الجانب المادى للعقيدة السياسية
7-2-2023

د.وليد عبد الرحيم جاب الله
* خبير الاقتصاد والمالية العامة، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع

تحتاج جميع التنظيمات السياسية إلى عقيدة تكون بمنزلة المرجعية والأساس والهدف الأول الذى من خلاله تستطيع الترويج لتوجهاتها، واكتساب أكبر عدد من المؤمنين بمشروعها بصورة تدفعهم للقناعة بالنظام السياسى، والقبول بسياساته، كما أن تلك العقيدة تدفع جانبا من المواطنين لممارسة دور أكبر فى الترويج السياسى لكيان التنظيم، وتسعى السلطات السياسية فى جميع الدول إلى صناعة أذرع تكون أداة لبسط نفوذها وإحكام تنظيم قيادتها للأفراد، وغالبا ما يكون ذلك من خلال الترويج لعقيدة معينة تؤسس لمشروعية السلطة وما تمارسه من إجراءات؛ حيث يكون دور تلك العقيدة توحيد المفاهيم، وضبط التحركات، وتهيئة بيئة مناسبة لاستقرار الحكم، والتركيز على توجيه الطاقات نحو العمل والإنتاج فى إطار أخلاقى متزن يبتعد بالمجهود عن مناحى السفسطة والتشكك، وتشرذم الأفكار، وانقسام الرؤى والتوجهات. ومع حتمية وجود مرجعية عقائدية للدول نجد أن للعقيدة جانبا ماديا يدعم نشأتها ويساند انتشارها، ويرسخ استمرارها.

وقد تعددت العقائد السياسية فى مصر عبر التاريخ، وتجددت من عصر لآخر، وسوف نتناول فكرة العقيدة السياسية بعنصريها المعنوى والمادى، مع التطبيق على مصر، وصولا إلى تحديد الدور المادى اللازم لبناء وتثبيت عقيدة الجمهورية المصرية الجديدة التى تدخلها مصر مع مطلع العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، وذلك خلال محورين، نتناول فى المحور الأول مفهوم العقيدة السياسية وتطورها فى مصر، وفى المحور الثانى نتناول محددات عقيدة الجمهورية المصرية الجديدة.

المحور الأول: مفهوم العقيدة السياسية وتطورها فى مصر

 مفهوم العقيدة السياسية:

اختلف الشراح حول تحديد مفهوم العقيدة، ويمكن تعريفها بأنها تلك الأمور الراسخة فى القلب ولها أسس ثابتة غير قابلة للتبديل، أو الجدال أو الانتقاد[1] والعقيدة تمنح صاحبها الشعور بالثقة وعزة النفس، والشجاعة والإيثار، والتضحية، واليقين، وذلك ما خلق الحاجة لأن يستند تنظيم الدول إلى عقيدة تكون بمنزلة مرجعية للنظام السياسى تؤسس لنشأته، وتدعم وجوده، وترسخ لمستقبله. وتتنوع العقائد التى تستند إليها تنظيمات الدول السياسية التى منها العقائد العرقية كالنازية والبلشفية، والعقائد القومية كالعروبة، والإيرانوية، والعقائد الطبقية كالشيوعية، والماركسية، والعقائد الدينية كالإسلامية والمسيحية، وغيرها من العقائد التى ربما تتداخل فيما بينها وتختلط مكوناتها ليتشكل بمرور الزمن هوية خاصة لكل مجتمع تمثل رباطا بين أفراده، ودستورا لأفكارهم وقناعاتهم، وتفاعلاتهم مع نظام دولتهم الداخلى، وعلاقاتهم الخارجية. ومع تأكيد أن بناء العقائد يحتاج إلى تواتر زمنى طويل، إلا أنه دائما ما ترتبط مرحلة تكوين العقيدة بجانب مادى يدعم انتشارها ويثبت القناعة بمضمونها المعنوى. وقد اهتمت العقيدة الإسلامية بالجانب المادى للعقيدة، وجعل القرآن الكريم نصيبا من جملة مصارف الصدقات للمؤلفة قلوبهم وهم "حديثو العهد بالإسلام" على نحو ما تفعله الدول حديثا بتخصيص جانب من ميزانيتها للدعاية السياسية[2]، وذلك فى قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم)[3]

وعلى الرغم من الاختلاف حول وجود ومضمون الجانب المادى للعقيدة، فإنه لا توجد دولة بدون عقيدة يستند إليها نظامها السياسى. ولقد مرت مصر عبر تاريخها بالعديد من العقائد التى استندت إليها السلطة السياسية بها، ودائما ما يمكننا رصد الجانب المادى الذى يعد أحد أهم عناصر دعم وانتشار العقيدة السياسية.

أولا - العقيدة الدينية فى مصر الفرعونية:

ارتبطت الدولة المصرية منذ القدم بفكرة العقيدة الدينية حيث كان الفرعون هو الإله، أو ابنا للإله وقد ترأس الفرعون الكهنة[4]، وترسيخ العقيدة الدينية من خلال المعابد، وتمكين رجال الدين الذين تولوا توحيد عقيدة الشعب وتهيئتها لقبول كل ما يصدر عن الفرعون الذى كان يرأس الاحتفالات الدينية، ويجزل العطاء لرجال الدين الذين يتولوا مهام تقديسه، وكانت المكانة الاجتماعية والسياسية، والعطاءات المادية بمنزلة حافز كبير يدعم النشاط فى مجال نشر وترسيخ العقيدة.

وقد استمر تأثير العقيدة الدينية فى مصر بصورة دفعت الإسكندر الأكبر إلى عدم محاربتها، بل اتخاذها مرجعية سياسية لحكمه فقام بزيارة لواحة سيوة وتقرب إلى الكهنة حتى تم الإعلان بأنه ابن لآمون، ومن ثم اكتسب المشروعية لتوليه الحكم[5].

ومع دخول المسلمين مصر تم احترام عقيدة المصريين، ولم يتم إجبار أحد على دخول الإسلام، ولكن كان الإعفاء من دفع الجزية بمنزلة حافز مالى لدخول عقيدة الإسلام التى انتشرت فى مصر ببطء ارتبط بالكثير من الممارسات التى تحفز دخول الإسلام وتثبيته فى النفوس[6].

وفى عصر لاحق قام الفاطميون بالعديد من الإجراءات لنشر المذهب الشيعى لضمان عقيدة فاطمية ترسخ من شرعية ومرجعية حكمهم، فتمت إقامة الجامع الأزهر ليكون منارة للعقيدة الفاطمية، وقد تمت إقامة المناسبات والاحتفالات التى تقدم صورة مبهجة لمذهبهم، كما تم منح العديد من الحوافز الدنيوية لمن ينضم للمذهب الشيعى، لاسيما وقد تم قصر تولى المناصب المهمة على منتسبى المذهب الشيعى فقط.

ثانيا- صناعة النخبة والعائلات فى دولة محمد على[7]:

تولى محمد على حكم مصر بناء على طلب وترشيح من كبار مشايخ الأزهر الشريف الذين هم بمنزلة حراس العقيدة الإسلامية التى كانت المرجعية السياسية فى ذلك الوقت بعد أن وعدهم بأن يشاورهم فى الأمر، ولكن ذلك الوعد قيد من حركته فى اتخاذ قرارات الحكم وسط ظروف اقتصادية صعبة، وخشية من عودة المماليك، ورغبة فى إحكام سيطرته على أركان الحكم بدأ فى التخلص من المماليك، ثم نحى رجال الأزهر بصورة تدريجية، واتجه إلى صناعة عقيدة طبقية ترتكز على نخبة جديدة بدأها من التعليم باختيار شرائح من الصبية وفرزهم وتعليمهم بما يناسب مهاراتهم، وإرسال المتميزين منهم للتعلم بأوروبا، وهم من تولوا الأمور بعد ذلك وأجزل لهم العطاء الذى استمر فى عهد خلفائه بصورة أكسبتهم العلم والمال والسلطة، الأمر الذى مكنهم من أن يكونوا وذريتهم من بعدهم أعمدة للحكم تنتشر فى كل بقاع الإقليم وتشابك عائلاتهم بأربطة النسب والمصالح، كما أنهم تولوا مهام تثبيت قبول الناس للهرم الطبقى بأبعاده السياسية والاجتماعية. وهكذا تشكلت عائلات الإقطاع المصرى وترسخ نفوذها فى التأثير والحشد السياسى بمرور الزمن، وعلى الرغم من تقليص ثورة يوليو 1952 لثرواتهم فإنهم ظلوا يمتلكون من الثقل الاجتماعى ما يؤهلهم من صناعة التأثير السياسى لعقود من الزمن، وصاروا من أعمدة الحزب الوطنى الديموقراطى منذ إنشائه، وأدوات انتشاره وسيطرته النيابية، وقد حصلت تلك العائلات ومن يدورون فى فلكهم على الكثير المزايا المادية والاجتماعية التى عززت من قدراتهم بما مكنهم من التواصل والتأثير فى جميع الفعاليات السياسية. هذا وقد حققت تلك النخب والعائلات والقبائل نجاحا كبيرا فى ضمان الحفاظ على مقدرات الدولة واستقرار الحكم فى كل المحاور الجغرافية والقطاعية للدولة حتى نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادى والعشرين، ولكن كان من سلبيات ذلك أن تلك العائلات بمرور الزمن قد انغلقت على نفسها دون تجديد أو السماح بدخول آخرين. ومع توالى الأجيال تم الدفع بمن لا يصلح من أبنائها إلى العمل العام لمجرد انتمائه العائلى، فضعفت العديد من أذرع الدولة رغم ما تتمتع به من دعم عائلى أو قبلى.

على الجانب الآخر لم يكن لدى تنظيم الإخوان عند بدايته ما يجذب الناس إليه من مال أو سلطة أو غير ذلك، كما أنهم لم يقدموا عقيدة جديدة فى بلد الأزهر الشريف مالك ناصية العلوم الشرعية. فلجأ الإخوان لفكرة الكشافة لتكون آلية انتشارهم؛ حيث تبنت الجماعة منهجا للانتشار مستوحى من آليات حركة الكشافة العالمية، التى كانت قد دخلت مصر عام 1914 والتى تعتمد فى نشاطها على بناء تنظيمى عنقودى متسلسل، حيث سجل التنظيم أول فرقة للكشافة الإخوانية عام 1941، ثم توسعوا فى نشاطهم الكشفى، من خلال تكوين عدد من المجموعات التى يقوم أعضاؤها بضم آخرين موزعين جغرافيا، على قاعدة تكوين مجموعات تتكون من خمسة أفراد يتولى كل منهم تكوين مجموعة من خمسة آخرين، ليستمر هذا التسلسل إلى ما لا نهاية، لينتهى الأمر إلى تقسيم الجمهورية إلى قيادة، ومكتب إدارى بكل محافظة التى تقسم جغرافيا إلى مناطق، وبكل منطقة عدد من الشعب، وتتكون الشعبة من عدد من الأسر، مع إضافة بعض الأقسام النوعية.

وكان الترويج يتم فى البداية باستهداف تنظيم الرحلات والمعسكرات الرياضية التى يتم من خلالها بث الأفكار فى إطار رياضى تربوى ثقافى اجتماعى سياسى ينتهى بتكوين شخصية ذات عقيدة تامة وراسخة بالانتماء لفكر التنظيم. وبمجرد الاشتراك يكون العضو ملتزما بدفع اشتراك شهرى كنسبة من دخله بين 3% و7%، مع إعفاء شرائح المؤيدين، والطلاب، وغير القادرين مع استفادتهم بمزايا الاشتراك، وقد تشكلت أذرع استثمارية لأموال التنظيم، نجحت فى تحقيق أرباح كبيرة من خلال تدبير التمويل لمشروعات رواد الأعمال من أعضائها، وتقديم المساندة والدعم لغير القادرين منهم.

لتكون بداية الانتماء للجماعة من خلال استقطاب المستفيدين مما تقدمه من فعاليات رياضية واجتماعية وثقافية تبث من خلالها أفكارها وعقيدتها، التى تتعزز بما تقدمه من مزايا مادية مثل تقديم التمويل للمشروعات، وخلق فرص العمل، وضمان المتعاملين مع تلك المشروعات بدفع أعضائها للشراء من المشروعات التى تمولها بصورة مستترة، وهكذا تم الانتشار فى المجتمع من خلال أعضاء لديهم الدافع من العقيدة والمصلحة.

ولكن هذا الانتشار كانت ضوابط نجاحه هى ذاتها أسباب فشله، حيث لم يتقبل الهيكل التنظيمى للجماعة الآخرين بالمجتمع، وتم اعتبار كل مواطن خارج السلاسل العنقودية للتنظيم غريبا عن مشروعه الذى أصابه مرض التصعيد غير المستحق لقياداتها التى فشلت فى كل تجارب التفاعل مع كل من هم خارج الهيكل التنظيمى الجامد حتى لو كانون مرحبين بتوجه الإسلام السياسى، فانعزلت الجماعة عن العباءة الوطنية، وتعاملت بانتهازية مع المواطنين الذين كشفوا توجهاتها المستبدة، ورفضوا أفكارهم العنصرية الساذجة.

ثالثا - منظمة الشباب الاشتراكى[8] وتنظيم الطليعة العربية[9] كآليات لبناء العقيدة السياسية:

لم يكن للضباط الأحرار ثمة رغبة فى تغيير الهيكل الاقتصادى المصرى ارتباطا بثورة 1952، وكان كل هدفهم تعزيز نطاق العدالة الاجتماعية لتقويم آليات الحرية الاقتصادية، ولكن مع عزوف رجال الأعمال عن التفاعل مع ما قدمته لهم حكومات الثورة من حوافز، ومع استقرار الحالة الثورية فى مصر بعد انتصارها فى حرب السويس 1956، لم يكن أمام الدولة سوى التصدى بنفسها لعملية التنمية من خلال التحول الاشتراكى الذى كان يحتاج إلى ظهير سياسى يدعمه، فتم تأسيس الاتحاد الاشتراكى عام 1957، وفى سبيل نشر عقيدة الفكر الاشتراكى بين المواطنين والترويج لحتمية الحل الاشتراكى تم تأسيس "منظمة الشباب الاشتراكي" التى قامت على تسلسل هرمى يتبع مباشرة أمين الاتحاد الاشتراكى، كما تم تأسيس تنظيم "الطليعة العربية" الذى كان بمنزلة بوتقة لأصحاب الرؤى الاشتراكية المتفاوتة ليقوم بقيادة الجماهير والتعبير عن إرادتها، والرقابة على الأداء العام، وهو التنظيم الذى نجح فى ضم عناصر متميزة صار لها باع كبير فى العمل العام وتم تمكينها من مفاصل الدولة.

وقد نجح بالفعل هيكل المد الاشتراكى فى صناعة جيل جديد من القيادات خلال حقبتى الستينيات والسبعينيات استمر بعضهم فى القيادة حتى بعد التحول عن النموذج الاشتراكى وتأثر بهم تلاميذهم، ومن مظاهر النجاح أن انضم لعضوية الاتحاد الاشتراكى نحو 6 ملايين عضو فى ظل عدد سكان نحو 26 مليون نسمة، وهو معدل نجاح كبير اعتمد على عنصرى العقيدة الاشتراكية والمزايا المرتبطة بها فى ظل ظرف تاريخى داعم لذلك بعناصر:

1-ملاءمة عقيدة الفكر الاشتراكى لتلك المرحلة لاسيما مع انتشارها وسيادتها عالميا فى ذلك الوقت، وهى العقيدة التى تم نشرها عن طريق التكوين الفكرى، والتفاعل الجماهيرى، وتحفيز روح المبادرة من خلال كيانات متخصصة وأجهزة دولة تدعم ذلك.

2- تقديم مزايا وحوافز لمن ينضم للركب الاشتراكى، مثل اشتراط عضوية الاتحاد الاشتراكى لمن يرغب فى الترشح لعضوية مجلس الأمة، أو النقابات المهنية، أو العمد والمشايخ، أو عضوية الجمعيات الأهلية، أو الترشح للوظائف القيادية.

ولكن بمرور السنوات تسلل الانتهازيون والمتسلقون لهذا التنظيم وأصبحوا عبئا على الدولة إلى أن تمت إعادة تنظيم السلطة فى مايو 1971، واستمر العديد من قادة هذا التنظيم يديرون عملية التحول للاقتصاد الحر منذ منتصف السبعينيات رغم كونها تتعارض مع عقيدتهم الاشتراكية ما أضر بسلامة إجراءات التحول الاقتصادى، وأبطأ من مسارها، وشوَّه هياكلها.

المحور الثانى: محددات عقيدة الجمهورية المصرية الجديدة

استقرت سلطة الحكم فى مصر لسنوات طويلة مستندة إلى عقيدة سياسية مدعومة بتقسيم أدوار، تركز بالأساس على منتسبى العائلات، والنخبة، والتكنوقراط، وبقايا من أعضاء التنظيم الطليعى، ولكن هذا النموذج تقادم وتجاوزته الأحداث فى يناير 2011، ومع عودة الدولة المصرية لمسارها الوطنى منذ 30 يونيو 2013 أخذت الدولة المصرية تتلمس بناء قواعد جديدة لحكمها، منها توسيع الأدوار أمام الأحزاب الوطنية، وبناء كيانات سياسية، وخدمية مستقلة، وسنبحث ذلك التوجه من خلال ما يأتى:

أولا - عناصر العقيدة السياسية:

دائما ما ترتبط العقيدة بمكون معنوى متعلق بالإيمان واليقين الراسخ بمجموعة من الثوابت غير القابلة للنقاش أو التشكيك أو الانتقاد، ونجد ذلك فى الشريعة الإسلامية فى الحديث الشريف الذى قرر معنى الإيمان بأنه (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)[10]، بينما نجد جوانب مادية للعقيدة الإسلامية كدفع التزامات مالية فى الزكاة والصدقات، والتى منها استحقاق المؤلفة قلوبهم وهم "حديثو العهد بالإسلام" سهمًا فى الزكاة، "تم إيقافه بعد تثبيت العقيدة وقوة الدولة"، وفقا لذلك وبعد أن تم عرض تجارب تاريخية لتوجهات عقيدة الحكم المصرية نجد أنها تستند إلى ركن مادى، وركن معنوى، وهناك علاقة دائرية تجمعهما.

1-الركن المعنوى للعقيدة السياسية المصرية:

لم يكن المصريون القدماء لينقلوا أحجار الأهرام من أسوان إلى الجيزة لمجرد الحصول على أجر، أو لطاعة حاكم، ولكنها العقيدة الدينية هى التى دفعتهم للقيام بذلك، ولم يكن تصدى المصريين للفرنسيين، والإنجليز بقصد مصلحة مادية، ولكنها العقيدة الوطنية هى التى جعلتهم يقدمون أرواحهم حماية للوطن دون النظر لأى شىء آخر، تلك العقيدة الوطنية هى التى يجتمع خلفها المصريون فى كل المحن والتحديات، وهى التى تجعل مصر عصية على أعدائها. من ثم، ووفقا لما ذكرناه فإن وجود ذلك اليقين المعنوى للعقيدة بمنزلة الركن اللازم لمشروعية النظام السياسى.

2-الركن المادى للعقيدة السياسية المصرية:

والركن المعنوى للعقيدة ربما يكفى لاجتياز التحديات الكبرى، أو ذات الطبيعة الخارجية المؤقتة، ولكنه لا يكفى وحده لضمان استمرارية التوحد والقبول بتوجهات السياسة المُتغيرة،وقديما ورغم وحدة العقيدة بين فرعون والسحرة المصريين، فإنهم لم يقبلوا طلبه بشأن التصدى لموسى عليه السلام لمجرد الدفاع عن عقيدة يؤمنون بها، وإنما طلبوا أجرا عن ذلك وقد وافقهم الفرعون ووعدهم بالاستجابة لمطالبهم بأن يقدم لهم الأجر وكذلك يقربهم إليه سياسيا، وفى القرآن الكريم قال تعالى: "وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِين(113)قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)"[11]وإجمالا، فإن كل الأديان تُبشر بأجر غير محدود وهو الجنة لمن يلتزم بأحكام عقيدتها كثواب يحصل عليه من ينصاع لعقيدتها وتكليفاتها.

ووفقا لما عرضناه بالمحور الأول فقد كانت تجارب صناعة العقيدة السياسية عند المصريين منذ القدم تقوم على صناعة نخب تكون بمنزلة أذرع لنشر العقيدة، وأداة للتأثير على الأفراد. ودائما ما تتحصل تلك النخب على مصالح ومزايا مادية أو معنوية، أو كليهما كحافز عن دورها فى نشر وتثبيت العقيدة يكفل لتلك النخب القدرة على تمويل تحركاتها وتمكينها من التميز الاجتماعى الذى يميزها ويسهل أداءها لدورها.

3-دائرة العقيدة بين الجانبين المادى والمعنوى:

إذا كنا انتهينا لحتمية اجتماع كل من العنصرين المعنوى والمادى لضمان القدرة على صناعة العقيدة وانتشارها وترسيخها، فإن الطريق الأمثل لذلك يكون من خلال بناء طليعة أو نخبة تنشرها بصورة تدريجية هرمية فى جميع قطاعات المجتمع. ربما تكون البداية من الركن المعنوى للعقيدة ثم تستكمل بركنها المادى، أو أن تكون البداية بالتحفيز بمصالح مادية، يعقبها تأصيل العقيدة المعنوية فى النفوس، ولكن لابد من اجتماع الركنين كثوابت يمكن أن يضاف إليهما عناصر أخرى تعزز من القدرة على الانتشار وترسخ اليقين بالمضمون، والثابت هنا هو حتمية وجود جانب مادى إلى جوار الجانب المعنوى لاسيما فى بداية تأسيس العقيدة، واستخدام أحدهما لصناعة الآخر، حتى تتحقق باجتماعهما الغاية المرجوة للوصول إلى اكتمال تمكين العقيدة.

ثانيا - العقيدة السياسية للجمهورية المصرية الجديدة:

لقد مرت العقيدة السياسية للدولة المصرية بالعديد من التحولات التى منها سيطرت العقيدة الدينية خلال حكم الفراعنة وفترات ضم مصر لدول الخلافة، والعقيدة الوطنية التى يحميها جيش وطنى التى تجلت فى فترة حكم محمد على وخلفائه، وعقيدة القومية العربية ذات السمات الاشتراكية خلال فترة الستينيات من القرن الماضى، والعقيدة متعددة المحاور التى بدأت منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى حيث تكونت من خليط وطنى دينى يتجه نحو الفكر الرأسمالى برعاية أذرع من النخب والعائلات والقبائل، الأمر الذى انتهى لسيادة القيم المادية على المعنوية للعقيدة ما أضعف من صلابة الدولة ودفعها نحو أحداث يناير 2011. والعقيدة هى الضمانة التى تحرك المواطن تجاه كل ما يحافظ به على دولته حتى لو تعرضت لظروف لا تلبى متطلباته المادية، وفى 30 يونيو 2013 أعاد الموطنون دولتهم على أساس وطنى جمع كل شرائح المجتمع تحت علم مصر التى تستوعب جميع أبنائها بصرف النظر عن اختلافهم فى الدين، أو الجنس، أو العرق، أو اللون، أو الفكر، أو غير ذلك.

وفرضت الوطنية نفسها كعقيدة لإعادة بناء الدولة فى إطار من الوحدة الوطنية والالتفاف السياسى حول القيادة، ليكون من المهم البناء على ذلك من خلال خلق كيانات تنتشر وتنظم تعزيز وجود تلك العقيدة الوطنية كمرجعية لسياسة الحكم فى الجمهورية الجديدة، وفقا لأساس وطنى عصرى متطور يراعى موروث الماضى، وتطورات المستقبل.

ثالثا - شرائح نشر العقيدة الوطنية للجمهورية المصرية الجديدة:

بالنظر إلى المكونات البشرية التى يمكن أن تشكل نخب العقيدة الوطنية نجد أن أهمها:

1-  العائلات والنخبة الاجتماعية:

تظل العائلات والقبائل والنخب الاجتماعية من أهم أدوات نشر العقيدة السياسية، لاسيما مع قدرتهم على الوجود المستمر، والتواصل والتأثير رغم تغير الأنظمة السياسية بدافع من تاريخهم المشترك وتشابكهم فى النسب والنشاط الاقتصادى، ووجودهم فى الجهاز الإدارى للدولة، وتلك الشريحة لديها إيمان وعقيدة وطنية تاريخية، وحصول العناصر المؤهلة من العائلات على حصة لائقة من المناصب لاسيما المناصب الشعبية يشكل العنصر المادى اللازم لدعم جهودها فى نشر العقيدة الوطنية لتلك الشريحة شريطة ألا يكون الانتماء العائلى سببا فى الدفع بعناصر غير مؤهلة للمناصب الشعبية أو التنفيذية تعرقل من نجاح منظومة العمل بالدولة.

2-  التكنوقراط:

التكنوقراط هم شريحة تقدس الدولة ويتميزون بالكفاءة والمثابرة والفكر، ويمكن من خلالهم جذب مهارات وكفاءات تكفل النجاح للعمل بالجمهورية الجديدة فى جميع المحاور بما فيها الثقافية، والتنفيذية والإدارية، وهم مناسبون بالأكثر لشغل المواقع التنفيذية التى يمثل وجودهم فيها الحافز المادى، الذى يجب أن يقترن بمراجعة قناعاتهم الوطنية والعمل على ترسيخها، لكونوا مثالا بأن هناك أفقا مفتوحا للكفاءات الوطنية تحقق من خلاله طموحها داخل إطار الدولة الوطنية.

3-الشباب:

الشباب هم عماد جمهورية المستقبل، ومن المهم إعدادهم فنيا وفكريا ليكونوا طليعة نشر وترسيخ العقيدة الوطنية بفكر جديد من خلال وجودهم إلى جوار أهل الخبرة، على أن يتم اختيار الأكفاء منهم بعد تصنيفهم فإن كانوا من العائلات والعصبيات القادرة على الحشد، يتم الدفع بهم فى المواقع الشعبية التى تحتاج إلى انتخابات، إما إذا كانوا من الموهوبين والكفاءات دون خلفية عائلية أو قدرة على الحشد والتمويل فالأفضل الدفع بهم إلى المواقع التنفيذية. والأمر هنا ليس فقط فى المناصب الكبرى، وإنما من المهم الدفع بعناصر فى مستوى المحليات، والقيادات الإدارية الوسطى بما يمثل حافزا ماديا لهؤلاء الشباب، وحافزا لتنشيط تأثيرهم فى القاعدة الشعبية، ورسالة بأن عقيدة الوطنية تفتح الطريق أمام طموح الشباب العامل المتفوق.

4- القيادات السابقة:

الوصول إلى سن التقاعد لا يعنى تراجع التأثير، بل ربما يكون تأثير الشخص أكثر قوة فى تلك السن، وهنا نجد فى شريحة القيادات السابقة شريحة مشبعة بالخبرة وروح الوطنية، ووجود الأكفاء منهم فى صدارة المشهد يعزز نقل الخبرات والروح الوطنية للشرائح الأخرى، ويعطى ثقلا للهيكل السياسى، ويرفع من معنويات مؤسساتهم الأصلية باعتبار رجالها مقدرين، ولهم دور وطنى فعال حتى بعد التقاعد.

رابعا - كيانات بناء العقيدة السياسية للجمهورية المصرية الجديدة:

مع تبنى الدولة المصرية للعقيدة الوطنية كأساس للجمهورية الجديدة منذ يونيو 2013، نجد أنه تم إنشاء، وتعزيز وجود العديد من الكيانات لتكون سواعد لنشر وترسيخ تلك العقيدة، ومن أهم تلك الكيانات:

1-الأحزاب:

بالنظر للعمل الحزبى نجد أنه اتجه نحو تعزيز العقيدة الوطنية منذ يونيو 2013، ويبرز ذلك فى مظاهر منها أسماء الأحزاب الكبرى، مثل: مستقبل وطن، وحماة الوطن، والشعب الجمهورى، وغيرها من الأحزاب التى على اختلافها نجد أنها تتفق فى عقيدتها الوطنية؛ حيث يمكن تلمس تلك العقيدة من أسماء تلك الأحزاب نفسها التى تمت صياغتها لتعبر عن العقيدة الوطنية، أو من خلال برامجها التى تؤكد وطنية الدولة، واتجهت تلك الأحزاب نحو احتواء أكبر قدر من المكونات المجتمعية المتنوعة كتجمعات العائلات، والمؤسسات، والشباب، والنخب، وغيرها فى إطار من الوحدة الوطنية التى تجعل الوطن هو الإطار الحاكم والجامع للتنوع الوطنى، ولكن لا تزال تلك الأحزاب تتلمس قواعدها وتخلق جذورها المُجتمعية وتتوسع تدريجيا بنسب متفاوتة.

3-  تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين:[12]

مع التنوع الوطنى الذى تعمل به الأحزاب، يعد كيان تنسيقية شباب الأحزاب من الكيانات ذات التأثير المتصاعد التى تعمل على إذكاء الروح الوطنية لشباب الأحزاب والسياسيين على تنوع أفكارهم، وتوحيد منظورهم الوطنى على اختلاف تصنيفاتهم العلمية، والاجتماعية، والدينية، والقطاعية من أجل إعدادهم ليكونوا نخبة المستقبل بالجمهورية الجديدة، مع إعطائهم الفرصة للتمكين التدريجى وفقا لمؤهلاتهم وقدراتهم بصورة شفافة ودون محاباة، وإن كان هذا التوجه يواجه تحدى كيفية إدماج الشباب فى الجهاز الإدارى الذى لا يقبل أن ينتقل شباب للقيادة متجاوزا فترة البقاء فى درجات الترقية الوظيفية؛ حيث يجد هؤلاء الشباب وجودهم فى بعض المناصب التى لا تتطلب أقدمية كمعاونين الوزراء والمحافظين، وستعتمد نسبة انتشارهم فى المستقبل على مدى نجاحهم فى المساحة التى يشغلونها حاليا.

3-اتحاد شباب الجمهورية الجديدة:[13]

يغطى هذا الكيان نطاقا واسعا من الشباب؛ حيث يضم شبابا من الأحزاب ومن خارجها ليقوم بالتنسيق بين كيانات، مثل: كوادر البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب، ومتطوعى حياة كريمة، وخريجى الأكاديمية الوطنية للتدريب، والمؤتمر الوطنى للشباب، ومنتدى شباب العالم وغيرهم من الكيانات الشبابية التى تشترك فى عقيدتها الوطنية وإن اختلفت فى توجهاتها الفكرية وحركتها على الأرض، ويواجه هؤلاء الشباب تحديات تتماثل مع تلك التى تواجه شباب تنسيقية شباب الأحزاب، فضلا عن محدودية قدرتهم على الحشد بنسبة تؤهلهم لأن يكون لهم دور فعال فى الحشد، أو قدرة على فرض وجودهم فى انتخابات المحليات حتى الآن، الأمر الذى يحتاج منهم إلى كثير من العمل، ويستلزم دعمهم بالمتطلبات المادية لنشر العقيدة السياسية كما عرضنا سابقا.

خامسا - تحديات بناء العقيدة السياسية للجمهورية المصرية الجديدة:

إذا كنا انتهينا إلى أن العقيدة الوطنية هى الأساس الواجب نشره وترسيخه باعتباره السبيل لصون مقدرات الوطن فى السراء والضراء، وكما أوضحنا أهمية إكساب نشر وترسيخ تلك العقيدة عددا من المزايا والحوافز وتكليفهم بالعمل القيادى لتمكينهم من أداء دورهم؛ فإننا يمكن أن نجد أن ممارسات الدولة تتسم باعتبارات الموضوعية أكثر من الاعتبارات السياسية ما خلق تحديات تواجه عملية نشر وترسيخ العقيدة الوطنية، وتحد من قدرة الدولة الربط بين الجانب المعنوي، والبعد المادى للعقيدة الوطنية التى من منها أنه:

1-  عدم وجود بناء هرمى محكم يضم أذرعا لنشر وترسيخ العقيدة الوطنية على غرار تنظيم الشباب الاشتراكى، أو تنظيم الكشافة، وإنما تتفرق الجهود بين كيانات متنوعة، ينتظر كل منها مساندة وتمكين لأعضائه بصورة تتجاوز الممكن والمتاح.

2-  آلية نشر وترسيخ العقيدة الوطنية من خلال دورات تدريبية وندوات ومؤتمرات، مثلما تقوم به كلية الدفاع الوطنى، وغيرها من الجهات التى تحتاج إلى استكمال أن يتم إلحاق خريجى تلك الدورات بهيكل تنظمى محدد لنشر ما تعلموه فى المجتمع، فلا يمكن حضور كل الشعب لتلك البرامج، ولا يوجد إطار حالى يضمن قيام خريجى تلك البرامج بنشر مخرجاتها بين الشعب بصورة فاعلة، كما لا توجد مزايا واضحة لمن يحصل على تلك الدورات أو يحضر تلك الفعاليات تشجع الآخرين على إتباع نفس المنهج.

3-  العائلات والقبائل المصرية التى كان لها دور كبير فى ثورة 30 يونيو 2013 تشعر أن دورها تقلص وحصتها فى المناصب الشعبية والتنفيذية تراجعت ما يفتر من همتها، ويؤثر بالسلب فى مكانتها المجتمعية بصورة تحد من قدرتها.

4-  عملية إعداد جيل جديد من الشباب القادر على النجاح فى الانتخابات المحلية تتم بموضوعية مثالية تعتمد على معايير موضوعية مثالية يصعب معها تحقيق مستهدفاتها دون النظر إلى الخلفية العائلية لهؤلاء الشباب، وعدد أفراد عصباتهم، وقدرتهم على الحشد، كما أن هؤلاء الشباب لم يحصلوا على مزايا، أو مساندة مادية أو معنوية مؤثرة تكون بمنزلة رسالة لآخرين بأن يسيروا فى ذات مسارهم الوطنى.

5-  الاتجاه نحو الدفع والتمكين للمتفوقين من الشباب تحت الأربعين، مع إعطاء الفرصة للخبراء فوق سن الستين، يتجاهل أجيال نحو عشرين عاما من الحادية والأربعين إلى سن الستين، هذه الأجيال لن تجعل من مهمة تمكين الشباب من العمل الشعبى أو التنفيذى مهمة سهلة فى ظل اقتناعهم أنهم مستبعدون من كل فرص الوجود بقيد السن وليس قيد القدرة أو الكفاءة، ويعد إدماج هذه الشريحة وخلق أفق لها بمنزلة صمام أمان للعمل الوطنى.

6-  الإعلان المستمر عن تمكين شرائح معينة مثل المرأة والشباب المتعلم تعليما راقيا يرتب أثرا عكسيا لشرائح أخرى تشعر أنها خارج المنظومة الوطنية ولاسيما شباب التعليم الحكومى، وشباب التعليم الفنى، ومن لم يكملوا تعليمهم، الأمر الذى يعصف بفكرة الوطنية ذاتها للشرائح التى لا تجد لأعضائها حصة واعترافا بالوجود والتمثيل فى كيانات العمل الوطنى.

7-  العقيدة الوطنية لأعضاء الأحزاب والتنظيمات السياسية والخدمية هى الدافع لأنشطة أعضائها الذين لا يحصلون بالفعل على ثمة مصالح، الأمر الذى لن يستمر طويلا، فبمجرد إعلان مرشحى الأحزاب والكيانات الشبابية للانتخابات المختلفة (وفى ظل عدم وجود جدوى من الاستمرار) سيواكب ذلك موجة من الاستقالات لمن يروا أنفسهم أنهم الأحق بالترشح ليجد مرشحو الحزب الواحد أنفسهم أمام منافسين من زملائهم السابقين ينافسونهم منافسة شرسة بعد أن كان ينتظر أن يدعموهم؛ اعتقادا منهم أنهم كانوا الأولى بترشح الحزب بعد أن بذلوا جهدا ومالا فى سبيل عمل حزبى لم يقدر من القيادات المسئولة عن الاختيار.

8-  تقديم الدولة مشروعاتها للمواطن بدون وسيط سياسى يحد من صناعة أذرع فعالة لها، فعلى سبيل المثال، مشروع حياة كريمة الذى سيغير من حياة 60 مليون مصرى لم يتم ربطه بتقديم من تريد الدولة توظيفهم فى ممارسة أدوار سياسية تنشر عقيدتها والوطنية، وترسخ تنظيمها السياسى، وكان من الأنسب سياسيا ربط هذا المشروع بأشخاص تروج للعقيدة الوطنية، وتعمق من ثقة المجتمع بها لتكون لها القدرة على الترويج والحشد السياسى.

سادسا - دور الأحزاب فى دعم وترسيخ العقيدة الوطنية للجمهورية المصرية الجديدة:

يمكن أن نرصد الخلفية الوطنية التى تمثل الإطار الحاكم لعمل الأحزاب الرئيسية فى مصر، التى تعلن من خلال أسماء الأحزاب نفسها حيث تعلن الخلقية الوطنية فى أسماء أحزاب، مستقبل وطن، وحماة الوطن، والشعب الجمهورى، وغيرها من الأحزاب التى تستهدف دعم وترسيخ العقيدة الوطنية، وخلق طليعة من أعضائها تكون بمنزلة أذرع سياسية ذات مرجعية وطنية تكون الأساس لممارساتها السياسية التى منها:

1-  الاحتفالات بانتصار أكتوبر، وبالمولد النبوى الشريف، وبعيد الشرطة.

2-  مبادرات توفير السلع  والحاجات الأساسية للمواطنين عند الأزمات.

3-  مبادرات تلبية الحاجات المُجتمعية فى سيناء والصعيد وغيرها من بقاع الوطن.

4-  مبادرات علاج الإدمان، ودعم ذوى الاحتياجات الخاصة.

5-  تنظيم ندوات توعية بالملفات التى تهم المواطن من منظور وطنى.

والملاحظ هنا، أنه إذا كنا انتهينا إلى حتمية العمل فى محورى نشر العقيدة الوطنية، وتقديم مصالح مادية للموطنين، فإننا نجد أن ما تقدمه الأحزاب من مصالح لا يربط ذلك بصورة عضوية بمحور العقيدة الوطنية، فما تقدمه الأحزاب من مبادرات ومزايا للمواطنين لا ترتبط ببرنامج ثقافى ينشر العقيدة الوطنية أو يربطها بالانضمام لتلك الأحزاب، كما أن نشاط الأحزاب فى مجال ترسيخ العقيدة الوطنية لا يقترن بتقديم مزايا وحوافز ومصالح للمتفاعلين مع أنشطة الثقافة الوطنية. فضلا عن عدم وجود مؤشر لنتائج مخرجات ما تقدمه الأحزاب ومدى تحقيقه الغاية المرجوة. بالإضافة إلى أن نشاط تلك الأحزاب لا يحقق نتائج مؤثرة فى مجال ضم أكبر عدد إلى عضوية تلك الأحزاب، أو ربط ما تقدمه من مزايا بالانضمام إليها، أو على الأقل بحضور ندواتها التوعوية، فضلا عن عدم وجود تركيز على صناعة بناء هرمى محكم يتغلغل فى جميع القطاعات الجغرافية والنوعية بالمجتمع، وكذلك لا يوجد تصور عملى لدعم أعضاء تلك الأحزاب فى مجالات اهتماماتهم بما يحفز آخرين على الانضمام إليهم للحصول على ذات الدعم والانخراط فى العمل الوطنى.

الخــــــــــاتمة:

ننتهى مما سبق عرضه إلى أن هناك حتمية لوجود عقيدة سياسية وطنية يتم دعمها وترسيخها من خلال نخب تجديد التواصل والتأثير الجماهيرى، على أن تعمل تلك النخب من خلال هيكل أو هياكل هرمية متوازية محكمة تنتشر فى جميع النطاقات الجغرافية، والقطاعات الجماهيرية من خلال أعضاء متشبعين بعقيدة سياسية وطنية قادرين على نشرها بين المواطنين. وتعد عقيدة الوطنية هى الأساس المناسب للوحدة والالتفاف السياسى للجمهورية المصرية الجديدة باعتبارها عقيدة يؤمن بها بالفعل الملايين من أفراد الشعب، وتعمل جميع المؤسسات على ترسيخها، ولكن ليتم ذلك ولضمان الاستمرارية اللازمة لابد من أن يكتسب رواد دعم وترسيخ تلك العقيدة عددا من المزايا المادية والمعنوية بصورة تجعلهم أقوى فى مجال صناعة التأثير والحشد، وتقدمهم بصفتهم نماذج يحتذى بها لمن يسير فى ذات طريقهم الوطنى؛ حيث يكون الانغماس فى حقل العقيدة الوطنية طريقا يرضى ضمير الفرد لقيامه بعمل وطنى، ويرضى طموحه فى أن ما يقوم به من دور سينعكس بمزايا مادية ومعنوية.

وفى مجال التوصيات، نشير إلى أهمية التعامل مع ثغرة عدم التكامل بين الجانب المادى والمعنوى للعقيدة الوطنية عن طريق صناعة شبكات هرمية محكمة تنشر مبادئ العقيدة الوطنية، وتعمل على مساندة أصحاب تلك العقيدة وتقديم حوافز لهم، بينما تقدم حوافز أخرى لضم أكبر عدد من المواطنين للأحزاب والكيانات السياسية الوطنية ثم تثقيفهم وإشباعهم بعقيدة الوطنية، وفى سبيل ذلك نوصى، وعلى سبيل المثال:

1-  إحكام هياكل الأحزاب والكيانات السياسية الوطنية بأن يكون لها تشكيل هرمى غير محدود يلتزم فيه كل عضو بضم أو التأثير فى عدد محدد من الأشخاص، ويدعوهم إلى أن يكون لكل منهم تأثير فى عدد آخر وهكذا ليستمر الانتشار والتأثير.

2-  ترسيخ فكرة وقوف الأحزاب والكيانات السياسية إلى جوار أعضائها فى أمورهم المتنوعة، وألا يكون الطموح هو الحصول على الترشيح النيابى فقط، وإنما يتضمن مساندتهم فى مجالات مختلفة، والعمل على تنفيذه فعلا؛ فكل مساندة لهذه الشريحة ستجذب آخرين للانضمام للأحزاب والكيانات الوطنية، وفى الوقت نفسه عدم اقتصار طموح الأعضاء على الترشح للانتخابات النيابية سيمنع من استقالاتهم وانسحابهم من العمل الوطنى حال عدم اختيارهم فى مصاف القيادات.

3-  المعسكرات الترفيهية هى من أفضل آليات نشر العقيدة السياسية، ويمكن للأحزاب والكيانات الوطنية الاتفاق مع عدد من المنتجعات السياحية لاستقبال رحلات من عدة أيام بأسعار مخفضة لأعضائها، وتقدم فرص تلك الرحلات للمواطنين بشرط الحصول على عضوية الأحزاب أو الكيانات الوطنية المنظمة لها، وحضور ندوات تثقيفية تركز على نشر العقيدة الوطنية خلال رحلات الترفيه، فضلا عن إمكانية حدوث تعاون وتبادل منافع بين أعضاء كل حزب أو كيان وطنى حال التقائهم فى المعسكرات من كل المحافظات.

4-  توصل الأحزاب والكيانات السياسية الوطنية مع الجهات التى تقدم مبادرات حكومية أو شبه حكومية، مثل جهاز المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، والبنوك، وصندوق الإسكان الاجتماعى، ومؤسسة حياة كريمة، وغيرها لعقد ندوات تواصل مع الجماهير بمقار الأحزاب لدعم تلك المبادرات وعرض المزايا التى تتضمنها للمواطن على أن يقترن ذلك بكلمات توعية وطنية.

5-  توقيع الأحزاب والكيانات السياسية الوطنية لبروتوكولات تعاون مع الأطباء والصيدليات والمستشفيات لتقديم تخفيض معين لمن يحمل عضوية تلك الكيانات، وهنا نضمن جذب لأصحاب الكيانات الطبية، وتخفيضا فى التكلفة لمنتسبى الكيانات الوطنية، مع اشتراط حضور ندوة توعية واحدة على الأقل ينظمها الحزب أو الكيان الوطنى شهريا.

6-  توقيع بروتوكولات مع محامين من أعضاء الأحزاب أو الكيانات الوطنية لتقديم الاستشارات والأعمال القضائية لأعضائهم بأسعار مخفضة، ولاسيما فى قضايا المرأة والعمال.

7-   تقديم خدمات للمواطنين بمقار الأحزاب والكيانات الوطنية بأسعار رمزية، مثل التقديم الإلكترونى بتنسيق الكليات، أو تقديم الإقرارات الضريبة، وغير ذلك بحيث تكون تلك الخدمات أقل بكثير من سعرها بالسوق ما يحقق دخلا للكيانات الوطنية، وخدمة للمواطن بشرط الانضمام للحزب أو الكيان مقدم الخدمة وحضور ندوة توعية.

الهوامش:


[1]عبد القادر عطا صوفي، المُفيد فى مهمات التوحيد ص 8 بتصرف.

[2]محمد معروف الدوليبي، المدخل فى علوم الفقه، دار العلم، 1375 هـ (ص239).

[3]سورة التوبة، الآية رقم (60).

[4]رشيد الناضوري، مدخل التطور التاريخى للفكر الدينى، دار النهضة العربية، بيروت، 1969 ص 282.

[5]سليم حسن موسوعة مصر القديمة، الجزء الرابع عشر، مؤسسة هنداوى سى أى سي، المملكة المتحدة، ص 51.

[6]فتحى إبراهيم محمد، فلسفة الجزية فى مصر الإسلامية، ص 33 على رابط

https://jdl.journals.ekb.eg/article_191197_b64af9bc5cd7f387d8a9324dce220f42.pdf

[7]للمزيد راجع، رءوف عباس، وعاصم الدسوقى، كبار الملاك والفلاحين فى مصر 1837-1952 على رابط

http://www.raoufabbas.org/Download/LandlordsAndPeasantsInEgypt.pdf

[8]للمزيد راجع، عبد الغفار شكر، منظمة الشباب الاشتراكى، تجربة مصرية فى إعداد القيادات، مركز دراسات الوحدة العربية.

[9]للمزيد راجع، عبد الغفار شكر، الطليعة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية.

[10]حديث شريف رواه مسلم فى صحيحه.

[11]سورة الأعراف.

[12]للمزيد راجع الموقع الإلكترونى لتنسيقية شباب الأحزاب على الرابط https://cpyp.net

[13]للمزيد راجع الموقع الإلكترونى لاتحاد شباب الجمهورية الجديدة على الرابط https://www.nregypt.com/ar

 

المراجــع:

-رءوف عباس، وعاصم الدسوقى، كبار الملاك والفلاحين فى مصر 1837-1952 على الرابط:

http://www.raoufabbas.org/Download/LandlordsAndPeasantsInEgypt.pdf

-رشيد الناضورى، مدخل التطور التاريخى للفكر الدينى، دار النهضة العربية، بيروت، 1969 ص 282.

-سليم حسن موسوعة مصر القديمة، الجزء الرابع عشر، مؤسسة هنداوى سى أى سي، المملكة المتحدة، ص 51.

-عبد الغفار شكر، مُنظمة الشباب الاشتراكي، تجربة مصرية فى إعداد القيادات، مركز دراسات الوحدة العربية.

-عبد الغفار شكر، الطليعة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية.

-عبد القادر عطا صوفي، المُفيد فى مهمات التوحيد ص 8 بتصرف.

-فتحى إبراهيم محمد، فلسفة الجزية فى مصر الإسلامية، ص 33 على رابط:

https://jdl.journals.ekb.eg/article_191197_b64af9bc5cd7f387d8a9324dce220f42.pd

-محمد معروف الدوليبي، المدخل فى علوم الفقه، دار العلم، 1375 ه (ص239).

-منى أنيس، ريتشارد ميتشل، عبد السلام رضوان، أيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين، الجزء الثانى: التنظيم والأيديولوجية، مكتبة مدبولي، القاهرة.


رابط دائم: