"مصر الإفريقية" التى لا نعرفها
12-2-2023

وليد عتلم
* باحث دكتوراه ـــ كلية الدراسات الأفريقية العليا

على هامش أحد البرامج للتعليق على زيارة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي للهند، تلقيت سؤالا مفاده: هل يمكن أن تكون الهند هى البوابة لعبور مصر إلى إفريقيا؟!

فاجأنى السؤال بل يمكن القول إنه أَفْزَعَنى، لسنا فى حاجة لأحد ليكون مدخلا لنا فى إفريقيا، نحن أولى بإفريقيا وإفريقيا أولى بنا. والسؤال عبَّر عن عدم إدراك كبير بالهوية الإفريقية لمصر.

على المستوى الرسمى؛ عادت مصر إفريقيا وبقوة، وكانت آلية الزيارات والاجتماعات المشتركة من أهم أدوات التفاعل بين الجانبين، خاصة على المستوى الرئاسى؛ عادت مصر لعضوية الاتحاد الإفريقى، ثم ترأست المنظمة القارية عام 2019. وكان الحضور المصرى فاعلا فى جميع الفعاليات الإقليمية والدولية الرسمية التى كانت القارة طرفا فيها، التى منها: القمة العربية الإفريقية التى عقدت فى الكويت يومى 19 و20 من نوفمبر عام 2013، بالإضافة إلى المشاركة فى قمة الكوميسا المنعقدة بكينشاسا فى فبراير 2014، كذلك المشاركة فى اجتماعات على المستوى الوزارى لتجمع الساحل والصحراء المنعقدة فى مارس 2014 بالخرطوم، ومشاركة مصر بفاعلية فى العديد من الاجتماعات اللاحقة كقمة إفريقيا الاتحاد الأوروبى ببروكسل فى إبريل 2014، وقمة إفريقيا الولايات المتحدة بواشنطن فى أغسطس 2014، القمة الهندية-الإفريقية التى نظمت عام 2015 وشهدت مشاركة 50 دولة إفريقية.قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني- الإفريقى عام 2018، قمة الصين-إفريقيا الاستثنائية بشأن التضامن فى مواجهة فيروس كورونا فى عام 2020، التى عقدت عبر رابط فيديو.وأخيرا، القمة الأمريكية الإفريقية الثانية فى ديسمبر 2022، كما سعت مصر إلى تطوير بنية السلم والأمن الإفريقيين ودعمت مبادرة "إسكات البنادق" التى تعد جزءا مهما من أجندة 2063 لتطوير القارة، وذلك فى إطار رئاسة مصر مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقى فى أكتوبر 2020، وغيرها من القمم والفعاليات العديدة كانت مصر حاضرة وعلى المستوى الرئاسى، كما كانت مصر صوت إفريقيا ودول الجنوب الحر فى مؤتمر cop27فى شرم الشيخ، وتبنت رؤية إفريقية موحدة لمواجهة تداعيات التغير المناخى.

لكن؛ لم تكن دائما أزمة العلاقات المصرية – الإفريقية فى الأطر الرسمية، فالأزمة إذا تتعلق بمواريث تاريخية ومدركات سلبية بين أطرافها، ولابد من الإقرار بوجود مدركات سلبية متبادلة من الطرفين، فهناك نظرة استعلائية من الشمال الإفريقى تجاه الجنوب، ولا يمكن إنكار أن صورة الإفريقى لدى العربى هى صورة سلبية تنطوى على نظرة استعلائية، فى المقابل أيضا صورة العربى لدى الإفريقى صورة سلبية. فالعربى هو تاجر الرقيق الجشع، الذى لديه نزعات توسعية فى إفريقيا، ما نتج عنه وجود رغبة إفريقية "استبعادية"، تهدف إلى استبعاد العرب من إفريقيا، أو عدم الاعتراف بهويتهم العربية الإسلامية، أو التجاهل الكلى لوجودهم فى إفريقيا. فى المقابل؛ الصورة الذهنية العربية عن الإفريقى مقترنة بالأساس بهوية عنصرية لونية؛ حيث الإفريقى هو ذلك الانسان الأسود، وهى أيضا تنطوى على رغبة استبعادية، تستبعد العرب فى الشمال الإفريقى من كونهم أفارقة. والمدرك العربى أيضا مقترن بهوية جغرافية؛ حيث إفريقيا هى إفريقيا جنوب الصحراء غير العربية.

المدرك السلبى الراسخ لدى بعض الإفريقيين عن العربي، أنه ذلك الشخص لابس العقال، الذى مارس تجارة الرقيق فى إفريقيا، وهو أيضا العربى العنصرى المستعمر، وكذلك هو ذلك العربى الانتهازى التوسعى، وأخيرا كإرهابى يسعى لنشر الثقافة الإسلامية العربية فى إفريقيا قسرا.

فى المقابل نجد احتراما واعترافا، بل نجد إدراكا إيجابيا من جانب كلا الطرفين لصورة الأوروبى؛ حيث اعترف الإفريقى بالوجود الأوروبى الاستيطانى فى إفريقيا، وتم التسليم باللغات الأوروبية كلغات رسمية للدول الإفريقية. على الجانب الآخر؛ صورة الأوروبى لدى العربى هى الأخرى صورة إيجابية تنطوى على إحساس بالرضوخ والتفوق لكل ما هو أوروبى والسعى الحثيث للتعلق بالهوية والعادات والتقاليد والثقافات الأوروبية. ذلك رغم طبيعة الدور التاريخى للاستعمار الأوروبى، واستمرار ممارساته لنهب ثروات دول الطرفين، ودوره فى إشعال الحروب الأهلية، ومن التناقضات استمرار رسوخ تلك المدركات التاريخية السلبية لدى كل طرف من الأطراف، وذلك على الرغم من السمات المشتركة الجامعة لكلا الطرفين.

التداعيات الأكبر لأزمة المدركات المتبادلة اتصلت على نحو مباشر، وتجسدت فى أزمة المكون الإفريقى فى الهوية المصرية، لكن رغم ذلك قدم عديد من المفكرين الأفارقة "الفرعونية" كتعبير عن الهوية الإفريقية، فى محاولة للربط بين الحضارة المصرية القديمة وإفريقيا، وللتدليل على أن المصرية القديمة هى المرجعية الحضارية لإفريقيا باعتبارها حضارة زنجية سابقة للحضارات البيضاء؛ اليونانية والرومانية وغيرهما، ولتأكيد الجذور الإفريقية للهوية المصرية.

فى هذا السياق؛ يعد المفكر السنغالى الشيخ أنت چوبCheikh Anta Diopأبرزالمفكرين الأفارقة الذين أسهموا فى تأكيد الهوية الإفريقية لمصر من خلال حديثه عن أصل المصريين القدماء؛ حيث قدم فى كتابه "الأمم الزنجية والثقافة" أدلة على أن سكان مصر الفرعونية كانوا من السود؛ إذ أكد الشيخ أنت چوب عديد التشابهات الثقافية الاجتماعية واللغوية بين مصر القديمة وإفريقيا المعاصرة، من أبرز تلك الأدلة على المستوى اللغوى والثقافى، التشابه الكبير والتأثير المتصل للغة المصرية القديمة على العامية المصرية المنتشرة الآن.

وعلى مستوى الأدلة الأنثروبولوجية؛ فالثابت أن المصريين من "الحاميين" ـ نسبة إلى "حام بن نوح" أصل السود فى العالم ــ وأن المصريين القدماء أطلقوا على بلادهم لفظ "كيميت" التى تعنى "الأسود" أو "الطينى".

وأكد الشيخ أنت چوب أن وجهة النظر المؤكدة للأصل الزنجى للمصريين القدماء تغيرت منذ حملة نابليون على مصر واكتشاف شامبليون لحجر رشيد، ومن وقتها تبنى علم الآثار المصرية الحديث فكرة أن المصريين كانوا من البيض. وتساءل أنت چوب عن سبب التحول، وأرجعه إلى أن سبب التحول كان بمعاونة الإمبريالية، وعليه أصبح من غير المعقول الاستمرار فى الاعتقاد والتسليم بالنظرية القديمة التى تبنت فكرة إفريقية مصر.

فى السياق ذاته؛ يذهبعالم الآثار المصرية جاستون ماسبيروGaston Masperoالذى عين مدير المصلحة الانتيكخانة المصرية عام 1881 إلى أن هناك نوعا من التوافق بين المؤرخين القدماء على أن الجنس المصرى ينتمى إلى جنس إفريقى، بمعنى أنهم زنوج استقروا أولا فى إثيوبيا على شواطئ النيل الأوسط فى أعقاب مجرى نهر النيل، ثم نزحوا تدريجيا نحو البحر بمتابعة مجرى النهر. وهو دليل آخر على الجذور الإفريقية للهوية المصرية. وغيرها العديد من الروابط؛ الأدلة والأواصر الحضارية، الإثنية، والجغرافية، والثقافية، والدينية، واللغوية، التى تدل بجلاء تام على تغلغل الجذور الإفريقية فى الهوية المصرية.

لكن كما هو واضح من السؤال الأول أعلاه لا يزال المكون الإفريقى للهوية المصرية متراجعا لصالح مكونات وهويات أخرى، على النحو الذى انعكس بالسلب على العلاقات المصرية الإفريقية خاصة على مستوى الروابط غير الرسمية؛ الثقافية والاجتماعية. وهو ما أفسح المجال لقوى أخرى أصبح لها نفوذ وتغلغل فى العمق الإفريقى على النحو الذى أصبح يمثل تهديدا للأمن القومى المصرى والعربى.

الآن حان وقت القوة الناعمة وأدواتها لمواجهة هذا الميراث السلبى من المدركات المشوهة تجاه إفريقيا، ومحاصرة مساحات الشك المتبادل تجاه بعض جوانب السلوك السياسى، بما يعنى ضرورة الاهتمام بمضمون الرسالة الإعلامية والثقافية المقدمة، والعمل على تغيير صورة الإفريقى النمطية فى الإعلام والأعمال الفنية، مع مراعاة التنوع الثقافى واللغوى والدينى للقارة، والعمل على تعزيز قيم الوحدة والتعاون الإفريقى مع تأكيد الهوية الإفريقية لمصر، على النحو الذى يدعم المساعى والجهود المصرية الرسمية.  تلك الهوية القائمة على أربع ركائز رئيسية: الجنس الأسود، إثنية إفريقية،والدين التوحيد، والثقافة المصرية الإفريقية.خاصة إذا ما اقترن ترسيخ تلك الهوية الإفريقية لمصر بمسار ومصفوفة المصالح المصرية فى إفريقيا، وهو ما لا يتعارض مع البعد العربى والهوية العربية لمصر.

وليس أدل على ذلك مما ذهب إليه الدكتور جمال حمدان، الذى كتب "تداخل البعد الإفريقى والعربى فى مصر، وهذا يؤكد قوة العلاقة بينهما، ولقد لعبت مصر المعاصرة دورا قياديا فى تحرير بلاد العرب وإفريقيا، وهذا يؤكد تكاملهما وليس تعارضهما، فالوحدة الإفريقية وحدة عمل ومصالح وتضامن فى المجال الدولى سياسيا واقتصاديا وحضريا ضد ضغوط الاستعمار،  والوحدة العربية، وحدة كيان ومصير واندماج وكلاهما يخدم الآخر، كما أن البعد النيلى يتداخل بالطبع مع الإفريقى ويكمله ويدعم كل منهما الآخر".

 


رابط دائم: