الهوية العربية وإشكاليات الرقمنة
13-2-2023

م. زياد عبد التواب
* خبير التحول الرقمي وأمن المعلومات، الرئيس السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء

الحديث عن الهوية العربية فى عصر الرقمنة هو حديث ذو شجون، وقبل أن نبدأ فى تناول الأمر ربما يكون من المناسب أن نتعرض لمفهوم الهوية ومكوناتها، فالهوية هى ما تميز شخصا عن آخر، أو مجتمعا عن مجتمع آخر، وبصفة عامة فإن للهوية خمسة مكونات رئيسية هى:

· هوية الميلاد والوجود: هذا الجزء من الهوية يتم اكتسابه من الأبوين بحكم أنهما أول من يتلقفان الطفل الصغير بالرعاية والتوجيه منذ أن تتفتح عيناه على الحياة، ومنها  فى أغلب الأحيان الحصول على جنسية دولة الميلاد وهو ما لا يكون متاحا فى بعض الحالات القليلة، كأن تكون الأسرة موجودة فى بلد آخر سواء بحكم العمل أو لأسباب أخرى كالهجرة وخلافه.ومن الأسباب الأخرى لاختلاف بلد الميلاد عن بلد الهوية الأصلية، محاولة الأهل اكتساب جنسية أخرى-غربية- من أجل محاولة ضمان مستقبل أفضل-من وجهة نظرهم-للمولود الجديد وللحصول على امتيازات ربما لا تكون متاحة فى البلد الأصلى،وهو الإجراء الذى فى الغالب يؤثر كثيرا فى تشكيل هويته خاصة إذا اقترن هذا التسجيل بالبقاء فى تلك الدولة الأجنبية. أما فى الأحوال العادية فإن جنسية المولود وبيئة وجوده تفرض عليه وعلى أبويه من قبله الالتزام بأنماط محددة فى السلوكيات والتصرفات والمعتقدات مرتبطة بالبيئة المحيطة من أهل وأصدقاء ونظام تعليمى واجتماعى وخلافه.

· هوية الدين: وما تحمله من قيم وتشريعات وأفكار وعقائد وتفصيلات خاصة بالعبادات وخلافه، وعلى الرغم من أن جميع الأديان تأتى من مشكاة واحدة وكلها تحض على فعل الخير وحسن المعاملة ومعرفة الله، فإن بعض الاختلافات العقائدية تؤثر أيضا فى تشكيل الهوية، كما تؤثر الاختلافات المذهبية بين أبناء الدين الواحد أيضا، هذا بالإضافة إلى بعض المعتقدات غير المرتبطة بالأديان فى بعض من مناطق العالم وصولا إلى الجماعات اللادينية.

· هوية اللغة: هذا القسم من الهوية يرتبط إلى حد كبير بالمعارف والأفكار والمعتقدات التى يتلقاها الفرد من خلال الأعمال المختلفة المكتوبة بلغته الأصلية ومن أناس ينتمون إليها فى الغالب، بالإضافة إلى ما تتم ترجمته إلى تلك اللغة من أعمال أخرى، وهو ما يخضع لاعتبارات كثيرة فى اختيار تلك الأعمال ربما يكون منها اعتبارات مرتبطة بالأقسام السابق الإشارة اليها من الهوية أيضا.

· هوية التاريخ: ويقصد بالتاريخ هنا الأحداث التاريخية التى مرت على البلد أو المنطقة التى يعيش فيها الإنسان، وتشمل الأحداث التاريخية المهمة والمصيرية التى تشكل جزءا كبيرا من الشعور بالعزة والفخر أو الانكسار والخزى،وتؤثر أيضا فى خلفية علاقته بالأفراد من جنسيات أخرى قد تكون تداخلت بلدانهم بصورة أو بأخرى فى بعض من تلك الأحداث التاريخية سواء بالسلب أم بالإيجاب.وهنا لا يمكن أيضاأن نغفل تأثير المكان وجغرافيته فى الأحداث التاريخية وفى تشكيل الهوية الإنسانيةأيضا، ومن الأمثلة الواضحة لذلك على دولة بحجم مصر ما جسَّده الدكتور ميلاد حنا فى كتابه الرائع "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" الذى يشير فيه إلى التأثيرات المكونة للشخصية ارتباطا بالأحداث التاريخية وتعاقب الأمم بداية من الحقبة الفرعونية، واليونانية، والرومانية، والعصر القبطى،والإسلامى العربى، بالإضافة إلى البعد المرتبط بالمكان المشاطئ للبحر الأبيض المتوسط أو البعد الإفريقى.

· الهوية الثقافية: وتشمل كل ما هو متعلق  بثقافة المنطقة أو البلد من إبداعات ثقافية متعددة، وتضم الآداب والفنون والموسيقى والعادات والتقاليد والتراث الشعبى أيضا، وهى التى يمكن عدَّها انعكاسا للعناصر السابقة بصورة أو بأخرى تأثرا بها وتأثيرا فى متلقيها، وهنا نجد أن المتلقى قد يكون منتميا إلى نفس الهوية أو مطلعا عليها فقط.

صراع الهوية بين الماضى والمستقبل:

فى الماضى وقبل ظهور شبكة الإنترنت ودخولنا فى عصر المعلومات، كان الحديث يدور بين الفينة والأخرى عن صراع الحضارات، أو صراع الثقافات، ولعل أشهرها تلك الصراعات بين الشرق والغرب، وهو صراع ثقافى صرف أو صراع دينى مغلف بغلاف ثقافى أو العكس. وعلى الرغم من كل هذا فإن تلك الصراعات كانت محدودة ربما لمحدودية وسائل الانتقال ووسائل الانتشار، وربما استمر ذلك من خلال البعثات أو الحملات العسكرية حتى نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر وما بعده.

أما التطور الكبير فى وسائل الانتقال فلم يحدث إلا خلال القرن العشرين من تطور وسائل الانتقال؛ السيارة والطائرة، أمر مشابه لذلك حدث فى وسائل انتقال المعلومات والأفكار بين أطراف الأرض التى تطورت تطورا كبيرا بداية من ظهور آلة الطباعة وما بعدها وصولا إلى القرن العشرين أيضا الذى انتقلت فيه المعلومات إلى أسلوب جديد يعتمد على وسائل الاتصال الحديثة من راديو وتلفزيون وهواتف وصولا إلى الأقمار الصناعية وكوابل الألياف الضوئية التى تدور حول القارات وتخترق اليابسة أيضا. وخلال التاريخ الممتد ظهر ما يعرف بظاهرة المستشرقين وهم مجموعة من العلماء والمفكرين الذين أتوا إلى منطقة الشرق سواء كان بمفردهم أومع جيوش الدول المحتلة، حيث درسوا خصائص الشرق ودونوها ونقلوها إلى الغرب كما كان لهم دور كبير أيضا فى نقل بعض من ثقافات الغرب إلى الشرق، هذا بالإضافة إلى البعثات العكسية - من الشرق إلى الغرب- التى كانت بغرض التعلم والتعرف على الثقافة الغربية من كثب.

أما بعد دخول عصر المعلومات وتحديدا بعد انتشار شبكة الإنترنت وتطبيقاتها المختلفة وصولا إلى خلق عالم افتراضى هائل يعيش فيه البشر مددا طويلة ربما تزيد على المدة التى يستغرقونها فى العالم الطبيعى، وصولا إلى أن أصبح عدد مستخدمى تلك الشبكة ما يقارب خمسة مليارات مستخدم من أصل ثمانية مليارات إنسان، فقد انتقلت إلى العالم الافتراضى الجديد جميع الأعمال التقليدية لتتم بصورة افتراضية رقمية سواء بصورة كلية ـ وجزئية، ما أثر كثيرا فى قضايا، مثل صراع الحضارات والثقافات وتقاربها أو تنافرها أو طغيان إحداها على الأخرى سواء بصورة مباشرة وسريعة أو بصورة غير مباشرة وعلى مدى زمنى طويل.

هذا الانكشاف أو الوضوح فى عرض تلك الثقافات المختلفة يصطدم بقدرة كل ثقافة على عرض مكوناتها ومفرداتها بصورة جذابة وملحة داخل هذه العوالم الافتراضية وهو ما انتبه إليه بعض من المهتمين بعلوم السياسة والاقتصاد والاجتماع، ورأوا كيف أثر ذلك الانكشاف ويؤثر فى الهوية العربية، وكيف سيترك أثرا بالغ الخطورة فى المستقبل القريب ما لم ننتبه إلى ضرورة التحرك لحماية الهوية والثقافة العربية أمام تلك الموجات الجديدة وخاصة بعد أن انتقلت إلى مستوى آخر من الإبهار والتأثير من خلال استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى فى تعزيز ثقافة على حساب الأخرى.

وهنا نأتى إلى السؤال الأخطر والخاص بتحديد المسئولية، مسئولية الحفاظ على الهوية والتراث والثقافة العربية: هل هى مسئولية الحكومات ومؤسساتها فقط أم هى مسئولية تشاركية يسهم فيها القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدنى بل الأسرة، وصولا إلى كل فرد فى المجتمع العربي؟ والسؤال الآخر: هل يكفى أن ندق نواقيس الخطر أم يجب أن ننتقل إلى مرحلة الفعل المنظم من خلال استراتيجيات متكاملة وواقعية تقوم على حماية ونشر الهوية العربية وإلى القدرة على الاستفادة من الثقافات الغربية أيضا فى تناغم مقصود منه الفائدة دون إفراط أو تفريط، وذلك للحفاظ على مقومات الهوية العربية المتميزة من خلال تقديمها بصورة جذابة للأجيال الجديدة ولحمايتها من التأثر أو التراجع خاصة فى ظل ضعف المحتوى العربى المتاح حاليا على شبكة الإنترنت مقارنة بالمحتوى الموجود باللغات الأخرى الذى يعنى بالأساس بتقوية ونشر تلك الهويات على نطاق واسع.

 


رابط دائم: