النكتة "الإشاعة" ومواسم بيع الوهم
12-2-2023

مدحت بشاي
* كاتب صحفى

كل شىء فى وقته وأوانه، وفنون السخرية تزدهر فى مواسم بيع الوهم وحدوث الأزمات، لذلك فإن السخرية من هذا الجانب تعد وسيلة دفاعية يستخدمها مبدعها لتعرية بعض الظواهر الموجودة فى المجتمع، أو بعض السياسات التى تتبعها الحكومات، لتقترب السخرية من الرمزية، خصوصا فى اختيارها لبعض الشخصيات سواء الإنسانية أو الحيوانية.

لا ريب فى أن أحد أسباب بقاء حضارتنا العظيمة ووجودنا المصرى ذاته يعود إلى تراثنا الإبداعى العبقرى المرسل لكل الدنيا عبر كل العصور الماضية، وعلى الرغم مما يقال من أن حضارتنا القديمة حضارة نكد وموت وبناء أهرامات للاحتفاء بموتى والحديث الدائم عن حياة الخلود بعد الموت، ولكن الأمر فى الواقع مختلف عما يشاع، لقد كان للمصرى حكمة يرفعها "لا تضيع صدر النهار، ولا تُفسد ساعة المتعة" كفلسفة وتوجه عام لبشر تلك العصور العظيمة.

لقد استخدم المصرى القديم الحيوانات والرسوم البسيطة للتعبير عن رأيه الحقيقى فى أصحاب السلطان، على إحدى "الشقفات" القديمة نرى تصويرا كاريكاتوريا لصراع بين القطط والفئران، ويدور ملك الفئران على عجلة حربية، تقودها كلبتان، ويهجم على حصن، تحرسه القطط، هكذا عبر الفنان برؤيته، عندما يتجرأ صغار الشأن ويفكرون فى حرب من هم أقوى، ومن هم أكثر منهم نفوذا وقوة. كان الرسام المصرى القديم يظهر عيوب مجتمعه أملا فى إصلاحها، فعلى إحدى "الشقفات" القديمة نرى رسما لفرس النهر وقد جلس فوق شجرة عالية، بينما يحاول النسر الصعود إليها بسلم.

ولأننا أحفاد مبدعى تلك الحضارة المبدعة لفنون السخرية، فالنكتة والدراما الكوميدية تعد أحد مصادر ووسائل صناعة البهجة، وهى تثير الكثير من التفاعل الإيجابى من جانب المتلقى ككل أنواع الدراما بأشكالها المختلفة، إنما ما يميزها لا يتوقف على إثارة الانفعالات والعواطف كما يحدث لمتلقى التراجيديات، وإنما يعتمد على العقل الذى يظهر فى سرعة البداهة أو قوة الحدس، ولابد للضحك من أن يتجرد من إثارة الانفعالات والعواطف كالرحمة، والشفقة، والخوف، والدهشة، والإعجاب؛ لأن الكلمة المضحكة أو المنظر المضحك لا يضحكنا إلا إذا كانت نفوسنا خالية هادئة غير مبالية وإذا نظرنا إليه بعين العقل لا بعين العاطفة.

ولأن الإشاعة قد تنطلق على شكل نكتة أو طرفة مرسومة أو مسموعة أو من خلال "بوستات" مواقع التواصل الاجتماعى، فقد باتت لدينا جماعات أراهم ــ فى أحيان كثيرة ــ قد تم توظيفهم لترويج أشكال نقدية تتسلل بنعومة وطرافة، وليس مهمًّا أن تكون الإشاعة مرتبة ومحكمة، ولكنها فى بعض الأحيان قد تنطلق على هيئة نكات أو قفشات لصناعة وصياغة مواقف فى غير صالح التوجه العام. والفكاهة والنكتة تؤديان الغرض الذي يريده أهل الشر المتآمر، بطريقة لطيفة متضمنة طابع التشويق والإثارة، ويرتاح لها السامع والمتحدث ولا يعترض عليها المتلقى فى كل أحواله لترسخ فى الذهنية العامة ما من شأنه تحقيق أهداف معادية للصالح العام، ولا ينساها متلقيها بسهولة، وبهذا تكون آثارها قوية ومستمرة وتكون أيضا مصدرا لنكات أخرى، فالنكتة السياسية إذن كما أشار (هانس يوخيم كام) تمثل مقاومة بكل معانيها؛ فهى أى النكات كأسلوب لنقل التقولات والإشاعة تبتغى التنديد بالمستهدف بالنكتة وجعله أضحوكة، وبواسطتها تتم تعرية جزئية لقوة الشخص الهدف، فتعرِّيه وتُنقص من هيبته، والاتحاد بين التقولات والنكتة يحتاج فقط إلى تحديد، ثم تجرى التقولات والنكات التى توفر بدورها إدراكَ ما كان مستورا من قبل مثلما تساعد على إزالة الخوف، مثل الخوف من أجهزة السلطة (الدولة ومؤسساتها ومختلف أنواع السلطة والنفوذ) وتعمل على الإقلال من احترام غير المرغوب أمام الشخصيات المزعومة، وهدف الضحك الذى تثيره النكتة هو خلع ستار الجدية التى تحيط به السلطة نفسها ويؤدى بها إلى أن تكون موضع الاستهزاء والسخرية.

ومن أقدم الشواهد وأكثرها سطوعا على استخدام سلاح النكتة بوصفها أسلوبا من أساليب الإشاعات، سيل النكات التى أطلقها المصريون لإظهار المعارضة للحاكم (بأمر الله الفاطمى) الذى كان شديد المحافظة إلى حد أن هذه النزعة طغت على الحريات الشخصية، فمنع النساء من التجول فى الأسواق، وحرَّم أكل الملوخية على سبيل المثال. وكذلك ما أشيع حول شخصية الوزير (بهاء الدين قراقوش) وهو من الشخصيات التاريخية الفذة التى طغت عليها صورة ساخرة افتعلتها يد أديب من الأدباء المعارضين له وهو (ابن مماتى) الذى ألف له كتابا سماه (الفاشوش فى أحكام قراقوش) استطاع بواسطته مسخ شخصية الوزير قراقوش بالشكل الساخر الذى نعرفه عنه الآن.

وقد شهدت التجارب المعاصرة وبالذات أحداث العدوان الثلاثى عام 1956، صورا متعددة للمحاولات الاستعمارية لمسخ الصورة القومية لقيادة ناصر سواء بابتكار نكات جديدة أو باستعمال نكات عرفتها الحروب العالمية السابقة مع بعض التحوير فيها.

وقد سخر المصريون من جبن عساكر الحلفاء أمام الجيوش الألمانية، فيقول أحدهم للآخر:

ـ هم ليه الألمان مشغولين بتنظيف دباباتهم؟

ـ أصل الإنجليز ما يحبوش القذارة!

وسخر المصريون من التناحر بين الزعماء السياسيين قبل الثورة الذى أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، وجاء ذلك فى نكتة تقول إن أحدهم كان يجلس على المقهى عندما سأله صاحبه:

ـ أنت عدلست (تبع عدلى) ولا وفدست (تبع سعد)؟!

ـ لاه أنا فلست!

أخيرا، يمتلكني أمل فى أن تهتم الدولة والمؤسسات الإعلامية ومؤسسات المجتمع المدنى بإنشاء مراكز بحثية للتعامل مع ظاهرة تزايد إنتاج الشائعات المضللة والمفسدة لكل جهود التنمية لدراسة تلك الحالة من الجوانب النفسية والاجتماعية والسياسية عبر وسائط "التباعد"، أقصد التواصل الاجتماعى، ولدعم الجهود لتنمية الوعى لدى الجماهير لامتلاك ناصية القدرة على الفرز بين المضلل والصادق من الأخبار أو النكات.. وحفظ الله مصر.


رابط دائم: