"عصر السخط":|أبعاد الاحتجاجات العالمية ضد توحش النموذج الرأسمالي
19-11-2011

كارن أبو الخير
* مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام

أبى عام 2011 أن ينصرف قبل أن تمتد موجة الاحتجاجات والاعتصامات الشعبية –التى اجتاحت العالم من أقصى الشرق فى الصين إلى أقصى الغرب فى شيلى- إلى مدينة نيويورك، وتحديدا حى وول ستريت، معقل الرأسمالية العالمية وجهازها المصرفى، والذى لا تزال تداعيات انهياره عام 2008 تهدد الاقتصاد العالمى برمته.

أعلنت حركة "احتلوا وول ستريت" أنها استمدت إلهامها من احتجاجات الربيع العربى، خاصة نموذج "ميدان التحرير"، الذى أصبح أيقونة المطالبين بالعدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية الفعالة فى اتخاذ القرارات السياسية فى العالم بأسره. وتأكيدا لفكرة "عالمية" الأزمة، دعت هذه الحركة شعوب العالم للتظاهر والاحتجاج تضامنا معها فى يوم 15 أكتوبر 2011.

وبالفعل، خرجت المظاهرات ذلك اليوم فى أكثر من 900 مدينة داخل وخارج الولايات المتحدة، بأعداد متفاوتة. فقد خرج نحو 25 ألف شخص فى سنتياجو، عاصمة شيلى، وتجمع 60 ألف شخص فى برشلونة بإسبانيا، وتظاهر نحو خمسة آلاف شخص فى فرانكفورت بألمانيا أمام البنك المركزى الأوروبى، واحتل نحو ألف من المتظاهرين الساحة أمام كاتدرائية سان بول فى لندن، عاصمة المملكة المتحدة.

الصدام مع الأغنياء

اهتم المحللون بالبحث عن الخيط الذى يجمع هذه الاحتجاجات والمظاهرات والثورات، التى اندلعت فى مختلف أنحاء العالم عام 2011،  الذى أصبح عام "السخط" العالمى، بحسب  المحلل الاقتصادى الشهير جيديون رحمان، أو "الانتفاضة العالمية"، بحسب الكاتب السياسى باتريك سيل. يرى رحمان أن ما يجمع ثورات الربيع العربى مع مظاهرات مدريد وأثينا، والاحتجاجات فى تشيلى والهند والصين، رغم اختلاف أشكالها وأسبابها المباشرة، هى أنها فى مجملها تمثل مواجهات بين نخبة غنية ذات صلات عالمية ومواطنين عاديين، يحسون أنهم لم يستفيدوا من ثمار النمو الاقتصادى، كما أنهم غاضبون من انتشار الفساد بين الطبقات الغنية والحاكمة.

فى معظم هذه البلاد، ارتضت النخبة بشكل واضح ارتفاع معدلات التفاوت الاقتصادى والاجتماعى كثمن مقبول للنمو الاقتصادى. يرى رحمان أيضا أن العولمة، التى زادت الأغنياء ثراء، بينما أدت إلى تراجع دخل ومستوى معيشة الطبقات العاملة الأقل تعليما وتدريبا، والتى دعمت أيضا من شبكات الاتصال الحديثة، قد تكون العامل المشترك الذى يجمع ما بين كل هذه الاحتجاجات.

وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن قضية تركز الثروة فى أيدى نخبة عالمية صغيرة كان موضوع ملف أعدته مجلة الإيكونومست فى أوائل عام 2011، (عدد 22-28 يناير) بعنوان "الأغنياء والآخرون .. تقرير خاص عن النخبة العالمية".

أعطى هذا الملف مؤشرات واضحة عن التفاوت الرهيب لتوزيع الثروة على المستوى العالمى. فوفقا لتقرير أعده بنك كريدى سويس، أصبح 1% من سكان العالم البالغين يتحكمون فى 43% من إجمالى الثروة العالمية، بينما تتحكم العشرة بالمائة الأكثر ثراء بين سكان العالم فى 83% منها. أما الخمسون بالمائة "الفقيرة" من سكان العالم، فلا تتحكم إلا فى 2% فقط من ثروته.

ويعد التفاوت فى الثروة داخل المجتمع الأمريكى هو الأعلى من بين كل الاقتصادات الصناعية المتقدمة. لقد تضاعف نصيب الشريحة الأعلى من دافعى الضرائب الأمريكيين، والتى لا تتعدى 1% منهم، من 12.3% من إجمالى الدخل العام سنة 1987، إلى 23.5% عام 2007. وفى الوقت نفسه، تراجع نصيب الشريحة الدنيا من دافعى الضرائب، والتى تشكل نحو 50% منهم، من 15.6% إلى 12.2% من إجمالى الدخل العام فى الفترة نفسها.

ويقدم باتريك سيل قائمة من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى يراها سببا لهذه الاضطرابات الاجتماعية، ويخص بالذكر البطالة بين الشباب، وغياب العدالة الاجتماعية، واستخدام العنف من قبل قوات الأمن، والرأسمالية المفرطة وغير الموجهة، والإنفاق المستفز من جانب الأغنياء، ويأس الطبقات الفقيرة، وانتشار الإحساس بأن ثروات البلاد ليست فى أيد أمينة، ولا تدار بطريقة سليمة. يرى سيل أن "العقد الاجتماعى" فى كل البلاد التى شهدت احتجاجات قد تمزق، ويجب إصلاحه، وأن الحل يكمن فى إعادة إحياء روح الوطن الواحد، بدلا من اللجوء إلى العنف.

قضية عدم المساواة إذن، والإحساس بالظلم الاقتصادى والاجتماعى والسياسى، تعد هى الخيط الأساسى الذى يربط هذه الاحتجاجات، وهى ترتبط بنمط الرأسمالية "المتوحشة" الذى ساد العالم فى العقود الماضية. ويؤكد عالم الاقتصاد الشهير نورييل روبينى أن أى نموذج اقتصادى لا يتعامل بشكل فعال مع قضية عدم المساواة سوف يواجه، عاجلا أم آجلا، أزمة فى الشرعية. كما يحذر من أن الفشل فى إعادة التوازن بين الدولة والسوق، أى الحد من الممارسات الرأسمالية المدمرة، يعنى أن احتجاجات عام 2011 سوف تزداد شدة، وأن عدم الاستقرار الاجتماعى والاقتصادى الذى سيترتب على اشتداد هذه الموجة من الاحتجاجات سوف تكون له تداعيات وخيمة على الاقتصاد فى المدى الطويل.

" عصر جديد من الغضب"

وقد حذر الباحث المتخصص فى دراسة الثورة الفرنسية، سيمون شاما، فى مقال نشرته جريدة الفايننشيال تايمز فى 22 مايو 2010، من أن العالم يقف على أعتاب "عصر جديد من الغضب" نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية. أشار الباحث إلى أن  هناك عادة فترة زمنية تفصل ما بين وقوع كارثة اقتصادية وانفجار الغضب الشعبى. ويرى الكاتب أن الخبرة التاريخية لأحداث عام 1789 توضح أن أى نظام جديد يأتى للحكم، بعد انفجار الأزمة، تكون لديه فرصة قصيرة من الدعم الشعبى، لن تستمر إلا إذا كان واضحا أنه يسعى بكل قوته لتصحيح الأوضاع. كما أن الشعب لن يتقبل الإجراءات التى يتخذها النظام، إلا إذا كان واضحا أن هناك عدالة فى توزيع الأعباء، وأن الذين تسببوا فى الأزمة يخضعون للمساءلة الجدية، ويتعرضون للمحاسبة العلنية. لكن هذه الفترة تظل محفوفة بمخاطر عديدة، منها ظهور التيارات المتعصبة، مثل معاداة الأجانب فى أوروبا، وحركة "حفل الشاى" فى الولايات المتحدة الأمريكية، والتى يرى فيها الكاتب إحياء للحركات الشعبوية التى انتشرت فى نهاية القرن التاسع عشر.

وقد أعد مركز دراسات السياسات الاقتصادية بلندن دراسة نشرت فى أغسطس 2011، تتناول العلاقة التاريخية بين عدم الاستقرار الاجتماعى وتبنى الحكومات لسياسات التقشف، وخفض الإنفاق فى أوروبا فى الفترة بين عامى1919 و 2009. وتظهر الدراسة بوضوح العلاقة الإيجابية بين سياسات التقشف المالى الحكومى وعدم الاستقرار، ويتساوى فى ذلك بشكل عام ما إذا كانت الحكومات المعنية ديمقراطية أم سلطوية.

ولذلك، فإن رد الفعل الشعبى على خفض الإنفاق الحكومى يجب أن يكون أحد العوامل التى يأخذها صانعو القرار فى الحسبان. وبناء على الخبرة التاريخية، من أزمة الأرجنتين عام 2001 إلى أزمة اليونان عام 2011، فإن الإجراءات التقشفية كثيرا ما تتسبب فى احتجاجات عنيفة وعدم استقرار واسع، كما أن شيوع الفوضى وعدم الاستقرار قد يؤديان إلى تدهور أكبر، وبشكل حاد وسريع فى الأوضاع الاقتصادية.

تشير الدراسة إلى أن الدول التى تتمتع بمؤسسات سياسية ديمقراطية قوية يكون رد الفعل الشعبى فيها أقل حدة، بينما فى الدول التى تخضع فيها النظم الحاكمة لقيود أقل، أى الأقل ديمقراطية، يكون لزيادة الإنفاق الحكومى أثر كبير فى "شراء" السلام الاجتماعى.

أما المحلل السياسى، موسى نعيم، فيربط الاحتجاجات التى يشهدها العالم حاليا مباشرة بقضية وضع الطبقة الوسطى فى كل من الدول الغنية والدول الصاعدة. يرى نعيم أنه رغم اختلاف ظروف هذه الطبقة بين "المعسكرين"، فإن النتيجة واحدة، وهى تزايد معدلات السخط والاحتجاج.

فى الدول الصاعدة، مثل الهند والصين وفيتنام والبرازيل، تخرج أعداد كبيرة من نطاق الطبقات الفقيرة فى اتجاه الصعود إلى الطبقة المتوسطة، وهذه من أكبر الطبقات نموا فى العصر الحديث. ويبلغ عدد الذين صعدوا إلى نطاق الطبقة الوسطى فى الصين والهند ودول آسيا الصاعدة الأخرى 1.3 مليار شخص ما بين عامى 1990 و2008. أما فى أمريكا اللاتينية، فإن ثلاثة أرباع سكان القارة قد أصبحوا اليوم من الطبقة الوسطى. ورغم تحسن أوضاع هذه الطبقة، فإن صعودها الكبير قد خلق تطلعات وطلبات فيما يتعلق بالخدمات العامة من تعليم وصحة ... الخ، من الصعب على معظم الحكومات أن تلبيها بالسرعة المطلوبة.

أما فى البلاد المتقدمة، فإن الطبقة الوسطى تتعرض للضغط والانكماش تحت وطأة الأزمة المالية والاقتصادية، حيث تعانى عجزها عن الحفاظ على مستوياتها المعيشية، ولذلك فهى تشعر بالمرارة والخوف. وهذا يفسر الاحتجاجات ضد غياب المساواة، وتكلفة الإسكان، وانفجار الغضب الشعبى ضد الحكومات فى بلاد مثل إنجلترا وإسبانيا وحتى إسرائيل.

ماذا حققت هذه الاحتجاجات؟

فى خاتمة كتابه "الانصهار .. نهاية عصر الجشع"، الصادر عام 2009، تنبأ المحلل الاقتصادى بول ميسون بأن تداعيات الأزمة المالية لعام 2008 سوف تكون أكبر وأعمق مما يتخيله أحد. وبينما سوف يكون للعديد من العوامل أثر على تفاعلات هذه الأزمة، فإن العامل الأهم، من وجهة نظره، سوف يكون تحرك المواطنين العاديين للضغط من أجل وضع قواعد وقيود جديدة للتحكم فى رأس المال، واستعداد الحكومات للاستجابة لهذا الضغط بالتدخل فى المجالات التى يتسبب إطلاق قوى السوق فيها فى كوارث.

وقد ذهب العديد من المحللين إلى أن انتشار الاحتجاجات الشعبية فى مختلف أنحاء العالم يشير إلى أن صبر الأغلبية المتضررة من هذا الاختلال العميق فى توزيع الثروة قد نفد، وأن الشعوب تعلن بوضوح رفضها استمرار الأوضاع على ما هى عليه.

هذا، ويعد إعلان رئيس الوزراء اليونانى، فى 31 أكتوبر 2011، عن طرح بنود خطة التقشف المطلوبة لإعادة التوازن للميزانية الحكومية، فى إطار الخطة الأوروبية للتعامل مع حجم الديون السيادية اليونانية التى تفوق حجم ناتجها القومى، أول بادرة حكومية واضحة للاستجابة للضغط الشعبى. ومن المعروف أن اليونان قد تعرضت لموجة عنيفة من الاحتجاجات والإضرابات، نتيجة لفرض الحكومة سياسات تقشفية صارمة، شملت تخفيض حجم العمالة فى الدوائر الحكومية، وتخفيض رواتب الموظفين الباقين فى وظائفهم، بالإضافة إلى تخفيض مخصصات الخدمات التعليمية، وغير ذلك من الإجراءات. من ناحية أخرى، أعلن الرئيس الأمريكى، باراك أوباما، وعدد من السياسيين الديمقراطيين، عن تفهمهم "لغضب" المواطنين الأمريكيين، كما أعلن ذلك أيضا عدد من الرؤساء التنفيذيين لشركات أمريكية كبرى.

نجحت هذه الاحتجاجات الشعبية إذن فى وضع قضية "عدم المساواة" وفشل النظام الرأسمالى النيوليبرالى فى تحقيق النمو الاقتصادى والعدالة الاجتماعية على الأجندة العالمية بوصفها ، كما صرحت زعيمة الاحتجاجات الطلابية فى شيلى ،"قضية تتجاوز كل الحدود". أضافت هذه التحركات الشعبية  أيضا شكلا جديدا من أشكال الفعل السياسى والاجتماعى، وهو "احتلال" مجموعة من المحتجين بشكل متواصل "فضاء عاما"، وهو النموذج الذى جسده "ميدان التحرير". يوفر هذا النوع من الفعل السياسى والاجتماعى لجيل جديد من المواطنين -عنده إحساس كبير بالمسئولية عن السعى لخلق مجتمع جديد تتجسد فيه الكرامة الإنسانية -فرصة التفاعل والنقاش حول سبل تحقيق هذا الهدف.

وحتى إذا فشلت هذه الاحتجاجات الشعبية فى المدى القصير فى تحقيق التغيير المطلوب فى الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، فهى- فى رأى المحلل السياسى ايمانويل والرستين- قد فتحت الطريق لمثل هذا التغيير بالفعل. وكما أن "روما لم تبن فى يوم واحد"، فإن تشكيل عالم جديد سوف يتطلب جهودا متواصلة، ربما لعدة أجيال، وقد أثبتت هذه الحركات الاحتجاجية، فى رأيه، أن التغيير ممكن بالفعل.


رابط دائم: