دراما رمضان ومشاهدها فى انتظار الضحكة
21-3-2023

مدحت بشاي
* كاتب صحفى

هل تراجعت الضحكة لمصلحة الدمعة، وخفقة القلب الشجية، وصنعة الإثارة، وحرفيات التشويق الباهرة، والرعب الخيالى الباهر، والخيال العلمى الدراماتيكى؟

يبدو بالفعل أن الضحك بما يمثل فى النهاية كمكون حياتى ثم فى أحيان أخرى يمثل فائضا للطاقة الإنسانية، بات على المرء أن يجد له متنفسا ليخرج هذه الطاقة من داخله، والطاقة الفائضة التى يثيرها الإحساس بالسرور والبهجة، لا بد من أن تبحث لها عن منفذ من خلال الظاهرة الصوتية المتعلقة بعملية التنفس، التى نطلق عليها الضحك، وهو ما ذكره "هربرت سبنسر" فى كتابه الشهير The Physiology of laughter.

وعبر تراث هائل للثقافة الشعبية المصرية نجد ونتابع رصيدا هائلا من المواقف الطريفة والفكاهية، ويرى أهل التنظير أنها تمثل مجموعة من الحكاوى والمواقف التى قد تبدو مؤلمة تارة ومضحكة تارة أخرى، ولعل ذلك يعد السبب الجوهرى فى أن الشعب المصرى هو بالسليقة "فُكهى" وساخر، فالسخرية من أهم الموروثات لدى الشعب المصرى عبر التاريخ، فهى التى يجد فيها المادة والمناخ المناسب للتعبير عن قضاياه وأيضا لمعارضة الأعلى مكانة فى كل مستويات الإدارة الهرمية على مر السنين.

ولعل فيلم "غزل البنات"، حوار بديع خيرى الذى شارك فى كتابته نجيب الريحانى، خير مثال على ما أسلفت القول؛ فقد كانت كل جملة فيه عبارة عن إيقاع لحركة حياة مضبوطة، لتخرج فى كل سؤال ورد بهدف اجتماعى وأحيانا سياسى وإنسانى.

فالحوار بين الباشا وأستاذ "حمام" الذى ظن أنه الجناينى، والكلام بين "حمام" والرجل المسئول عن الكلب، ومحادثة المسئول عن القهوة، جميعها  تنطوى على مباريات حوارية تشير إلى العديد من القضايا منها تبعات  الفوارق بين الطبقات، والفوارق الثقافية والإنسانية، فما يراه "حمام"  أنه بالتأكيد "الباشا" يكتشف أنه مسئول عن رعاية كلبه،  وما يراه "حمام" أنه الجناينى يكتشف أنه الباشا، وفى المقابل ما يراه الباشا من حروف هى من "أخوات كان" لا بد من أن يعترف بها "حمام" ليحافظ على لقمة عيشه.

ولكن ــ للأسف ــ تبدو بعض الدراما الكوميدية الآن فى غاية السطحية فيما يتم تناوله من قضايا، حيث التجريف الجاهل للقيم الإيجابية والأخلاق والعادات والتقاليد الأصيلة المصرية، فهم يرون "الأصالة" لونا من التخلف الاجتماعى فى عصر العلم والتكنولوجيا، ويدعم ذلك التوجه مواقع التشرذم الاجتماعى، بعد أن أصابها الترهل؛ حيث الألفاظ الخارجة التى لا يمكن أن تجلب لنا ذلك النوع من الضحك النابع من القلب، ودوره المهم فى صميم حياتنا النفسية والاجتماعية المصرية.

لن أنسى لقاء للدكتورة درية شرف الدين الإعلامية الرصينة مع الشاعر والمفكر المهموم بقضايا وطنه فاروق جويدة، وقد كان الرجل يتذكر بأسى ثقافة وفنون زمن الاحترام ومتعة المتلقى والإبداع الصادق والكفاح النبيل لإعلاء قيمة الفنون ورسائلها الإبداعية، وقال إن السلعة غير المطلوبة يَبطل إنتاجها. 

وأضاف شاعرنا: "يبدو أن أصحاب الفنون الرديئة قد فرضوا على الناس خيارهم فجعلوا من الفنون الجيدة والجادة سلعة غير مرغوب فى إنتاجها وإبداعها".

وإذا كان ذلك رأى "جويدة"، فهل لنا أن نتذكر قصيدة رائعة للشاعر الكبير عزيز أباظة نشرت منذ أكثر من 60 عاما فى مجلة الرسالة تناول فيها بالمديح والتقدير عبقرية نجيب الريحانى، قال فى مطلعها أبياتا جميلة لتثمين وإعلاء دور الفنون فى حياتنا منها:                   

    مــلأ الكــــون روعـــــة وجــــلالاً          وشبا فى فجاجها الأضـواء

    ثـم مس الدنيـــا بســحر عصــــاه            فاســـتحالت جميــلة غنــاء

ثم يشيد بفنون التمثيل فيقول:

                 قــل لمن آثـروا على المهن التمثيل        لــم تنفقـــوا الحيــاة هبـــــاء

                   فإنكـم أكــرم الفنــون علــى الناس      وأبقى على الزمــان رواء

ويستطرد مشيدا بدور الكوميديا ورسالة الريحانى:        

                      قطــع العمــر رائــدا يفجـــر النور ويعشــى فى ضـوئه المشــبوب

                     راكـــزا فنـــه ليبلـــــغ مرمـــــــاه علـى ضـــاحـك مــــن التهـذيب

                     يضحك الناس ساخرا من هنـــات الناس فى حكمة الأديب الأريب

                     وكــثيراً ما أفلـــح السـخر بالعيب  فأغـرى على اتقــــاء العيــوب

إننا أمام شاعر كبير يرى الريحانى قطبا فارعا وبديعا، ملكا متوجا على عرش الإبداع الكوميدى، والأهم من كل ذلك الإشارة إلى الجهد والعرق المبذول للوصول إلى الهدف السابق تحديده برؤية واضحة.

أين نحن الآن من تلك العلاقة بين صناع الإبداع ورجال الفكر والشعراء وقادة الإصلاح، وذلك رغم أن البلاد تمر بمرحلة مخاض لولادة متغيرات يمكن أن تشكل دافعا لازدهار الكوميديا بوصفها فن إعمال العقل والتفكير المنطقى المرتبط بالواقع وأحداثه الساخنة؟!

إن الكوميديا الجيدة الصادقة تمثل الدليل للناس لكشف فساد المعايير التى يتولد عن اختلالها وتخلفها الوصول إلى اضطراب النتائج وتحقيق أهداف معكوسة، والكوميديا القريبة من الناس بالإضافة إلى إفادتها النفس البشرية؛ حيث تروح عنها وتخفف من تبعات هموم الزمن، فإنها مادة درامية تنشط مناطق التفكير والذهنية والتدريب على التواصل مع الأحداث. 

لقد استشعر أباظة أن فن الكوميديا ومبدعها الريحانى يؤدى دورا عظيما فى تجميل الحياة وتثقيف النفس البشرية ودعم مفاهيم التذوق وتنميته عبر فلسفة ورؤية صائبة، فكانت قصيدته التى اخترنا بعضا من أبياتها هنا أن تكون قادرة على انتزاع الضحكة من أعماق الجمهور، وفى الوقت ذاته تستطيع العزف على أوتار روحه فتبكيه وتسعده، فهذا يتطلب قدرا عاليا جدا من الذكاء الفطرى والصدق الشديد مع النفس ومع الآخرين، وهى معادلة من النادر توافرها لدى أى من الممثلين.

والسؤال الآن: هل نرى فى القريب قصائد فى تحية نجوم كوميديا هذا الزمن وشخوصهم الشهيرة؟! ألا يرون أن تلك الأعمال والشخوص تقدم رؤية مغايرة فى مجال إبداع كوميديا جديدة لا يهم فيها أن تكون لها رسالة أو دور أو أيا مما يردده أصحاب الأقلام المتعالية، ألا يرى شعراء زماننا الكبار أن الكوميديا الجديدة تكمن مناطق عبقريتها فى افتقاد فنون الدراما وأصولها وحرفية كتابتها وتمثيلها وإخراجها وكل الكلام المهنى الذى يردده النقاد؟!! 


رابط دائم: