بيع قناة السويس... وأشياء أخرى
25-12-2022

عميد/ د. هيثم الطواجنى
* متخصص فى الشئون الاستراتيجية والسياسية

 بنى وطنى، لماذا نحن هكذا؟ سؤال أشبه بالأسئلة الوجودية، ولطالما احترت فى إجابته، ولا أخفيكم سرًّا أننى فى بعض الأحيان وصلت إلى درجة من درجات اليأس مستغربا ومستعجبا؛ لأننى لم أعدم حجة أو منطقا فى إجابة أو توضيح لهذا السؤال العبثى، وإليكم بعضا مما أراه وأسمعه وأناقشه بل أداول فيه الحجج لعلهم يفقهون أو يعقلون أو على أقل تقدير ينصتون، ولا أغالى إذا قلت إن أكبر أمنياتى الحالية تتسق مع ما يطالب السيد الرئيس به، ألا وهو اللُحمة الوطنية والتكاتف الشعبى وإليكم بعضا مما يؤرقنى.

- رجل ذو لها شأن يناشد من خلال وسائل التواصل الاجتماعى السيد الرئيس بالتدخل الفورى لمصارحة الشعب بحقيقة أمر إنشاء الصندوق التابع لهيئة قناة السويس؛ لأن الحكومة ومجلس النواب من وجهة نظره (متعطلان).

- برنامج من البرامج غير التابعة للتلفزيون المصرى دأب على إثارة الجدل يتحدث عن عقد اتفاق صندوق النقد الدولى مع مصر والمتضمن إتاحة تمويل إضافى لمصر بقيمة 14 مليار دولار من الشركاء الدوليين والإقليميين شاملا موارد تمويلية جديدة من دول الخليج وشركاء آخرين من خلال عمليات البيع الجارية   للأصول المملوكة للدولة.

- مصرفى مرموق بأحد البنوك يجزم بأن سعر صرف الدولار سيتجاوز 40 – 50 جنيها، وأن الدولة المصرية ستعانى ندرة الدولار لفترة طويلة وأنها على وشك الإفلاس.

- رجل من أصحاب المهن الحرة لا همَّ له سوى سعر صرف الدولار بل إنه حول معظم مدخراته إلى الدولار سعيا وراء المكسب المادى السريع من وجهة نظره فيما يعرف بالدولرة.

- رجل يعمل بتجارة السيارات يضع أمواله كلها (رقم يتعدى السبعة أصفار) فى خزانة ضخمة داخل محل عمله رافضا رفضا تاما إيداعها بالبنك خشية أن تؤممه الدولة.

- محام مرموق يرفض الانضمام إلى الفاتورة الإلكترونية بحجة أنها لا تشمل المصاريف وهو هنا لا يتكلم عن مصروفات التشغيل بل عن (الإكراميات – المجاملات – البروتوكلات) وهذا غير عادل من وجهة نظره.

- بعض من أبنائنا لا يذهبون إلى المدارس بمباركة أولياء الأمور اعتمادا على الدروس الخصوصية وليست المدرسة.

- بعض من المعارف والأصدقاء يدأبون على مشاهدة ومتابعة برامج وحسابات التواصل الاجتماعى الخاصة بالمحظورين والفارين بحجة معرفة ما يقوله الآخر. 

هذه النماذج من الأهل والأصدقاء والمعارف يشتركون جميعا فى أنهم مصريون ومتعلمون، ويحملون درجات علمية وترعرعوا على هذه الأرض الطيبة، كما ترعرع مئات الملايين من البشر على مدار التاريخ.

والآن اسمحوا لى بالتعليق على هذه النماذج التى أرى أنها من وجهة نظرى تحتاج إلى الدراسة المتأنية:

- الحكومة لم تفقد الثقة ومجلس النواب يعمل ويجتهد، ولا يصح أبدا هذا الاتهام، فهم من وقع عليهم اختيار الرجل الذى طالبتم به وناشدته جموع الشعب ليتقدم ويحمل المسئولية علما بأن رئيس الهيئة تكلم وشرح ورئيس مجلس النواب تحدث وفسر لمدة 5 دقائق كل ما يحتمل اللبس، ومع كل هذا فهم غير كافين من وجهة نظره، ولا بد من مناشدة السيد الرئيس لتوضيح الأمر متناسيا أن له متابعين وأنه بهذه المناشدة يُقسم متابعيه بين مؤيد ومعارض، وكل منهم له رأيه ووجهة نظره، ومن ثم خلق حالة من البلبلة، وهنا لابد من أن أذكره بأنه على رأس هذه الدولة التى هذه أجهزتها التنفيذية والتشريعية رجال أقسموا كما أقسمنا نحن على أن نكون جنودا أوفياء لجمهورية مصر العربية، وأن نحافظ على أمنها وسلامتها ونحميها وندافع عنها، وأن من لم يفرط من قبل وهو وزير يمكن إقالته لن يفرط وهو على رأس الدولة، وأننا على مدار التاريخ لا نفرط فى الأرض، وإذا لم تقتنع فالمادة رقم 43 من الدستور كفيلة بإقناعك أنت والآخرين، وهذا نصها: "تلتزم الدولة بحماية قناة السويس وتنميتها والحفاظ عليها بصفتها ممرا مائيا دوليا مملوكا لها كما تلتزم بتنمية قطاع القناة باعتباره مركزا اقتصاديا متميزا".

- ولمن يجاهرون بأن الدولة تنتوى بيع القناة، كيف نبيع القناة التى حُفرت بالدم والدموع والعرق، كيف نفرط فى القناة التى حفرها أجدادنا بأيديهم ودمائهم فى خمسينيات القرن التاسع عشر، كيف نبيع القناة ونحن حاربنا لاستعادتها من أيدى وبراثن المستعمر فى عام 1956 وخلفت تلك الحرب ما خلفته من شهداء وجرحى ومصابين وآلاف المواطنين، وبور سعيد الباسلة تشهد على ذلك.

- ما الذى أوحى إليكم بفكرة البيع والمصريون خرجوا عن بكرة أبيهم للاكتتاب فى حفر القناة الجديدة فى تكاتف شعبى غير مسبوق من حيث ضخامة الرقم الذى بلغ 68 مليار جنيه، ولكنه إجراء معتاد من المصريين على مدى العصور، ولنا فى ما تم بذله للمجهود الحربى عقب نكسة 1967 مثال قريب.

- هناك من يتصورأنه حريص على مقدرات الدولة أكثر من المسئولين عنها أو بمعنى آخر يدرك ويفهم بل يصدر الأحكام المسبقة على المسئول لمجرد أنه قرأ مقالاأو تحقيقاصحفياأو شاهد محتوى معيناعلى وسائل التواصل الاجتماعى أو شبكة المعلومات،وهذا فى رأيى المتواضع أخطر ما تواجهه الدولة المصرية فى الوقت الراهن،إننى أتفهم شواغلك ولكن عليك أن تنتقى ما تكتبه، وأين تنشره، وما درجة تأثيره فيمن يقرأه، ولخطورة هذا الموضوع يجب أن نتفهم معا أنه فى المقام الأول من حق كل مصرى أن يقلق ويشعر بالخطر،وأن يتوجه فورا للمسئولين بما يشعر به من أخطار يراها من وجهة نظره،ولكن اسمح لى أن أسالك على أى أساس تفترض فى المسئول عدم المهنية وقصور النظر بل الإهمال فى بعض الأحيان، ولماذا تظن أنك تملك المعلومة وتنفرد باستقراء المستقبل دون المسئول المقصر من وجهة نظرك على الرغم من أنك لا تملك أى معلومة ولا تعلم أى شىء عن النيات والتحديات والمخاطر والتهديدات ولا حتى الرؤية المستقبلية للدولة التى تتهم مسئوليها بالقصور وعدم الإدراك.

- أتظن أنك فقط الذى يقرأ ويبحث وأنك الوحيد الذى علمت بفقرة بيع الأصول المملوكة للدولة؟ ألم يكفك من استضفته سابقا وأفسحت له المجال ليجزم بأن على مصر أن تسدد 30 مليار دولار قبل نهاية العام الجارى، ثم اعتذر عن عدم دقة الرقم ولم يكن ذلك كافيا بل تتم الاستعانة بمن يرى أن الدولة أفرطت فى مشروعات الطرق والكبارى، وكأن نهج البرنامج إما أن الدولة مخطئة أو أنها لا تدرى شيئا عن ديونها، فضلا عن إفساح الوقت للتحدث عن موضوع شخصى يخص مطربة أليس هذا ما يسمى تزييف الوعى.

- كل المهتمين والمتابعين للشأن المصرى يعلمون أن هناك بعض الأصول سوف تباع، وهذا إجراء تمارسه كل الدول وإلا فمن أين تأتى الاستثمارات الأجنبية، ثم ألم يكن من الأولى بك أن تحث رجال الصناعة والإنتاج أن يضطلعوا بمسئولياتهم الكاملة بدلا من اللجوء إلى الحلول المؤقتة التى لا تتناسب مع هدف الدولة المصرية المتمثل فى تصدير المنتجات المصرية بمبلغ 100 مليار دولار خلال أقرب وقت ممكن.

- فى خمسينيات القرن الماضى، مرت مصرنا الغالية بأزمة مشابهة لما تمر به الآن، ولكن لأن اللحمة المصرية فى الماضى كانت أقوى وأمتن منها الآن التزمت الدولة بسياسة أقرب إلى التقشف فى ذلك الوقت، فقد مورست على مصر ضغوط معينة نتج عنها نقص فى العملة الصعبة (الدولار) بشكل كان يصعب معه تدبير أغلب احتياجاتنا الأساسية ولكن الشعب المصرى البطل لم يستسلم بل قاوم على طريقته الفريدة وذلك باعتماده على شراء واستخدام المنتجات المصرية فقط فى كل مناحى الحياة، وكان من الطبيعى فى هذا الوقت على سبيل المثال أن تجد آلة للحياكة داخل كل منزل، ونجحت مصر وفشلت نيات ومخططات الآخر، ومرت الأزمة على مصرنا العزيزة بسلام.
- وللمصرفى العليم ببواطن الأمور الاقتصادية، ألا تعلم أنك بتوقعاتك واستنتاجاتك غير الدقيقة تسهم بشكل كبير فى اضطراب السوق المضطرب أصلا والذى يقوم فى أغلب تعاملاته على التوقعات غير الدقيقة، وأن عليك مسئولية (الكلمة الدقيقة طبقا لما هو متاح لك من معلومات) تجاه مصرنا العزيزة أولا و القطاع المصرفى الذى
 تعمل به ثانيا.
- ولمن يضارب بالدولار، أنت المسئول عن اطراد السعر وتسهم دون وعى فى ارتفاع سعر الصرف، ومن ثم الارتفاع المبالغ فيه فى الأسعار سعيا وراء ربح مؤقت وأنك تسهم متعمدا أو غير متعمد فى زيادة التضخم بشكل سريع.
- يقدر الاقتصاد الموازى فى مصر بأكثر من 60% من الاقتصاد المصرى ولا حل له سوى الميكنة أو الفاتورة الإلكترونية التى رفض العديد من أصحاب المهن على الرغم من تنوع أعمالهم ومستوياتهم الثقافية الانضمام إليها حتى إن وزير المالية أجل مهلة تسجيلهم بالفاتورة الإلكترونية إلى إبريل من العام القادم، وعندما تتناقش معه لا يجد حجة سوى أنها لا تشمل المصاريف كما أسلفنا وهى حجة واهية، وذلك من وجهة نظرى لأنهم لا يدركون أنه برفضهم الفاتورة سيظل الاقتصاد الموازى موجودا، وأنا لن أسهب فى توضيح فكرة أنه بتعاملك بالفاتورة لن يكون هناك تلاعب بالأسعار أو تقدير مبالغ فيه نظير الخدمة المقدمة، وبالتأكيد ستزيد الحصيلة الضريبية ولن يتهرب تاجر السيارات الذى يرفض إيداع نقوده بالبنك خشية معرفة جهات الاختصاص بنشاطه (تفسيره) .
- ولأولياء الأمور الذين يسهمون بشكل مباشر فى انتعاش الدروس الخصوصية التى تحل رويدا رويدا محل المدارس؛ حيث أصبحت الخيار الأول للطلاب فى ظل عدم تفعيل الغياب بالمدارس وتكاسل أولياء الأمور إلى أن بلغ حجم ما تنفقه الأسر المصرية على الدروس الخصوصية 47 مليار جنيه دون أن تستطيع الدولة إيقافها أو حتى السيطرة عليها، ولا عجب فى هذا، وقد تبدو الأزمة مستعصية على الحل، ولكن بشىء من التدبر والتعقل يمكن السيطرة على هذه الظاهرة التى يمكننا إطلاق تعبير التعليم الموازى عليها نستطيع توفير هذا الرقم الضخم المرهق جدا لميزانية الأسر المصرية بأن نرسل أولادنا إلى المدارس مثلما فعل معنا آباؤنا، فلم نكن نجرؤ على الغياب، وفيما يخص التدريس والتحصيل فيمكن أن نتابع ما تبذله الدولة من جهود ضخمة فى هذا المجال كبنك المعرفة وقنوات مدرستنا، وأخيرا الغرض من إرسال الصغار إلى المدرسة يوميا ليس التعليم فقط بل تعويد الصغير على أن له مهمة يجب إنجازها وأنه ذو أهمية فى مجتمعه الصغير، ولا أغالى إذا قلت إنه هكذا يتشكل الرجال منذ الصغر.
- بماذا تستفيد من متابعة برامج ومنشورات الآخر إلا إذا كنت غير واثق ومتشككا فيمن اخترته وأمنته على الدولة المصرية ولماذا لا تثق، ألا ترى معى كل ما يحدث على الأرض من إنجازات فى الداخل والخارج.        
لماذا كل هذا القدر من الشك والتهويل والتشويش والبلبلة؟ ولمصلحة أى طرف؟ إن المصلحة العليا للوطن تقتضى التكاتف والتلاحم وليس التنظير والاستعلاء والأنانية وتزييف الوعى، ألم تقم الدولة بتوضيح كل ما يتعلق بقانون إنشاء صندوق قناة السويس وأنها تتحدث عن الاستثمار فى الأصول الثابتة والمنقولة وليست القناة نفسها؟ ألم تقم بتثبيت أسعار الكهرباء حتى منتصف 2023 وتتوسع فى برامج الحماية للفئات الأكثر فقرا، وهذا جزء بسيط جدا من رؤية شاملة وضخمة تغطى مصرنا الغالية وتلبى طموحات واحتياجات الشعب المصرى العظيم لا يتسع المقام لذكرها.

ولماذا تجد الدولة ممثلة فى أجهزتها التنفيذية والتشريعية نفسها طوال الوقت فى مرمى سهام النقد والاتهام بواسطة بعض النماذج التى ذكرتها التى تتصرف كأنهم يريدون التأثير فى صناع ومتخذ القرار بغرض فرض رؤية أو منفعة شخصية أو ربح مادى أو لصالح أجندة الآخر أو ...

 إن هذه الأمثلة التى تمر بحالة من عدم الاتزان قد تصل إلى مرحلة التخوين التى تنتهى غالبا بالوصول إلى مرحلة هشاشة الدولة.


رابط دائم: