" قيد التبلور":|احتمالات إقامة دولة دينية في ليبيا
11-12-2011

كامل عبد الله
* باحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام

تبدو احتمالات إقامة دولة دينية في ليبيا أحد السيناريوهات المطروحة للشكل المستقبلي للدولة الليبية، نظرا للفاعلية الملحوظة للتيار الإسلامي خلال ثورة 17 فبراير، والانتشار الواسع لذلك التيار على امتداد البلاد، وأيضا عدم قدرة المجلس الانتقالي على الحد من اندفاع هذا التيار في صدارة المشهد السياسي.ذلك الأمر يؤكد أن محاولة استبعاد أي حركات ذات توجه إسلامي في المرحلة السياسية المقبلة سيؤدي إلى عدم استقرار للنظام السياسي القادم ، خصوصا أن كل القوى الإسلامية التي لعبت دورا في سقوط القذافي مسلحة وتنبثق من عائلات وعصبيات كبيرة .

فعلى الرغم من وجود بعض التحديات أمام الإسلاميين في ليبيا، فإنه تبقى أمامهم فرصة إقامة انتخابات ديمقراطية حرة وشفافة قد تقودهم للسلطة . فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي مؤشرات صعود التيار الديني؟، وما هو السيناريو المتوقع في حالة إخفاق أو صعود ذلك التيار علي مستقبل الدولة في ليبيا؟

أولا: خريطة الحركات الإسلامية الليبية:

تتوزع خريطة الحركات الإسلامية في ليبيا بين أربعة تيارات رئيسية، يمكن القول إنها تشكل أساس الحركة الإسلامية الليبية، وتتمثل أبرزها في الجماعة الإسلامية للتغيير التي نشأت قبيل ثورة السابع عشر من فبراير كبديل معتدل للجماعة المقاتلة المنحلة؛ وجماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الصوفية التي تقودها الحركة السنوسية التي تتخذ من منطقة الجبل الأخضر معقلا تاريخيا لها، والتجمع الإسلامي الليبي الذي يتخذ من جنيف مقرا له، ويفكر في العودة بعد سقوط نظام القذافي.

1 ــــ الحركة الإسلامية للتغيير: قامت هذه الحركة بديلا للجماعة الإسلامية المقاتلة، بعد سلسلة مراجعات وتطورات في الداخل وفي دول الجوار، وعلى مستوى الجماعة نفسها. وأعلن بشكل رسمي عن إقامة الحركة في 15 فبراير الماضي قبل يومين فقط من اندلاع ثورة 17فبراير.

وقد تأسست من قبل بعض قادة ونشطاء الجماعة السابقة بالمنفى، خاصة القيادي بالحركة والجماعة السابقة وعضو مكتبها السياسي، أنيس الشريف، المتحدث باسمها والمقيم بالعاصمة البريطانية لندن، ولم تعلن الحركة حتى الآن عن كل قياداتها، لكنها تمهر بياناتها وتصريحاتها الصحفية بتوقيع "المكتب السياسي للحركة".

ومسار هذه الجماعة مختلف عن سابقتها، الجماعة المقاتلة الليبية، والتي كانت ذات توجـه جهادي، وارتبطت في البداية بتنظيم القاعدة، وخاضت مواجهات عسكرية مع نظام القذافي، انتهت باعتقال أعضاء الجماعة، دخلت بعدها في حوارات مع نظام القذافي طيلة السنوات الأخيرة، أسفرت عن اعتمادها مراجعات نبذت العـنف، وأدت إلى إطلاق أعضائها من السجون في العام الماضي.

2 ــ جماعة الإخوان المسلمين: تعد جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا امتدادا للجماعة الإسلامية التي تأسست في 1968، لكن لم يعلن عن الجماعة باسمها الحالي إلا في ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن أعيد تشكيلها في الخارج من جديد، عقب المطاردات التي تعرضت لها من قبل نظام القذافي. ولا تستخدم الجماعة كلمة المرشد لزعيمها، كما هو الحال في الجماعة الأم بمصر، ولكنها تطلق عليه المراقب العام للجماعة. وللجماعة موقع إلكتروني هو "المنارة"، ونشرة "ليبيا اليوم" الإلكترونية أيضا، وهي تدعم منظمات حقوقية، منها جمعية "التضامن"، ومنظمة "الرقيب لحقوق الإنسان".

ومع محاولات الإصلاح التي كان يقوم بها سيف الإسلام نجل القذافي، حاولت الجماعة التقرب إلى السلطة من أجل المراهنة على رغبة النظام في الإصلاح، لكن رهانها فشل، ولم يتمكن قادتها من العودة إلى الوطن.

ومع انطلاق ثورة السابع عشر من فبراير، كان للجماعة حضور لافت تمثل في دعمها للمجلس الانتقالي، ومشاركة بعض رموزها في تأسيس المجلس، مثل الدكتور عبد الله شامية، أستاذ الاقتصاد بجامعة بنغازي (قاريونس سابقا) الذي تولى الملف الاقتصادي في المكتب التنفيذي للمجلس الذي كان يرأسه محمود جبريل. وأخيرا، عقدت الجماعة مؤتمرها العام الأول في ليبيا ببنغازي، اختارت فيه بشير الكبتي مراقبا جديدا، خلفا للمراقب السابق سليمان عبد القادر.

كما أقر في هذا المؤتمر تشكيل حزب سياسي يشارك فيه الليبيون جميعا للإسهام في عملية التحول الديمقراطي، والمشاركة في الانتخابات المقبلة في البلاد، وذلك لمواجهة متطلبات المرحلة المقبلة، بحسب البيان الختامي لمؤتمر الجماعة.

3 ــــ التجمع الإسلامي: تأسس في 1992 في مدينة جنيف السويسرية، وكان يقوده عبد الوهاب الهلالي، ويتخذ موقعا وسطيا بين الإخوان و"المقاتلة". وللحركة ميثاق، وهيكل تنظيمي، ولوائح داخلية تنظم وتحدد وتوجه نشاطها وتوجهاتها، وتنظم العلاقة بين القاعدة والقمة. وقد فقدت الحركة معظم قياداتها وأعضائها في مذبحة بوسليم 1996. وتدور الفكرة المركزية للتجمع الإسلامي حول تأسيس تنظيم إسلامي يتوافق مع طبيعة المجتمع الليبي، معتمدة على أبناء الحركة الإسلامية الليبية التي تقود المجتمع وتدفعه للتغيير.

ويفكر أعضاء الجماعة حاليا بعد العودة من الخارج في المشاركة في العملية السياسية الجديدة، لكنهم باتوا مشتتين بين التيارات السياسية الوليدة في البلاد بسبب سيطرة تيارات السلفيين والإخوان المسلمين، ورغبة العديد من أعضائها في المشاركة مع قوى أخرى في تأسيس أحزاب سياسية مدنية تناسب المرحلة الجديدة.

3 ـــ الصوفية:تعد هذه الحركة الأقدم بين تيارات الإسلام السياسي في ليبيا، واللاعب السياسي الأبرز فيها هو السنوسية الصوفية، التي أسسها في 1937 محمد بن علي السنوسي، وانتشرت في ليبيا انطلاقا من المناطق الشرقية عن طريق شبكة من الزوايا الدينية. وأدت الصوفية السنوسية دورا سياسيا في ضبط النزاعات القبلية، إذ وحدت الصوفية السنوسية القبائل الليبية، وعلى رأسها شخصيات أسطورية، مثل عمر المختار، والملك إدريس الأول، في مواجهة قوى الاحتلال الإيطالي.

ومع وصول القذافي للحكم، تفككت السنوسية عمليا - على المستوى الرسمي على الأقل - لأنها مؤيدة للملكية، لكنها ربما ستجد صعوبة في العودة السياسية من جديد، في ظل سيطرة السلفيين والإخوان المسلمين، ورغبة أتباعها في الانكفاء على الذات، خاصة أنها فقدت الكثير من كوادرها خلال حقبة القذافي.

 ثانيا: الموقف من المجلس الانتقالي:

لم تبد أي من الحركات الإسلامية أي نوع من الاعتراض على المجلس الانتقالي الذي تشكل في بدايات الثورة الليبية، وسارعت هذه الحركات في مساندة وتأييد المجلس الانتقالي في مواجهة نظام القذافي؛ وشارك العديد منهم في تأسيسه، مثل الإخوان المسلمين، وبعض قادة الجماعة المقاتلة، مثل عبد الحكيم الحصادي الذي كان ممثلا لمدينة درنة بالمجلس، كما ساندوا المكتب التنفيذي للمجلس الذي كان يديره محمود جبريل.

ومع تطور الأحداث، واقتراب نهاية نظام القذافي، بدأ عدد من الإسلاميين في الاعتراض على أداء المجلس الانتقالي ومكتبه التنفيذي، حيث وجه علي الصلابي، عضو المجلس، والمقيم في قطر، انتقادات شديدة لمحمود جبريل، لاختياره مقربين في إدارة المكتب التنفيذي، وهو ما رآه الصلابي سعيا لتأسيس ديكتاتورية جديدة في ليبيا، مبديا اعتراضه على عدم مشاورة القوى الوطنية الفاعلة. كما نشر عبد الكريم بلحاج مقالا في صحيفة الجارديان في منتصف أكتوبر الماضي، حذر فيه من مغبة إقصاء الإسلاميين من السلطة، وهو ما يمكن القول معه إن الإسلاميين باتوا يخشون من استئثار الليبراليين على ليبيا الجديدة.

كما أسهمت المساندات الخارجية لليبيين إبان الثورة كثيرا في أجواء التوتر التي باتت هي السمة التي تطبع العلاقة بين المجلس الانتقالي والتيارات الإسلامية خلال الفترة الأخيرة، مما خلق حساسية كبيرة بين الجانبين، ظهرت في تشكيلة حكومة عبد الرحيم الكيب التي ستدير الفترة الانتقالية، رغم أنها لم تلق اعتراضا كبيرا من الإسلاميين عكس غيرهم. وهو ما قد يعني أن إسلاميي ليبيا باتوا يفكرون في العملية السياسية الجديدة بتمعن وتمهل، وينتظرون الانتخابات المقبلة، التي قد تأتي بهم من خلال عملية ديمقراطية.

ثالثا: رؤية الإسلاميين للمرحلة الانتقالية:

من الملاحظ أن هناك توجها انفتاحيا من قبل الإسلاميين في ليبيا، مغايرا تماما لما كان قبل ثورة 17 فبراير، جعل هذا التيار يفكر بجدية في ضرورة التمهل في التفكير من أجل الإعداد للمرحلة المقبلة. ويلاحظ ذلك من خلال عدم المزاحمة أو التسابق على المناصب في الحكومة الجديدة، إذ إن حكومة الكيب التي أعلن عنها في 22 نوفمبر قد غاب عنها إسلاميون بارزون كان يتوقع أن يحصلوا على مناصب في تشكيلتها، مثل عبد الحكيم بلحاج.ويبدو أن أجواء الانفتاح التي تعيشها ليبيا حاليا قد أسهمت كثيرا في إقناع الإسلاميين بضرورة تغليب الصراع السياسي على العنف، والعمل على ترسيخ الدولة المدنية، في ظل بيئة ليبية معتدلة ومتجانسة.

وقد سارع الإسلاميون في ليبيا إلى طمأنة الخارج على مستقبل ليبيا، وأكدوا رغبتهم في الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولهذا، عبر عبد الكريم بلحاج في الجارديان منتصف أكتوبر الماضي عن إيمانه بالديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤكدا توبته عن ماضيه الجهادي.

ويسعى الإسلاميون إلى ضرورة أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للحكم القادم في ليبيا، وهو ما يتفق مع طرح مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي، خلال إعلان التحرير في أكتوبر الماضي، والذي أقر فيه "أن الشريعة الإسلامية ستكون المصدر الرئيسي للتشريع في ليبيا....".

كما يعمل إسلاميون حاليا على تأسيس أحزاب سياسية ذات مرجعية إسلامية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، والجماعة الليبية للتغيير، إضافة الى أن هناك أيضا ليبراليين يسعون كذلك إلى إقامة أحزاب سياسية ذات مرجعية دينية، مثل حزب العدالة والتنمية الليبي الذي أسسه الهادي شلوف أستاذ القانون، وكذلك حزب المحافظين الذي أسسه أحمد المغربي.

رابعا: تحديات الحركات الإسلامية في ليبيا:

هناك عدد من التحديات التي ربما قد تواجه الحركات الإسلامية في ليبيا الجديدة، ربما تكون عائقا في التواصل، أو تحد من قدرتهم على الهيمنة السياسية، وهي:

1- التنافس الكبير بين هذه الحركات وبعضها، مثل الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية للتغيير، والتجمع الإسلامي.

2- التجانس الديموغرافي الموحد في ليبيا التي تدين بالإسلام على المذهب السني في غالبيتها، رغم وجود عدد قليل من أتباع المذهب الإباضي بالجبل الغربي.

3- إصرار عدد كبير من الثوار الإسلاميين على الاحتفاظ بسلاحهم، رغم انتهاء الحرب، وإصرارهم على عدم تسليم السلاح إلا بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، والشروع في عملية سياسية ديمقراطية؛ وهو ما يثير تخوفات نحو نياتهم من قبل الأطراف الخارجية والداخل الليبي.

4- علاقة الإسلاميين بأطراف خارجية وقوى إقليمية، أو حتى غربية، وهو ما يجعل البلاد مخترقة على الدوام، ويصعب من تحقيق عملية سياسية شفافة وذات مصداقية لليبيين في الداخل.

5- التركيبة القبلية التي تميز ليبيا، خاصة أن هناك قبائل معينة لا تزال تشكك في نيات الإسلاميين، مثل قبائل ورفلة، والقذاذفة، والمقارحة، وأولاد سليمان، وهم جميعا ممن يتمركزون في المنطقة الغربية وإقليم فزان في الجنوب.

6- الاختلاف الملحوظ بين هذه التيارات في شرق البلاد وغربها في نمط التفكير وفي العلاقة مع الخارج ومصادر القوة، خاصة أن من في الشرق ربما يكونون مترابطين أكثر ممن هم في الغرب.

خامسا : سيناريو الدولة الدينية:

        يوحي التحليل الدقيق للأوضاع السائدة في الداخل الليبي بأن فرص إقامة دولة دينية في ليبيا لا تبدو بالدرجة المتوقعة، نظرا لغياب الرؤية الموحدة حول مستقبل ليبيا بين هذه التيارات، وتباين المواقف حول الشكل المتوقع للنظام السياسي الذي ستكون عليه ليبيا، وافتقار هذه التيارات للتنظيم الجيد، مثل بقية القوى والتيارات الأخرى، حيث لا تزال تعاني قصورا شديدا في العملية التنظيمية، وتفتقر إلى هيكل قيادة واضح ومحدد المعالم.

 يضاف إلى ذلك ، تباين اختلاف وجهات النظر داخل التيار الواحد ما بين التشدد والاعتدال، كما هو الحال بين كل من أسامة الصلابي، قائد إحدى كتائب الثوار في بنغازي، وشقيقه علي الصلابي، حيث يعد الأول أكثر تشددا من الثاني، رغم اعتناقهما للأفكار نفسها.

وتلعب التحديات السابقة دورا كبيرا في ارتباك التيار الإسلامي بين الحين والحين، وهو ما يمكن استقراؤه من عدم وضوح رؤاهم تجاه المستقبل وتجاه التيار نفسه، إن كانت ستشكل أحزابا مستقلة بها، أم أنه سيتعين عليه مشاركة الآخرين في التنظيمات والأحزاب السياسية.

  على أي حال، لا تزال القوى الإسلامية في ليبيا لم تبلور رؤاها للمرحلة القادمة، عدا جماعة الإخوان المسلمين التي قررت المشاركة مع آخرين في تشكيل حزب سياسي، وهو ما قد يجعل من سيناريو إقامة الدولة الدينية في ليبيا أحد أقل السيناريوهات احتمالا.


رابط دائم: