المكون المجتمعى والحوار الوطنى
7-5-2023

د.سامية قدرى
* أستاذ علم الاجتماع، كلية البنات- جامعة عين شمس

منذُ ما يقرب من مئة عام، وقبل أن تبدأ عقود التنمية فى مصر، كتب طه حسين فى مقدمة كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، والذي يدعو فيه إلى الإصلاح الاجتماعي والثقافى، يقول: «لقد شعرت كما شعر غيري من المصريين، بأن مصر تبدأ عهدًا جديدًا من حياتها وإن كسبت فيه بعض الحقوق، فإن عليها أن تنهض فيه بواجبات خطيرة وتبعات ثقال.. إن النُظم التي تدبر أمورنا فى حاجة إلى كثير من الإصلاح، ونحن حينما نُشرع القوانين، وننشئ المدارس وننشر العلم وننظم الاقتصاد ونستعير النُظم الديمقراطية عن الغرب، إنما نسعى إلى شيء واحد هو تحقيق المساواة التي هي حق طبيعي لأبناء الوطن الواحد(1).
وبعد ما يربو على مئة عام، تتجدد الدعوة إلى بناء دولة جديدة، دولة مدنية ديمقراطية حديثة تنشد تحقيق العدالة والمساواة لكافة أبناء الشعب. ويُشارك فى بنائها كافة أطياف الشعب. ولهذا، دعا الرئيس السيسي إلى حوار وطني يُشارك فيه كل القوى السياسية، ومختلف فئات الشعب من أجل التوافق على آليات الإصلاح الاجتماعي الشامل فى المرحلة المقبلة ومناقشة القضايا الملحة التي تفرضها تحديات اللحظة الراهنة. وقد جاءت الدعوة إلى الحوار فى ظل تحديات محلية وإقليمية وعالمية ألقت بظلالها على الأوضاع الداخلية فى البلاد. لم يكتفِ الرئيس بالدعوة إلى الحوار، بل كلف بتشكيل مجلس أمناء الحوار من مجموعة من الخبراء من مختلف المجالات لإدارة نقاش ديمقراطي حول العديد من القضايا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وذلك لرسم صورة ملامح العمل الوطني خلال المرحلة القادمة.

ولقد قام مجلس الحوار بتقسيم قضايا الحوار إلى ثلاثة محاور: سياسي، واقتصادي، و اجتماعي. وفى المحور الاجتماعي تم الاتفاق على خمس قضايا هي: التعليم، والصحة، والأسرة، والثقافة والهوية، والتماسك المجتمعي، فى هذا المقال،  سنلقي الضوء على قضايا المحور الاجتماعي بعد تناول فلسفة الحوار وأهميته، لاسيما الحوار حول القضايا الاجتماعية، لأنها تمثل جوهر الحوار،على اعتبار أن لا إصلاح سياسيا واقتصاديا دون إصلاح اجتماعي وثقافى حقيقي.
أولًا- فى فلسفة الحوار وأهميته:
فى ظل ظروف وتحديات مجتمعية تواجه دولة ما، تُعد الحوارات الوطنية آلية مهمة وفعالة لمواجهة أية تصدعات تنجم عن هذه التحديات، كما تُعد آلية لإعادة بناء العلاقة بين الدولة ومؤسساتها من ناحية، وبينها وبين مختلف فئات الشعب من ناحية أخرى، بغية التوصل إلى عقد اجتماعي جديد. وقد شهدت العقود القليلة الماضية حوارات وطنية فى العديد من دول العالم انطلاقًا من أهميتها كمنصات للتحول السلمي والديمقراطي، خاصة فى الدول التي شهدت نزاعات وتوترات على خلفيات سياسية، أو عرقية، أو دينية كاليمن، والسودان، ولبنان، وتونس، والعراق.. وغيرها من الدول. وتُعد تونس نموذجًا للحوار الوطني الناجح الذي دعا إليه المجتمع المدني التونسي تحت اسم ما يُطلق عليه «المجموعة الرباعية» التي حصلت على جائزة نوبل للسلام عام 2015 نظير بنائها القاعدة السياسية للإصلاح الدستوري والمؤسسي العميق(2).
ولكي تحقق الحوارات الوطنية طموحاتها لابد لها أن تناقش على نحو واسع فى أوساط الحكومات الوطنية، والأحزاب المُعارضة، ومجموعات المجتمع المدني، والحركات المسلحة، وكذلك فى دوائر السياسة الدولية ودوائر الممارسين، والدوائر الدبلوماسية والمانحة، خاصة فى حالات الدول التي تشهد صراعات ونزاعات انقسامية. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال مفهوم الحوار حتى يومنا هذا مفهومًا ملتبسًا وغير دقيق. وأن معظم المعرفة به تقتصر على حالات بعينها، حالات شهدت نزاعات وانقسامات عرقية، ودينية، وصراعات سياسية مسلحة. فقد ظهر مفهوم الحوار الوطني إلى الساحة العربية عقب ثورات الربيع العربي استجابة من الدول التي شهدت تصدعات سياسية، وذلك رغبة فى حماية السيادة الوطنية ومحاولة إيجاد حلول سياسية بزمام مبادرات وطنية.
فالحوارات الوطنية هي عمليات سياسية ذات ملكية وطنية تستهدف توليد توافق الآراء بين طيف واسع من الجهات الوطنية صاحبة المصلحة فى أوقات الأزمات السياسية الحادة، أو فى أوضاع ما بعد الحرب أو خلال عمليات الانتقال السياسي قصيرة المدى(3). وللحوار الوطني ثلاثة مستويات، فقد يهدف إلى تحقيق أهداف محددة وآنية (التعديلات الدستورية، لجان تقصي الحقائق)، أو أهداف أوسع من ذلك (إصلاح فى المنظومة التعليمية والصحية)، أو عملية تغيير اجتماعي واسعة النطاق وبناء نظام سياسي جديد ووضع عقد اجتماعي بين الدولة ومؤسساتها من جانب، والمواطنين من جانب آخر.
والحوار الوطني الذي يدور فى مصر الآن، حوار من المستوى الثالث، حيث يهدف إلى إقامة عقد جديد بين الدولة والمواطنين لبناء الجمهورية الجديدة التي دعا إليها رئيس الدولة، وأيضًا لمواجهة التحديات التي عانى منها الداخل المصري لعقود، وما زال يعاني منها، إضافة إلى التحديات المستجدة والتي فرضتها التغيرات العالمية جراء انتشار فيروس كوفيد-19، والحرب الروسية-الأوكرانية.
ثانيًا- المحور الاجتماعي فى الحوار الوطني:
على الرغم من أهمية المحورين الاقتصادي والسياسي فى عملية الحوار الوطني، غير أن المحور الاجتماعي والثقافى قد يعلو أهمية المحورين، خاصة أن قضايا هذا المحور تُمثل عقبات أمام تغير اقتصادي وسياسي حقيقي، وقد وقف المراقبون لعملية الحوار إزاء هذه القضية ثلاثة فرق: فريق يرى أن يكون البدء بالإصلاح السياسي ومؤسسات الدولة إصلاحًا حقيقيًا لكي يتسنى لنا تحقيق عملية الإصلاح الاجتماعي والثقافى، وآخر يرى أن نبدأ بالإصلاح الاقتصادي وأن تحتل القضايا الاقتصادية الأولوية فى الحوار، خاصة أن الاقتصاد المصري كان ولا يزال، يُعاني من سيطرة سياسات اقتصادية بحاجة إلى إصلاح جوهري، خاصة فى ظل الأزمات السياسية الراهنة التي فرضتها ظروف عالمية (أزمة كوفيد-19، الحرب الروسية-الأوكرانية)، والتي تركت تداعيات اقتصادية خطيرة. على الداخل والخارج. وهناك فريق ثالث يرى أن المشكلة والتحدي الأكبر هو التحدي الاجتماعي والاقتصادي، بإصلاح التعليم، على سبيل المثال، وقد يُسهم فى مواجهة الأزمات فى إحداث تغيير سياسي حقيقي، ومواجهة مشكلة الزيادة السكانية. وقد يؤدي إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتغيير ثقافة الاستهلاك وترشيده، وقد يُسهم فى حل أزمة ارتفاع الأسعار والتضخم.. وهكذا. وأيا كان رأي كل فريق، فعملية الحوار المتوازن والواسع الذي يراعي العمل بمختلف المحاور هو أمر ضروري إذا ما أريد للحوار الوطني أن يجني ثماره وأن يحقق الهدف المرجو والمُرتقب منه. وهو عملية التحول الشامل إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، وليس حوارًا من أجل إدارة أزمة أو مواجهة تحديات فرضتها ظروف خاصة.
• التعليم:
يُمثل التعليم فى كل المجتمعات -المتقدم فيها والأقل تقدمًا- أهمية قصوى فى بناء المجتمعات والحفاظ على استقرار النظم، فهو، كما ذهب عالم الاجتماع البريطاني أنتوني جيدنز «قدس الأقداس الجديد»، خاصة تعليم الفقراء، ولعل ذلك ما دعا رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير إلى وصفه الشهير لأولوياته فى الحكم «التعليم، التعليم، التعليم»(4).
لا شك فى أن التعليم والتنمية وجهان لعملة واحدة، فهو قاطرة التنمية علاوةً على كونه حقا من حقوق  الإنسان، دعت إليه كافة المواثيق والمعاهدات الدولية بدءًا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، والعهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية عام 1966 الذي صدر بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2200 والذي دخل حيز التنفيذ عام 1976 والذي نص فى المادة 13 حول الأهداف التي يجب أن تتبناها عملية التربية والتعليم:
«وجوب توجيه التربية والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها وإلى توطيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وهي متفقة كذلك على وجوب استهداف التربية والتعليم تمكين كل شخص من الإسهام بدور نافع فى مجتمع حر، وتوثيق أواصر التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم ومختلف الفئات السلالية أو الإثنية أو الدينية، ودعم الأنشطة التي تقوم بها الأمم المتحدة من أجل صيانة السلم».
والواضح أن المادة لم تتوقف عند حدود الأهداف التقليدية للتعليم، بل تجاوزتها إلى آفاق أرحب تُنشد غايات إنسانية كبرى وتتجاوز النطاقات القومية والإقليمية من أجل تحقيق السلم العالمي، ومن أجل ترسيخ قيم التسامح، والتعايش، واحترام الآخر(5).
وقد جاءت استراتيجية التنمية المستدامة رؤية مصر 2030 لتضع التعليم فى مكان الصدارة على المستوى الوطني. كما نصت المادة رقم 19 بدستور 2014 على أن: «التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمى فى التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز، وتلتزم الدولة بمراعاة أهدافه فى مناهج التعليم ووسائله، وتوفيره وفقًا لمعايير الجودة العالمية. والتعليم إلزامى حتى نهاية المرحلة الثانوية أو ما يُعادلها، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة فى مؤسسات الدولة التعليمية، وفقًا للقانون. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للتعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومى الإجمالي، تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتشرف الدولة عليه لضمان التزام جميع المدارس والمعاهد العامة والخاصة بالسياسات التعليمية لها»(6).
هذا، وقد أضافت هذه المادة التزامات على الدولة مراعاة معايير الجودة، أن يكون التعليم إلزاميًا حتى المرحلة الثانوية بتخصيص نسبة 4%. كما جاءت استراتيجية 2030 لتضيف إلى هذا النص الدستوري تعهدًا آخر بتوفير حق التعليم للجميع وبجودة عالية دون تمييز وفى «إطار نظام مؤسسي كفء وعادل، ومستدام، ومرن. وأن يكون مرتكزًا على المُتعلم والمُتدرب القادر على التفكير والمُتمكن فنيًا وتقنيًا وتكنولوجيا، وأن يُساهم أيضًا فى بناء الشخصية المُتكاملة وإطلاق إمكانياتها إلى أقصى مدى لمواطن مُعتز بذاته، ومُستنير، ومُبدع، ومسئول، وقابل للتعددية، يحترم الاختلاف، وفخور بتاريخ بلاده، وشغوف ببناء مستقبلها وقادر على التعامل تنافسيًا مع الكيانات الإقليمية والعالمية»(7).
وفى ضوء مؤشري الإتاحة والجودة، كما نص عليهما الدستور واستراتيجية التنمية المستدامة 2030، نجد أن مصر حققت معدلات الإتاحة أما من حيث الجودة ، تدل المؤشرات على انخفاض جودة التعليم فى مصر حيث يُشير تقرير التنافسية العالمية لعام 2016/2017 إلى أن مصر احتلت المرتبة 135 من بين 138 فى جودة التعليم بصفة عامة، واحتلت أيضًا المرتبة 130 فى جودة تدريس العلوم والرياضيات، والمرتبة 133 فى توافر الإنترنت بالمدارس. وأن ثمةً مؤشرات على هذا الانخفاض منها(8).
1- لا يحقق النظام مُخرجات التعليم والمهارات والقدرات اللازمة لمواصلة التعليم والانتقال إلى سوق العمل.
2- انخفاض مستوى طلاب التعليم الثانوي الفني وضعف مهاراتهم.
3- تراجع الترتيب على مؤشر التنافسية العالمية.
4- تشوه بنية النظام التعليمي.
5- ضعف الموازنة وسوء حالة المباني المدرسية.
هناك إذًا فجوة علينا أن نجتازها، وعلى الحوار الوطني أن يصل إلى آليات لسد هذه الفجوة، وهي فجوة ممثلة فى الفصل بإقرار الدولة بحق المواطنين فى التعليم وبين اتخاذها السبل الكفيلة بجعل هذا الحق واقعًا معيشيًا يتمتع بِه أبناء مصر كافة حسب ما نصت عليه المواثيق الدولية التي وافقت عليها مصر ومواد الدستور المصري. إن عبور هذه الفجوة ليس سهلًا ولا يسيرًا، بل هو يُمثل أكبر التحديات التي تواجهها مصر الآن. ومن ثم فإن إصلاح التعليم لابد أن يكون بمنزلة حركة اجتماعية تقود المجتمع سياسيًا، اجتماعيًا واقتصاديًا وتستنفر فيها الجماهير ومؤسسات المجتمع المدني لتحقيق هذا الهدف.
ولدراسة هذه الفجوة، قامت وزارتا التعليم والتعليم العالي بإعداد خطة لتطوير التعليم آخذين فى الاعتبار أن التعليم لم يُعد خدمة عامة، بل هو حجر الأساس فى بناء المواطن الحديث، قادر على أن يعيش فى مجتمع آمن ومُستقر،ومُتقدم ومُنفتح على العالم، كما أن التعليم هو أساس النهوض بالاقتصاد، والاندماج فى الحياة السياسية(9). ويُعد عام 2016 نقطة فاصلة فى حركة الدولة لتطوير التعليم، خلال إطلاق عدة مبادرات، ففى عام 2015 تم تدشين بنك المعرفة المصري كخطوة بناء مجتمع حديث وإطلاق مبادرة رئاسية نحو مجتمع يتعلم ويفكر ويبتكر. كما تم إطلاق استراتيجية رؤية مصر 2030 للتنمية المستدامة والتي أولت للتعليم موقعًا خاصًا. وفى العام نفسه، تمت الاستعانة بخبراء دوليين ومؤسسات دولية للمساهمة فى بناء مناهج تعليمية جديدة.ومازالت الدولة تستجيب لأية تغييرات من شأنها إصلاح التعليم، وعلى الحوار الوطني أن يصل إلى توافق حول السياسات التي ينبغي على الدولة ومؤسساتها أن تتخذها حيال ملف التعليم، ولن يتأتي ذلك إلا من خلال حوار موضوعي قائم على قراءة واقع قضية التعليم قراءة دقيقة وعميقة بعيدة عن الشطط والأهواء الذاتية.
• الصحة:
لا شك فى أن قضية الصحة تُعد واحدة من القضايا المُلحة والمُهمة التي ينبغي على الدولة أن توليها جُل اهتمامها حفاظًا على الثروة البشرية والاقتصادية، فالوضع الصحي فى دولة ما يرتبط إلى حد كبير بطبيعة المنظومة الاقتصادية ومدى قدرتها على توفير الرعاية الصحية لمواطنيها وقدرتها أيضًا على مواجهة الصدمات والأزمات المُتعلقة بالصحة، خاصة بعد أن كشفت أزمة وباء كورونا ضعف المنظومة الصحية وعدم جاهزية القطاع الصحي لمواجهة الأزمة.
وعلى الرغم من أن الحق فى الرعاية الصحية حق يقره الدستور، ويلزم الدولة بالاتفاق عليه بنسبة لا تقل عن 3% من إجمالي الناتج القومي كما أنه يُشكل محورًا رئيسيًا لتحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة. وإذا ما قارنا نسبة الإنفاق على الصحة فى مصر مقارنة بباقي الدول، نجد أنه فى غالبية الدول يتراوح بين 7% إلى 20% من الناتج الإجمالي، بينما فى مصر لا يتجاوز الإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي(10). كما يبلغ نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة فى مصر خُمس (1/5) المتوسط العالمي، حيث يبلغ 176 دولارا فى مقابل 904 دولارات عالميًا، كما أنه بمقارنة الإنفاق الحكومي والخاص على الصحة نجد أن الإنفاق الحكومي يبلغ 74% والقطاع الخاص 26% عالميًا، بينما فى مصر يُشير الإنفاق بشكل معاكس، حيث تبلغ نسبة الإنفاق الحكومي 35% والخاص 65%. علاوةً على ذلك، تنخفض النسب أيضًا بالنسبة لمقدمي الخدمات (الأطباء، الممرضين) وهو ما يُشير إلى معاناة القطاع الصحي من عدم توافر الموارد البشرية الكافية(11).
وعلى الرغم من الجهود الحكومية المبذولة خلال السنوات القليلة الماضية فى رفع كفاءة الخدمات الصحية فى مصر، إلا أن هناك الكثير الذي يُمكن تقديمه لتحقيق مستوى مأمول من الخدمات الصحية على كافة المستويات المادية والبشرية والتقنية. والأمر متروك للحوار الوطني للنقاش حول القضية والوصول لأفضل النتائج التي يُمكن رفعها إلى متخذي القرار للنهوض بصحة المصريين.
• الأسرة:
على الرغم من أن الأسرة ظاهرة عالمية وأنها قاسم مُشترك بين كافة المجتمعات البشرية، غير أن المجتمعات تختلف فى درجة ما تتمتع به الأسرة من محورية فى الحياة الاجتماعية. فالأسرة المصرية على مدار العصور هي الخلية الأولى للمجتمع والتي فيها يكتسب الفرد من خلال عملية التنشئة الاجتماعية أساليب السلوك والفكر الذي يخرج بِه للمجتمع، كما كانت الأسرة بمثابة المهد والملاذ، لذلك لا شيء فى المجتمع المصري يفوق فى أهمية الأسرة سوى الوطن. فهي الرباط الذي يوحد الإنسان بأرضه ووطنه، وهي الملاذ وقت الشدة والكرب(12)، لقد ظلت الأسرة على هذا النحو عقيدةً راسخة لدى المصريين على مر العصور، غير أن التأثيرات التي أحدثتها التغيرات العالمية المتسارعة جعلتنا ننظر إلى الأسرة من منظور مُختلف، فبعد أن كانت الخلية الأولى، نجد بعض المحللين يصفها بأنها تتأرجح بين الموت والحياة، فهي أشبه بالجسد الميت الذي يحاول الفاعلون فيه أن يعيدوا إليه الحياة(13).
لقد فقدت الأسرة تماسُكها وأصابها الوهن وتفشت فيها القيم الفردية والمادية، تلك القيم التي تسم العالم المعاصر، وتصاعدت حدة وصور العنف بين أعضائها، وزادت مُعدلات الطلاق، واتسم سلوك أفرادها بالعزلة والفردية، واستبدلت الروابط القائمة على الزواج والشرعية بالروابط القائمة على الصداقة والعلاقات الحميمية، وتزايد نسب الأفراد الذين يعيشون بمفردهم، وتزايدت أعداد النساء غير الراغبات فى الإنجاب، وتزايد تعرض النشء للانحراف، إلى جانب التزايد المُكثف لقوة النساء كقوة اجتماعية، رغم أهميته غير أنه أحدث خللًا فى الأسرة ذات الطابع الذكوري... إلخ. يقودنا كل ذلك إلى أن الأسرة تقف فى مهب الريح وتتعرض لضغوط عديدة تحتاج إلى سياسات اجتماعية جديدة تتواكب مع متطلبات العصر الذي تعيش فيه. ونأمل أن يصل الحوار الوطني إلى آليات ناجحة فى إحداث التغيير المنشود وجعل الأسرة المصرية تعود إلى سابق عهدها.
ويحتاج هذا إلى حماية وتدعيم ومساندة من الدولة ومؤسساتها ومن المجتمع المدني، ولا أقصد هنا الجمعيات الأهلية التي تُقدم الدعم المادي للأسرة، بل للمجتمع المدني بمعناه الواسع الذي يعمل فى المجال التنموي مع الشرائح والمستويات المختلفة، لاسيما القاعدية فى المجتمع والمسئول عن التغير الاجتماعي والثقافى، بل والسياسي والاقتصادي عن طريق ترويج القيم المدنية وحقوق الإنسان والمسئولية المدنية والمواطنة الفعالة(16). ولعل ذلك ما دعا رئيس الجمهورية، لأن يجعل عام 2022 عامًا للمجتمع المدني. وإطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، كدعوة لوجود خطاب رسمي داعم للمجتمع التشاركي فى التنمية.
• الثقافة والهوية:
تُمثل الثقافة مثلها مثل التعليم، حجر الزاوية فى أية عملية تنموية وفى معرض الحديث عن إصلاح اجتماعي شامل وحقيقي. وعلى الرغم من الدعوة المبكرة لتبني المدخل الثقافى كوسيلة للتقدم والبناء، خاصة أن الثقافة تحد قوي أمام تنمية حقيقية ومستدامة، إلا أن تجارب العديد من الدول قد تعثرت فى ذلك، ومنها مصر نظرًا لأنها أكثر الجوانب عصيانًا على التغيير. والثقافة التي نعنيها هنا، هي الثقافة بالمعنى العام والواسع والتي عرفها عالم الأنثروبولوجيا رالف لنتون بأنها «كل مخططات الحياة تاريخية المنشأ، أي تلك التي ترتبط بالمعتقدات والتقاليد، والمعاني، والرموز التي تميز شعبًا من الشعوب وتشكل هويته، كما أنها تراث يتكون عبر فترات تاريخية طويلة تجعل من التغير الثقافى أمرًا عسيرًا. ورغم أهمية الأبعاد الروحية والمادية للثقافة المصرية، غير أن ثمةً عناصر لم تواكب التغيرات والتطورات العالمية والتفاعل معها وإعادة إنتاج للذات الثقافية فى إطار خصائصها حتى لا تنجح الثقافة وتظل منغلقة وجامدة، خاصة فى ظل التقدم العلمي والمعرفى المتسارع. كما أن هذه الثقافة لابد أن تثري وتنمو بفضل ملكة الإبداع.
وعندما نتحدث عن التغير الثقافى، فإننا نعني تغير الجوانب التي لا تتماشى مع العصر الذي نعيش فيه ولا يمكن ببقائها، وأن نواجه التحديات التي تفرضها طبيعة الحياة المعاصرة. فلدينا مقولة تذهب بأن: «الناس كما تفكر تعيش»، أي إن سلوكنا هو نتاج الفكر، فلا يصح فى عصر السماوات المفتوحة أن نعيش بفكر قرون مضت. إن تجديد الفكر، سواء ديني أو شعبي، هو مطلب حيوي ومهم لتجاوز كثير من الصعاب التي تواجه عملية الإصلاح الشامل. وعلى الحوار الوطني أن يمنح قضية الثقافة وتجديد الفكر أهمية قصوى دون أن يمس ذلك الثوابت الثقافية التي تشكل الهوية المصرية.
• التماسك الاجتماعي:
ينقلنا الحديث عن الأسرة والثقافة إلى الحديث عن التماسك المجتمعي الذي تلعب فيه الأسرة والثقافة دورًا مهمًا من خلال غرس القيم المدنية التي تسهم بدورها فى إحداث التماسك المجتمعي. فقد تراكم لدى المصريين من خلال علاقتهم وروابطهم الاجتماعية رأس مال اجتماعي ساهم فى تحقيق تماسك المجتمع واستمراريته. وقد جاءت وذهبت نُظم سياسية عديدة وبقيت الحياة الاجتماعية راسخة لا يعتريها أي خلل جوهري، ولا يتسرب إليها صراع يفكك العروة الوثقى التي تربط عناصرها بفضل هذا الرأسمال. والرأسمال الاجتماعي الذي نقصده هنا هو: «العلاقات الاجتماعية التي يكونها البشر عبر تفاعلاتهم الاجتماعية فى إطار من قيم التسامح، والتعاون، واحترام الآخر وقبوله، والثقة، وكل القيم التي من شأنها أن تسهم فى استقرار المجتمع وتماسكه.
ورغم وجود هذا الرأسمال فى عمق الثقافة المصرية، وهو الأمر الذي حافظ على الرابطة الوطنية، إلا أن حياتنا المعاصرة شهدت بوادر انقسام وتحد لهذه الرابطة الوطنية، ومحاولة إيجاد روابط بديلة عن الرابطة الوطنية كالانتماء الديني، أو الروابط العشائرية، أو الدعوة إلى انفصال بعض الجماعات عن الدولة. قد أدرك المصريون ذلك وسعوا إلى استعادة حياتهم المدنية وتماسكها عبر عاداتهم وتقاليدهم ورموزهم الأخلاقية، والمعنوية، والدينية، روح الجماعة بما تعكسه من تضامن وأمن مُشترك، وطوق للعدالة والفرح بالحياة، والتأمل فى الكون(15). ولعل الحادث الذي تعرضت له إحدى الكنائس المصرية بالأمس القريب لشاهد على اللُحمة والتماسك الاجتماعي الذي يتسم به  المصريون.
إن تعزيز التماسك الاجتماعي والتلاحم الوطني لا يتأتي إلا من تفعيل مبدأ المواطنة الذي ينص عليه الدستور المصري، وهذه مهمة الدولة ومؤسساتها، أما المجتمع المدني فله دور أكبر فى تقوية النسيج الاجتماعي من خلال عمله على تجاوز التحيزات الثقافية والدينية ونبذ العنف ومناهضة خطاب الكراهية وقبول الاختلاف والتنوع أو الحد من الضغوط الثقافية والاجتماعية التي تحدث الاستقطاب الحاد بين المواطنين على اختلافاتهم المناطقية، والطبقية، والدينية، والعرقية، والثقافية وغيرها من صور الاختلاف، وتدعيم ثقافة الحوار والتعددية والتنوع والمساواة، وقبول الآخر من فئات المجتمع المتنوعة والمساهمة فى إيجاد مناخ صحي من التفاعل، والتفاهم، والتشجيع على الانخراط فى الحياة العامة وترسيخ معاني المواطنة والعمل الجماعي بين أفراد المجتمع، ما يعزز النقاش السلمي الإيجابي، ويسهم فى مواجهة التطرف والنزاعات التي تسعى للنيل من المجتمع.
علينا إذًا، أن نعمل على دعم هذا التماسك بكل ما نملكه من أدوات، وأن نُعيد لثقافتنا المدنية ورأس المال الاجتماعي الذي نملك قوته ونناهض كل القوى التي تسعى إلى تآكله عبر مؤسساتنا التعليمية، والإعلامية، والدينية وبالطبع عبر الأسرة، المؤسسة الأولى والأهم فى عملية نقل التراث المدني للمجتمع.
ختامـــًا:
لقد تمت الدعوة إلى الحوار الوطني من أجل بناء منظومة متكاملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مستمدة من رؤى وقناعات مجتمعية داعمة للإصلاح والبناء. ورغم ذلك دارت نقاشات بين عدد من المعنيين المنتمين إلى تيارات فكرية وسياسية شتى وطرحت العديد من التساؤلات حول مستقبل الحوار حتى قبل أن يبدأ، وهناك من طالب بطرح أفكار ورؤي لإنجاح الحوار والوصول بِه إلى غايته كالإشارة إلى رفع معدلات الثقة، والشفافية، والدقة والموضوعية من خلال إتاحة البيانات والاعتماد على الأرقام والإحصاءات، والبُعد عن الانطباعات الذاتية وإعلاء المصلحة العامة على المصالح الفردية والحزبية. وأيا كان الوضع علينا أن نبني جسور الثقة ولا نحكم على نتائج الحوار قبل أن يبدأ وقبل أن يجني ثماره وأن نتأمل الكلمات التي كتبها عميد الأدب العربي طه حسين فى نهاية مقدمته لكتابه مستقبل الثقافة فى مصر: فليحرص كل مصري على أن يجنب نفسه وأمته الخزي. وسبيل ذلك أن نأخذ أمورنا بالحزم والجد منذُ اليوم، وأن نعرض عن الألفاظ التي لا تبني، إلى الأعمال التي تبني، وأن نبدأ فى إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النابع على أساس بيّن(16).

المصادر:
 طه حسين، (1938): مستقبل الثقافة فى مصر، دار النور للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، ص38.
ماركيه بلونك وآخرون، (2017): دليل الحوار الوطني للمارسين، منشورات بيرغهوف، ص11.
 ماركيه بلونك وآخرون، مرجع سابق، ص26.
 أنتوني جيدنز، الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة أحمد زايد ومحمد محي الدين، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ص149.
سامي نصار، الحق فى التعليم فى مصر، دراسات فى حقوق الإنسان، الهيئة العامة للاستعلامات، متاح على الرابط التالي:
 https://hrightsstudies.sis.gov.eg
دستور 2014، مادة (19).
استراتيجية التنمية المستدامة: رؤية مصر 2030، البعد الاجتماعي محور التعليم والتدريب، متاح على الرابط التالي:
 http://sdsegypt2030.com
 سامي نصار، مرجع سابق.
سعيد المصري، (أبريل 2022): تقييم سياسات تطوير مناهج التعليم فى مصر، آفاق اجتماعية، مركز دعم اتخاذ القرار، ص47.
 المركز المصري للدراسات الاقتصادية (ECES)، (13 أبريل 2020): رأي فى أزمة، العدد 10، ص4.
 المصدر السابق، ص7.
أحمد زايد، (2004): خصوصية المجتمع المصري وثقافته المدنية، فى المجتمع المصري، (محرر)، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ص375.
 أحمد زايد، (2011): الأسرة العربية فى عالم متغير، منشورات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ص7.
 أيمن السيد عبدالوهاب، (مايو 2022): المجتمع المدني والحوار الوطني، أولوية الرؤية، فى أوراق سياسات، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة،  متاح على الرابط التالي: https://acpss.ahram.org.eg/News/17484.aspx
 أحمد زايد، خصوصية المجتمع المصري وثقافته المدنية، مرجع سابق، ص374.
طه حسين، مرجع سابق، ص17.


رابط دائم: