حماية التراث المصرى
15-1-2023

عميد/ د. هيثم الطواجنى
* متخصص فى الشئون الاستراتيجية والسياسية

 لم يعد الصراع بين البشر مقصورا فقط على السطو على مقدرات الآخرين من خيرات طبيعية بل بات حول الطعام والملابس والحلى ... ومن ثم تزييف الهوية، ثم تكتمل الحبكة بكيفية تسجيله لدى منظمة اليونسكو للعلوم والتربية كتراث ثقافى يتبع الدولة التى تقوم بالتزييف، وإليكم أبرز ما استرعى انتباهى ولفت نظرى فى الآونة الأخيرة.

- ففى الأول من ديسمبر 2022 أعلنت منظمة اليونسكو "الإضافات الجديدة" على قائمة التراث العالمى غير المادى التى ضمت مجموعة من "العناصر العربية" وذلك خلال الاجتماع السابع عشر للجنة المعنية بالمنظمة الذى انعقد بالرباط، وأدرجت منظمة اليونسكو "التلى"، مهارات التطريز التقليدى فى إحدى الدول العربية الشقيقة فى قائمة التراث العالمى غير المادى. و"التلى" هو حرفة نسيج يدوى تقليدى، تتميز بألوانها الزاهية وتصميماتها الجميلة،  ويستخدم التلى فى تزيين جميع أنواع الملابس النسائية وتتم حياكته بلفِّ وتضفير خيوط مختلفة مع بعضها فى "جديلة" تصنع شريطا طويلا ورفيعا منسوجا وموشى بتصميمات زخرفية جميلة ومطرزة.

- مجموعة من نساء دولة عربية شقيقة أخرى يرتدين الجلابية الفلاحى والمنديل الفلاحى والبيشة والملاية اللف (المصرى) حتى رسمة الوشم الصعيدى، مدعيات أن هذا الزى هو من التراث الوطنى لبلدهم.

- عشية الاحتفال برأس السنة الأمازيغية للعام الأمازيغى 2971 أو ما يعرف بـ"عيد يناير"، قررت ولاية  تيزى وزو تكريم الشخصية التاريخية "الملك شيشناق" من خلال نصب تمثال له بطول 4.4  متر وسط المدينة؛ حيث أوضح أحد الفنانين الذين صمموا التمثال أن شيشناق مصرى من أصل بربرى.

- تبادل الاتهامات بين الدول حول أحقية ملكية الطعام وصناعته وخاصة الأطباق الشهيرة التى وصلت إلى العالمية، والحقيقة إن هناك معركة الطعمية (الفلافل) بين عدد من الأقطار العربية الشقيقة التى تدَّعى ملكيتها، بالإضافة إلى المالك الأصلى مصر.

- هذه الأحداث المتلاحقة فى مدة زمنية لا تتجاوز 40 يوما بدءًا من ديسمبر 2022 وحتى تاريخ كتابة المقال فى اعتقادى أنها ليست كلها مصادفة وليست كلها متعمدة، وإنما بدأت عندما تهاون المصريون فى إثبات أحقيتهم فيما سبق من أحداث، واسمحوا لى أن أوضح أكثر حيث إن حرفة وصناعة التلى مصرية توارثناها "أبا عن جد"، وعندما أتحدث عن تاريخ تلك الحرفة فى صعيد مصر فيجب أن نعرف أن صناعة التلى فى مصر فن أصيل عبرت عنه نساء جنوب الصعيد بأزيائهم من قماش التلى؛ حيث عُرفت هذه الصناعة التى عملت بها السيدات منذ القرن الثامن عشر، فكانت وقتها تمثل زى النساء فى "الصعيد"، كما اشتهرت بصناعتها سوهاج وأسيوط فتعد من تراث هذه المناطق، والتلّى هو فن التطريز على قطع القماش المكون من القطن باستخدام خيوط مطلية باللون الذهبى أو الفضى وكانوا قديما يستخدمون الذهب الخالص والفضة الخالصة، ولكن مع غلاء الأسعار استبدلوا الخيوط المطلية بها، ويتم استخدام التلى فى أشكال عديدة ورسومات متنوعة، مثل: الجمل، والفارس، والنخلة، والشمعة، والعروسة، والحجاب، والجامع، والكنيسة، والطبلة، والإبريق، وتستغرق تلك المشغولات وقتا طويلا لإنجازها، ويعد زيا مصريا خالصا ارتدته نجمات السينما المصرية، مثل زينات صدقى وتحية كاريوكا، كما ارتدته ملكة مصر السابقة نازلى فى إحدى الصور الرسمية لها لتعبر عن أناقة المرأة المصرية.

- وفى أثناء عملى بإحدى الدول الشقيقة، وفى إحدى الأمسيات، وخلال دعوتى لمجموعة من الزملاء وأسرهم، فوجئت بأن أحد المدعوين من الأجانب يكلمنى وهو مزهو بأن الطعمية (الفلافل) أكلة يهودية من التراث اليهودى، ورجل آخر من الدولة المضيفة يتغزل فى أم على وأنها حلوى تركية، ولن أذكر لكم ما قلته لهم لفظا، فليس هذا مجاله، ولكنى أثبتُّ لهم بالأدلة القاطعة أن مستندات ملكيتنا للطعمية منقوشة على جدران المقابر الملكية فى وادى الملوك قبل آلاف السنين، وتوضح طريقة دش الفول وإضافة الخضراوات له وتخمير أقراص الطعمية ووقتها لم يكن هناك يهود. وأما أم على فلها سابقة تاريخية فمن وزعتها على المصريين "أم على" احتفالا بانتقامها من شجر الدر التى لم تجد مفرا من التنازل عن العرش للأمير عز الدين أيبك أتابك العسكر الذى تزوجته، وتلقب باسم الملك المعز، وتنازلت عن الحكم والسلطان رسميا، وانزوت فى بيت زوجها الذى خضع لسيطرتها وأرغمته على هجر زوجته الأولى أمّ ولده على، وبلغ من سيطرتها على أمور السلطان أن قال المؤرخ الكبير "ابن تغرى بردى": "إنها كانت مستولية على أيبك فى جميع أحواله، ليس له معها كلام"، كما ساعدت شجر الدر عز الدين أيبك على التخلص من فارس الدين أقطاى، غير أن أيبك انقلب عليها بعدما أحكم قبضته على الحكم فى البلاد وتخلص من منافسيه فى الداخل ومناوئيه من الأيوبيين فى الخارج وتمرس بإدارة شئون البلاد، بدأ فى اتخاذ خطوات للزواج من ابنة "بدر الدين لؤلؤ" صاحب الموصل، فغضبت شجر الدر لذلك، وأسرعت فى تدبير مؤامرتها للتخلص من أيبك، فأرسلت إليه تسترضيه وتطلب عفوه، واستجاب لدعوتها وذهب إلى القلعة حيث لقى حتفه، وأشاعت شجر الدرّ أن المعز لدين الله أيبك قد مات فجأة بالليل، لكن مماليك أيبك لم يصدقوها فقبضوا عليها وحملوها إلى امرأة عز الدين أيبك التى أمرت جواريها بقتلها، ولما ماتت شجر الدر قامت "أم على" أرملة الملك عز الدين أيبك وأم ابنه بتوزيع حلوى شهيرة كانت تعد حينها بعد الشواء من رقائق الخبز واللبن والمكسرات، فلما كان يتساءل الناس عن سبب توزيع الحلوى أو من صاحبها كان الموزعون يختصرون القصة بقول: أم على، أم على، ويقصدون بذلك أن أم الأمير على عز الدين هى من أمرت بتوزيعها على الناس فرحا فى مقتل شجر الدر، ومن يومها ارتبط اسمها باسم تلك الحلوى.

أما الملك شيشناق فقد ولى عرش الدولة المصرية عام 950 قبل الميلاد، والصحيح أنه وإن كان أصله البعيد (جده الثامن) يرجع إلى ليبيا لكن أسرته تمصَّرت منذ أن استوطنت مصر من عدة أجيال سابقة وسكنوا مدينة إهناسيا، وصاروا من المواطنين، وتقلد كثير منهم مناصب الدولة، وأظهروا فيها إخلاصا لوطنهم مصر، ويرجع نسب الملك شيشناق وحسب لوحة حور باسن المحفوظة الآن بمتحف اللوفر التى أقامها حور باسن وذكر فيها أجداده فإن نسب الجد الثامن للملك شيشناق هو: شيشناق بن نمرود بن شيشناق بن باثوت بن نبنشى بن ماواساتا بن بويو واوا، ولو كان كما تدعون لدوَّن ذلك على جدران معبد الكرنك، أو ظهرت أى أدلة فى مقبرته التى اكتشفت بواسطة البروفيسور الفرنسى مونيته فى سنة 1940م والتى وُجدت بكامل كنوزها ولم تتعرض للنهب.           

- وأجدنى مضطرا لأن أوجز الرد الرسمى المصرى الصادر عن وزارة الثقافة؛ حيث إنها الجهة المنوط بها الدفاع عن التراث المصرى وحمايته، فقد أوضحت وزيرة الثقافة أن الدولة المصرية تمتلك استراتيجية وطنية للصون وحماية التراث الثقافى غير المادى وتسجيل مزيد من العناصر التراثية غير المادية وعمل أرشيف يوثق جميع العناصر وتعزيز دور جمعيات ومؤسسات المجتمع المدنى لحفظ التراث الثقافى، وبدورها أوضحت الدكتورة نهلة إمام مستشار وزارة الثقافة للتراث الثقافى غير المادى أن مصر ستتقدم فى مارس المقبل بملف "السمسمية" لتسجيلها على قوائم التراث غير المادى، كما سيعاد تقديم ملف "التلى" بعد تعديله، كما ستتقدم مصر بعدد من الملفات للأكلات التى توثق المطبخ المصرى ومنها الخبز بأنواعه والكشرى وغيرها، مشيرة إلى أن تسجيل الدول لعناصرها التراثية غير المادية لا يمنع دولا أخرى من تسجيل عناصرها المشابهة على قوائم اليونسكو للتراث غير المادى مادام يتوافر فى العنصر الاشتراطات الخاصة بتسجيله باليونسكو.

ختاما، أقول: إنه على مدار التاريخ الطويل جدا لم تجرؤ قبيلة أو أمة أو دولة أو مملكة أو إمبراطورية أن تدَّعى ملكيتها لأى شىء مصرى حتى ولو كان ضئيلا؛ حتى من يناصبوننا العداء سرقوا ونهبوا الآثار لكنهم لم يدعوا قط ملكيتهم، وعندما ادَّعى الإسرائيليون أنهم من بنوا الأهرام انبرى لهم الأثريون المصريون بالأدلة القاطعة التى لا تقبل الشك بأن وقت بناء الأهرام لم يكن على وجه الأرض يهود ومن ثم إسرائيليون. وحسنا فعلت الدولة باتخاذها الإجراءات لتصحيح الأوضاع، وإن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى مطلقا.

- والسؤال المهم: لماذا نسكت أو نتهاون فى الدفاع عن تراثنا الذى يقترب عمره من آلاف السنين؟ الإجابة من وجهة نظرى هى التكاسل والتهاون وعدم وضوح الرؤية. إن قواعد اللعبة تتغير، وما كان يصلح فى الماضى لا ينفع فى الحاضر، والمستقبل لا يستقيم ويزدهر بسرقة وتزييف التراث المصرى القديم والحديث. ومن وجهة نظرى، يجب ألا نترك وزارة الثقافة تواجه هذه المعارك بمفردها، بل علينا أن نحتشد وراء الدولة المصرية وأجهزتها التنفيذية، وأن يتكاتف المتخصصون والنخبة وكل المعنيين بالدفاع عن التراث المصرى؛ لأنه تراث ضخم وعريق ومتنوع ومتفرد، ويستحق أن ندافع عنه، فما تركه لنا الأجداد لابد من الحفاظ عليه مهما تكلف الأمر.

 


رابط دائم: