توفيق الحكيم والجدل التنويري
11-12-2022

مدحت بشاي
* كاتب صحفى

بعد أن تردد القول الغاضب على ألسنة أهل النغم والطرب حول أغانى  " أحمد عدوية"، بسؤال موسيقار الأجيال" محمد عبد الوهاب "عن رأيه فى النجاح الجماهيرى الهائل لمغنى" السح الدح امبو "أن رد على سؤالهم بسؤال" ألا ترون أن هناك شيئا ما قد مات فى الشعب المصرى"؟!
  وفى هذا السياق، نتذكر مقولة الكاتب الكبير توفيق الحكيم عندما لاحظ حالة الاحتفاء الهائلة بدخول لاعب كرة شهير مبنى الأهرام ووقوف موظفى الاستقبال تحية له، وهو الذى لا يحظى به أى كاتب أهرامي عند دخوله. وعندما علم الحكيم أن بعض لاعبى كرة القدم دون العشرين يتقاضون آلاف الجنيهات فى ذلك الوقت، أطلق عبارته الشهيرة" لقد انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم، لقد أخذ اللاعب الشهير فى سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام إخناتون".
يقول كاتبنا الأهرامى الراحل صلاح منتصر" :ذات يوم فاجأنى توفيق الحكيم بطلب غريب .. أن أكتب له كل ما أريد من أسئلة، وأحضر فى اليوم التالى لأتسلم منه الرد مكتوبا.. وتصورت أنه يبالغ، فهو على فراش المرض وكان لايزال تحت المتابعة والعلاج لأمراض القلب والأعصاب والضغط وهو يعانى متاعب وعكته الصحية الأخيرة، فقلت له ضاحكا، إننى أريد أن أسأله عن أول ما سوف يفعله فى الآخرة.. قلت هذا، وتصورت أن الحكيم لن يأخذ كلامى على سبيل الجد، لكننى فوجئت بعد يومين يُسلمنى ست صفحات من ورق المستشفى، مكتوب عليها بخط واضح خال من الشطب ردا على سؤالى، كتب" :فى الآخرة مع طه حسين"، وقد كتب فيها تصورا كاملا للقائه فى الآخرة مع طه حسين صاحب شعار" التعليم كالماء والهواء"، والحوار الذى جرى بخصوص نتائج هذا الشعار، وتدخل الآخرين الذين حضروا الحوار، ومنهم عباس العقاد ونجيب الهلالى، والغريب روعة ما جرى من حوار تخيلى أجراه الحكيم على ألسنتهم وهو فى عمر الـ 86 سنة مريضاً ويكاد يدرى أنه مرض ما قبل الرحيل" .
كانت تلك السطور بعض ما جاء على لسان" منتصر" وكان قد ضمنها العديد من الأسئلة التخيلية التى عرضها" منتصر "فى كتابه الرائع" توفيق الحكيم فى شهادته الأخيرة" ، رأيت التنويه عنها ليرى القارئ مدى روعة خيال كاتبنا الكبير، ومدى جدية وحزم إدارته لعمله الإبداعى، حتى إنه يبحث كل ساعة عن مثيرات للإبداع لمواصلة رسالته الإنسانية النبيلة حتى وهو يعيش ساعات عمره الأخيرة .
وبتاريخ 2 / 12/ 1985 يطرح الحكيم سؤالا ورد فى مقاله بالأهرام   ": قرأت فى دفترى عبارة أفزعتنى، وسجلتها لأسأل فيها حتى يطمئن قلبى ...عبارة جاءت فى الإصحاح الثانى عشر من إنجيل لوقا قال فيها السيد المسيح :جئت لألقى نارا على الأرض.. أتظنون أنى جئت لأعطى سلاماً على الأرض، كلا أقول لكم بل انقساماً" ..فكيف والمسيح ابن مريم كلمة من الله، جاء ليُلقى ناراً على الأرض .. فكيف يكون الله تعالى هو الكريم، وأنه كتب على نفسه الرحمة، ويقول فى قرآنه إن المسيح كلمة منه ... والمسيح يقول فى إنجيل لوقا إنه جاء ليُلقى ناراً على الأرض؟ وغمرتنى الدهشة وقلت لا بد لذلك من تفسير، فمن يفسر لى حتى يطمئن قلبى؟ وصرت أسال من أعرف من إخواننا المسيحيين المثقفين، فلم أجد عندهم ما يريح نفسى ... أما فيما يختص بالمسيحيين فمن أسال غير كبيرهم الذى أحمل التقدير الكبير لعلمه الواسع وإيمانه العميق .. البابا شنودة .. فهل المسيحى العادى يفطن لأول وهلة إلى المعنى الحقيقى لقول السيد المسيح؟..
هكذا، وبكل شفافية وصدق ونية خالصة من جانب مفكر يبحث عن تفسير لمقطع وآيات من الكتاب المقدس فطرح سؤاله، وكانت إجابة قداسة البابا مطولة ضافية أعرب فى بدايتها عن سعادته بطرح الكاتب الكبير وطلبه الإجابة، وثمن عالياً أن يتيح" الأهرام "الفرصة لمثل تلك الحوارات على ذلك المستوى المحترم واللائق.
  جاء فى معرض رد قداسته:" لست مستطيعا أن أذكر كل ما ورد فى الإنجيل عن رسالة السلام فى تعليم السيد المسيح "فهى كثيرة جدا (ذكرها وعددها قداسته بتفسيراتها ولا يتسع المجال هنا لعرضها (وكمقدمة ينبغى أن أقول إن الإنجيل يحوى الكثير من الرمز، ومن المجاز ومن الاستعارات والكنايات من الأساليب الأدبية المعروفة .جئت لألقى ناراً : وهى قول السيد المسيح" جئت لألقى ناراً على الأرض،  فماذا أريد لو اضطرمت)  لو  (12 : 49إن النار ليست فى ذاتها شراً. وإلا ما كان الله قد خلقها .ولست بصدد الحديث عن منافع النار، ولا عما قيل عنها من كلام طيب فى الأدب العربى . وإنما أقول هنا إن النار لها معان رمزية كثيرة فى الكتاب المقدس :فالنار ترمز إلى عمل الروح القدس فى قلب الإنسان .وقد قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح" هو يعمدكم بالروح القدس ونار) "لو (3 : 16 وقد حل الروح القدس على تلاميذ المسيح على هيئة ألسنة كأنها من نار ( أع (2 : 3 وكان هذا إشارة إلى أن روح الله ألهبهم بالغيرة المقدسة للخدمة، وهذه الغيرة يشار إليها فى الكتاب المقدس بالنار. وهى النار التى أعطت قوة لتطهير الأرض من الوثنية وعبادة الأصنام . وهذه النار هى مصدر الحرارة الروحية، وقد طلب منا فى الإنجيل أن نكون" حارين فى الروح  ) "رو(12 : 11   وقيل أيضا "لا تطفئوا الروح".


رابط دائم: