخابات ليس فقط في وضع التيار الإسلامي المعتدل إمام اختبار السلطة بعد الربيع العربي ، بل أنها أعادت خريطة القوى والتوازنات داخل هذا البلد.

أولا: خطاب سياسي لا أيديولوجي ، إذ إن فوز حزب النهضة الإسلامي المعتدل جاء في سياق تميزه فكريا وسياسيا عن التيارات الإسلامية المحافظة في المشرق والمغرب، بما فيها تيار الإخوان المسلمين، كما يسعى هذا الحزب إلى تأكيد صبغته السياسية واستبعاد الصبغة الأيديولوجية، وذلك منذ تطوره  قبل 30 عاما من " تنظيم الجماعة الإسلامية " ( الموالية للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ) إلى  حزب " حركة الاتجاه الإسلامي".

وقد غير هذا الحزب اسمه عام 1988 إلى " حزب النهضة " ليتأقلم مع قانون الأحزاب في حكومة بن علي ـ وشارك بذلك في انتخابات أبريل 1989 تحت قائمات مستقلة، وفاز بالأغلبية، لكنه سرعان ما قمع بشراسة، واستبعد من الحياة السياسية الرسمية طوال 20عاما.

لقد حرص الحزب الإسلامي الفائز على الترويج لخطاب سياسي " وسطي ومعتدل"، " وتعهد باحترام " الصبغة المدنية للدولة وسيادة الشعب وقاعدة التداول على السلطة " بالاغلبية الساحقة من الأصوات التي تمكنه من تشكيل الحكومة والتاثير في مستقبل تونس.كما تعهد راشد الغنوشي، الزعيم التاريخي لحزب الاتجاه الإسلامي ثم لحركة النهضة، بأن تحكم تونس بالتعاون مع كل القوى الديمقراطية ، خاصة  الأطراف السياسية التي عارضت نظام بن علي، ثم أسهمت في الثورة ، لا سيما قيادات حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ( قومي عربي وسطي )  بزعامة الدكتور المنصف المرزوقي و"التكتل" ( يسار وسط ) بزعامة الدكتور مصطفى بن جعفر.

ولا شك أن  حزب النهضة ربح كثيرا من الثورة التونسية التي دشنت موسم الربيع العربي، وكان عشرات الآلاف من قدماء السجناء والمنفيين الإسلاميين السابقين أول المستفيدين منها على الصعيدين الشخصي والسياسي بفضل قرار العفو العام الذي صدر لصالحهم بعدها مباشرة .

لقد سعت قيادات حزب النهضة إلى تطمين المجتمع وتقليل تخوفات النخبة بأن ما روج من أن الحركة "ستعمل على فرض دستور- كما تراه -يلغي حريات عدة، من بينها حرية ممارسة المعتقد، والحريات الفردية، والوضع التشريعي للمرأة ومكانتها في المجتمع" ليس صحيحا. وأعلنت أن الدستور سيكتب بتوافق مع جميع الأحزاب والأطراف الممثلة في المجلس التأسيسي، و"لن يلغي أية حريات بل سيكفلها جميعا."

وفي هذا السياق ، أوضح أمين عام حركة النهضة، حمادي الجبالي، أنه "لا مساس أبدا بمجال الأحوال الشخصية، ولن يتم اقتراح تعدد الزوجات، ولا فرض الحجاب على المرأة، بل ستترك لها حرية ممارسة دينها ومعتقدها"، مضيفا أنه "لا سبيل لإعادة المرأة إلى البيت، كما يسعى مناهضو الحركة إلى إشاعته"، معتبرا خروج المرأة إلى العمل "مهما ويحقق الإضافة للمجتمع".وبين أن الحركة ستكون "استباقية في منح نصف المقاعد المخصصة لها لمرشحات حركة النهضة، محجبات أو غير محجبات".

إن الفوز الساحق لمرشحي حزب النهضة وحزبي حليفيها المرزوقي وبن جعفر كشفا عن حرص الشعب على أن يجرب معارضين " أياديهم نظيفة " في بلد كانت محاربة الرشوة والفساد فيه من أبرز أسباب ثورة شعبه .

ثانيا : تراجع المستقلين، إذ أفرزت الانتخابات 5 أحزاب رئيسية فازت بمراتب أولى من حيث عدد الأصوات من بين الـ 116 حزبا و1400 قائمة مستقلة كانت في السباق، كما كرست أيضا تقدما واضحا لمرشحي أحزاب النهضة والمؤتمر والتكتل و"العريضة الشعبية "، ولزعمائها راشد الغنوشي والمنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر ومحمد الهاشمي الحامدي. غير أن ما يسترعي الانتباه هو عدم اقتناع غالبية الناخبين بقائمات المستقلين الـ 1300 بالرغم من الكم الهائل من الكفاءات القانونية والسياسية والعلمية التي شاركت في تلك القائمات .

ثالثا: نضج سياسي للمعارضة الجديدة، فقد كانبين نتائج الانتخابات " الفوز السياسي" لزعامات سياسية فشلت في الانتخابات كليا أو جزئيا، لكنها قبلت منذ الدقائق الأولى للإعلان عن النتائج الأولية بخيار الشعب. وأعربت في تصريحاتها بوضوح عن أنها تاسف لعدم فوزها بالأغلبية، لكنها هنأت الفائزين، وقررت الدخول في المعارضة، وبدء الاستعدادات للانتخابات البرلمانية والرئاسية ( أو إحداهما ) التي قد يقرر المجلس المنتخب تنظيمها بعد عام أو عامين أو ثلاثة .

وكان على رأس هؤلاء "الفائزين سياسيا " زعماء الحزب الديمقراطي التقدمي، خاصة مؤسسه وأمينه العام الأسبق أحمد نجيب الشابي، والمناضلة مية الجريبي الأمين العام للحزب، وكذلك زعيم حزب التجديد أحمد إبراهيم الذي تزعم خلال الانتخابات " قطب الحداثة ".

وقد حيا بدوره الفائزين، ورأى أن من واجب كل السياسيين الذين لم يفوزوا في الانتخابات الاعتراف بالنتائج، والعمل ضمن قوى المعارضة الجديدة للحكومة القادمة، والاستعداد للمواعيد السياسية المقبلة بعد القيام بنقد ذاتي لأخطاء تجربة العمل المشترك من جهة، وللتشرذم السياسي والحزبي من جهة أخرى بمناسبة انتخابات الأحد الماضي.

وسار في السياق نفسه، مناضلون سياسيون كبار لم يفوزوا بمقاعد، مثل السيد جلول عزونة، زعيم الحزب الشعبي للحرية والتقدم، والقيادي السابق في حزب الوحدة الشعبية وفي اتحاد الكتاب . ولعل بعدا مهما جديدا من انتصارات الثورة التونسية هو سلوك هؤلاء السياسيين التونسيين الذين وجهوا رسالة إلى صناع القرار السياسي الدولي والإقليمي حول نضج الطبقة السياسية العربية، رغم كل الانتقادات التي يمكن أن توجه إليها.

 في الوقت نفسه، لم يكن بين الفائزين في الانتخابات حقوقيون ومثقفون من بين رموز النضال ضد التعذيب والمحاكمات السياسية وضد الفساد والاستبداد، خلال العقود الماضية، مثل القاضي والناشط الحقوقي الذي عارض بن علي بقوة  المختار اليحياوي، والإعلامية والسياسية مية الجريبي، والكاتب الصحفي القيادي البارز في رابطة حقوق الإنسان سابقا صلاح الدين الجورشي، و الزعيمة اليسارية الحقوقية  المحامية راضية النصراوي، والزعيم التاريخي للتيار الإسلامي الذي استقال من النهضة عبد الفتاح مورو،  والإعلامي الحقوقي زهير مخلوف، والرئيس السابق لجمعيات المحامين الشباب في تونس والعالم العربي  شوقي الطبيب...الى جانب خبراء من الحجم الثقيل في القانون الدستوري، مثل العميد الصادق بلعيد، ونخبة من الجامعيين المرشحين ضمن قائمات مستقلة وحزبية عديدة، مثل  العميد فاضل موسى، وجوهر بن مبارك.

وسيكون المجلس الوطني التأسيسي المنتخب " سيد نفسه"، لكن قد يختار أعضاؤه الاستفادة من زهاء 20 مشروع دستور أعدها بعض هؤلاء الخبراء والمختصين " الفاشلين في الانتخابات"، حتى لا يبدأوا مناقشاتهم من الصفر، وحتى لا يهدروا طاقاتهم في جهد يمكن أن يستفيدوا فيه من إسهامات علمية لخصومهم " المخفقين" يوم الاقتراع .

رابعا: الخاسرون والتشرذم السياسي، فعلى رأس الخاسرين في الانتخابات  مئات من الشخصيات والقيادات اليسارية والإسلامية التي انشقت عن حركات وأحزاب كانت تنتمي إليها، واختارت منافستها تحت يافطة مستقلة أو حزبية جديدة.  في هذا السياق، لم تفز جل قائمات أحزاب ورموز" أقصى اليسار" الماركسية والبعثية  في معظم الدوائر بأي مقعد، فيما  فاز ثلاثة منها بمقعد واحد في دائرة واحدة،  بفضل نظام "أكبر البواقي".

كما لم تفز قائمات " الائتلاف الديمقراطي المستقل- طريق السلامة " بزعامة الشيخ والزعيم الإسلامي عبد الفتاح مورو، وزعيم " تيار اليسار الإسلامي "صلاح الدين الجورشي بأى مقعد في الدوائر التي ترشحت فيها في تونس وخارجها.

ولقي المصير نفسه مئات من قائمات المترشحين المستقلين والمتحزبين المنتمين إلى "تيارات اسلامية معتدلة " حاولت أن تنافس قائمات حزب النهضة، وعلى رأسها حزب التحالف من أجل النماء والسلم ( بزعامة الأزهر عبعابالقيادي البارز السابق في النهضة )، وحزب الأمانة ( بزعامة فتحي العيوني)، وحزب الإصلاح والتنمية ( برئاسة الحقوقي و"الإسلامي اليساري "محمد القوماني )....الخ.الخاسر الأكبر، لكن الأكثر خسارة  في هذه الانتخابات، هو تيار عريض من الطبقة السياسية  والعمل السياسي الجماعي.

فقد كشفت الحملات الإعلامية والسياسية والانتخابية التي سبقت الاقتراع عن أن النخب السياسية والمثقفة في تونس متشرذمة، ولا تقبل بسهولة الوفاق والتنازل للآخر، والتقيد بشروط العمل المشترك.هذه المعضلة ، أي التشرذم ، كانت أهم نقاط ضعف الأحزاب والنقابات والمنظمات غير الحكومية قبل 14 يناير ، واستفحلت بعده .

ولا يخفى أن التشرذم أهدر طاقات آلاف النشطاء والمناضلين اليساريين والقوميين والإسلاميين والليبراليين، وأزعج الناخبين الذين وجدوا انفسهم يوم الاقتراع مضطرين لأن يختاروا بين 1400 قائمة و15 ألف مترشح ، فصوت الغالبية " للأحزاب التقليدية " ، خاصة للأطراف السياسية التي عرفت بمعارضتها " الراديكالية " للنظام السابق ثم لحكومتي السيدين محمد الغنوشي وحكومة الباجي قائد السبسي.

ولئن كان من أبرز النتائج السياسية الانتخابات التونسية الأولى من نوعها بعد الثورة  "الانسحاب النهائي لغالبية الخاسرين في الانتخابات " ، خاصة " للأحزاب الأيديولوجية والعائلية"، فإن أكبر المستفيدين منها هو الشعب التونسي الذي نجح ـ رغم العراقيل ـ في تنظيم أول انتخابات ستفرز قيادة شرعية ، تستمد مشروعيتها من صناديق الاقتراع  في عملية شاركت فيها نسب قياسية عالميا .

خامسا: التوافق على الرئاسة، فرغم أن "النهضة" حظيت بشعبية كبيرة بسبب معاناة آلاف من مناضليها من القمع قبل ثورة 14 يناير، فقد رجحت مصادر سياسية وصحفية مختلفة أن يكون رئيس الجمهورية الوفاقي الجديد هو السيد الباجي قائد السبسي، الوزير الأول في الحكومة الانتقالية، أو الدكتور المنصف بن جعفر، الأمين العام لحزب التكتل الديمقراطي، وأن يتولى رئاسة الحكومة الجديدة السيد حمادي الجبالي، الأمين العام لحزب النهضة، وأن تسند رئاسة المجلس التأسيسي للدكتور المنصف المرزوقي، الأمين العام لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وأن يتولى الدكتور مصطفى بن جعفر مسئولية عليا في الدولة في ضوء عدم تكليفه  بمنصب رئيس جمهورية. وقد يكلف بخطة نائب رئيس جمهورية، أو نائب رئيس وزراء.

       إن السؤال المطروح في تونس حاليا ، وهو: هل ستحترم قيادات حزب النهضة وقواعدها هذه التعهدات السياسية، بعد الوصول إلى الحكم، على غرار ما فعل رجب طيب أردوغان، أم يحصل ما جرى في السودان وإيران وأفغانستان من قمع للحريات باسم الدين؟، هذا ما سيكشف عنه أول اختبار للسلطة للإسلاميين المعتدلين بعد الربيع العربي.


رابط دائم: