الجهل صناعة رابحة
11-12-2022

م. زياد عبد التواب
* خبير التحول الرقمي وأمن المعلومات، الرئيس السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء

صدر فى عام 2008 كتاب مهم بعنوانAgnotology: The Making and Unmaking of Ignorance من تأليف روبرت بروكتور وليندا شيبنجر، وهما من أساتذة علوم التاريخ بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأمريكية.

 الكتاب يتحدث عن الجهل ويضع له تعريفات محددة، يتم تعريف الجهل بأنه ليس غياب المعرفة وغياب المعلومات فقط مثلما قد يتبادر إلى الذهن، فالجهل يتخطى هذا إلى المعرفة الخطأ، أى السير فى عكس اتجاه المعرفة تماما، غياب المعرفة فقط هو أمر طبيعى فلا يوجد لا شخص ولا جهة تمتلك المعرفة كلها، فقديما قال بعض الحكماء: "من قال لا أعلم فقد أفتى"، ربما الاعتراف بعدم العلم ينافى الطبيعة البشرية ويصيبها بالانزعاج ويجرح كبرياءها وحرصها على الظهور فى أفضل صورة طوال الوقت. نتندر كثيرا على من تستوقفه من المارة لتسأله عن عنوان معين، قلما تجد من يقول "لا أعلم"، الغالبية سترشدك سواء بعلم أو بجهل، ستعرف هذا من ذاك عندما تصل فى نهاية المطاف إلى العنوان المطلوب.

وعليه، فيمكن إعادة تعريف الجهل بأنه غياب المعلومة السليمة أو وجود معلومات مغلوطة، ربما يمكن إضافة بعض الأمور التى تساعد على تفشى الجهل ومنها كثرة المعلومات وزيادتها على الحد الطبيعى، نعم كثرة المعلومات قد تؤدى إلى نتائج عكسية، وقد تسبب حالة من الجهل الناتج عن الحيرة وإثارة الشكوك، فربما تحدث تلك المعلومات الكثيرة نوعا من الاضطراب، ربما يوجد بها بعض الفرعيات التى تبدو  للوهلة الأولى أن بها تناقضا واختلافا، من أشهر الأمثلة على نقص المعرفة مع زيادة المصادر ما نراه اليوم من انتشار محموم للقنوات الفضائية الذى بدأ مع بداية الألفية الثالثة تقريبا، قارن كم المعارف وأيضا درجة الاستمتاع بهذا العدد المهول من القنوات وما تبثه من أفلام ومسلسلات وبرامج ومباريات رياضية وفنون وثقافة...الخ. قارن ذلك كله بما كنا نحصل عليه قبل ذلك عندما كان عدد القنوات اثنتين فقط، كما أن الإرسال وساعات البث كانت محدودة، لم تكن تستمر على مدار اليوم بأكمله كما يحدث اليوم، لن أتحدث عن عصر الإذاعة مقارنة بعصر التلفزيون لعدة أسباب، منها أن هذه وسيلة مختلفة عن التلفزيون، ولكن مثال عدد القنوات هو مثال كاشف لأن العامل الأساسى هنا هو العدد، عدد المصادر، ومنها يتضح تأثير حجم المعلومات فى المعرفة. بالتأكيد توجد نقطة تعادل هى العدد الأمثل للقنوات والذى بعدها يبدأ منحنى المعرفة فى الهبوط، ولكن بصفة عامة يمكن أن نقول إن زيادة عدد القنوات لم تقابله زيادة فى حجم المعرفة بنفس القدر، ربما لم يزدها على الإطلاق بالنسبة للبعض، ولا أجد أن التأثير العكسى -الإصابة بالجهل- قد حدث للبعض بالفعل.

المثال السابق ذكره والخاص بأن وجود هذا العدد المهول من القنوات الفضائية لم تقابله زيادة فى كم المعارف والمعلومات بنفس القدر ليس هو المثال الوحيد، الشكوك والحيرة تحدثان لمن يكون لديه حد أدنى من المعرفة أصلا، ولكن تكمل المشكلة فيمن ليس لديه أى معلومة على الإطلاق، يمكن أن نعده مثل الصفحة البيضاء، تنتظر من يكتب فيها ما يشاء.

ربما يكون التعبير المناسب للمعلومات المغلوطة هو "صناعة الكذب"، من أشهر ما نطالعه بصورة شبه يومية ما يطلق عليه "أحدث الدراسات العلمية" التى نجدها تتحدث اليوم عن فوائد تناول قرص يوميا من دواء معين، ثم تأتى فى اليوم التالى دراسة أخرى لتحذر من نفس الموضوع. الكثير من الشركات الكبرى تقوم بدعم بعض مراكز الأبحاث من أجل زيادة مبيعات منتجاتها المختلفة، يتم ذلك سواء من خلال صناعة جهل تام أو مجرد فك الارتباطات والقناعات السابقة أو تقليل إيمان الناس واعتقادهم فى بعض المسلمات. فعلى سبيل المثال نجد أن شركات التبغ تنفق الملايين من الدولارات مقدمة لمراكز أبحاث متعددة من أجل أن تقلل من الآثار السلبية للتدخين أو على الأقل لمحاولة فك الارتباط بينه وبين زيادة معدلات الإصابة بأمراض القلب والسرطان. بعض شركات المياه الغازية تقوم بالشىء نفسه لمحاولة فك الارتباط أو لتقليل حدته بين المشروب الذى تنتجه الشركة وبين الإصابة بالسمنة مثلا، يتم ذلك على المستوى الكلى وأحيانا على مستوى مناطق معينة فى العالم، ربما التى حدث بها انخفاض أكثر فى المبيعات أو التى يمكن أن تنجح فيها تلك الحملات لأسباب متعددة، منها ثقافة تلك الشعوب ومدى وعيها أو مدى نشاط الجهات التنموية المختلفة فى حملاتها ضد مسببات الأمراض مثلا.

صناعة الجهل السابق الإشارة إليها معروفة منذ مئات السنين، ربما يكون المغول هم أشهر من استخدموها فى غزوهم للمنطقة من خلال إثارة الرعب والشك والحيرة وإطلاق أخبار كاذبة، تهويلا لقدراتهم وقوتهم وتهوينا من قوة البلاد التى يحاولون غزوها. النوادر والحكايات المرتبطة بالحرب النفسية التى قام بها المغول لا تعد ولا تحصى، تذخر بها كتب التراث والمواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت أيضا.

وبما أن الحديث وصل بنا إلى عصر المعلومات وشبكاته وتطبيقاته فإنه يجب أن نؤكد أن شبكة الإنترنت بوضعها الحالى - والمستقبلى أيضا- وبتغلغل شبكات التواصل الاجتماعى تعد أكبر مصنع للجهل يشارك فيه البشر جميعا، هذا نراه ونلمسه كل لحظة من هذا الكم الكبير من المعلومات والأخبار التى نتفاعل معها كمسلمات، ثم نتجه إلى الفعل بدون تمريرها على العقل والمنطق، فقضية الأخبار المغلوطة fake News  هى إحدى القضايا المهمة التى تتناولها جلسات منتديات حوكمة الإنترنت وغيرها من المنتديات الإعلامية. يكفى أن تعرف إن إحدى الإحصائيات تشير إلى أن 80% من أفراد عينة البحث فى الولايات المتحدة الأمريكية قد تعرضوا لأخبار مغلوطة أو مزيفة، وأن 64% يشيرون إلى أنه قد تحصلوا على تلك الأخبار من خلال شبكات التواصل الاجتماعى، كما أن 10% يشيرون إلى أنه قد أعادوا نشر أخبار زائفة، وأن 50% من المبحوثين يرون أن قضية الأخبار المغلوطة هى قضية خطيرة جدا بالفعل.

على الجانب الآخر، تذخر تلك الشبكات بالكثير من مصادر المعلومات الموثقة والسليمة، ويبقى الجهل الذى يعيش فيه الكثير من المستخدمين هو مجرد اختيار شخصى نتيجة تغييب الوعى وتعطيل العقل.

 


رابط دائم: