جدليات الهروب من شبكات التواصل الاجتماعى
4-12-2022

م. زياد عبد التواب
* خبير التحول الرقمي وأمن المعلومات، الرئيس السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء

فى مايو عام 2018 صدر كتاب بعنوان "عشر جدليات لمسح حسابات التواصل الاجتماعى الخاصة بك فورا"، الكتاب بقلم جارون لانيير وهو خبير تقنى وأستاذ جامعى وعازف موسيقى وخبير ذكاء اصطناعى، وهو أبو أنظمة الواقع الافتراضى Virtual reality، عمل فى العديد من شركات التقنية العالمية الشهيرة، وله العديد من اللقاءات التلفزيونية وحضور متميز فى الكثير من المؤتمرات، تحدث فيها عن خطورة شبكات التواصل الاجتماعى وضرورة محو كل الحسابات فورا، وذلك من أجل حياة أفضل للبشرية كلها، بالطبع هو مؤمن بأن هذا شبه مستحيل، ولكنه يحتاج إلى وقت وجهد وعزيمة واقتناع وبداية حملات منظمة لذلك، تماما مثل حملات الإقلاع عن التدخين إدمان الخمور وخلافه.
المؤلف لا يجبر أحدا على أن يقوم بذلك، ويرد على من يسأله إن كان من الأفضل التقليل من الاستخدام بدلا من الإغراق التام أو الابتعاد التام، فتكون إجاباته شديدة الليبرالية،حيث يترك للسائل حرية اختيار ما يريد بناء على مايحس وما يشعر به، حيث يطلب من المستخدمين فقط أن ينتبهوا إلى الأضرار الناجمة، وإلى التغيير الذى تحدثه تلك الشبكات فى تصرفاتهم وانفعالاتهم وأحاسيسهم وتفاعلاتهم مع الآخرين، وإلى أن ينتبهوا إلى التغييرات الأخلاقية والتغييرات العقائدية التى يمكن أن تحدث لمعتقداتهم السياسية والدينية من جراء استخدام تلك الشبكات والإدمان عليها.الكتاب يقع فى 160 صفحة باللغة الإنجليزية، والآن دعونا نشر إلى الجدليات المطروحة باختصار:
• الجدلية الأولى: أنت تخسر إرادتك الحرة، هذا ببساطة لأن الاستمرار فى تلك الشبكات يؤثر فى إرادتك ويوجهك لأن تتبنى أسلوبا معينا فى التفكير والتصرف، ويظهر هذا بصورة واضحة فى الجوانب المرتبطة بثقافة الاستهلاك ومدى التأثر بعروض السلع الاستهلاكية والإحساس بمدى الحاجة لها، وهو إحساس يتسرب داخلك تدريجيا حتى يسيطر عليك تماما، وهو فى الأغلب إحساس زائف غرضه ترويج المنتجات والحصول على ما لديك من أموال،فكنت تعيش دون تلك المنتجات، ولم يكن هناك احتياج حقيقى لاقتنائها، وللأسف هذا يحدث فى أمور أخرى كثيرة.

• الجدلية الثانية: الخروج من تلك الشبكات هو التصرف الأسلم للبعد عن جنون العصر؛ حيث يفترض أن العصر الحالى هو عصر الجنون،ربما يمكن أن نرى اتساقا بين هذه الفكرة وما أتى به المفكر المصرى الكبير الدكتور مصطفى محمود فى كتابه المعنون "هل هو عصر الجنون؟" حيث يشير فى هذا الكتاب الصادر فى عام 1983 إلىأن العصر الحالى هو عصر الجنون،جنون الأفكار، جنون الشهوة، وجنون الاستهلاك، والموضة، والتواصل، والتباهى، وخلافه.الكتاب يتحدث عن التأثيرات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعى ودفعها للمستخدمين نحو هاوية الجنون وعدم العقلانية فى الأفكار والمعتقدات وأساليب التواصل والموضوعات المطروحة للنقاش، وهو أمر يستطيع المنضم حديثا إلى تلك الشبكات أن يشعر به ويلمسه بسهولة، تلكم الخطورة فى أنه بعد أسابيع قليلة من الانغماس فى هذه الشبكات يتحول هذا القادم الجديد-المندهش- إلى عضو جديد فى هذه الشبكة التى تعج بالمجانين.

• الجدلية الثالثة: شبكات التواصل الاجتماعى تجعلك أكثر غباء، هذا يتسق مع الجدليتين السابقتين، فعدم قدرتك على التفكير بعقلانية وبحرية يسهمان فى جعلك أقل ذكاء، وتسهم أيضا فى زيادة نسبة التفاهة، فمن غير المعقول أن تستمر محتفظا بقدراتك العقلية فى محيط من الأغبياء أو محدود الذكاء، ولنا فى مسرحية الكاتب الكبير توفيق الحكيم "نهر الجنون" المثل الواضح، فالمسرحية تتحدث عن مملكة أصيب كل أفرادها بالجنون من جراء شربهم من ماء النهر ماعدا الملك والوزير اللذين يستمران فى حوار فكرى طويل يبثان فيه معاناتهما من التعامل مع بافى أفراد المملكة، وتنتهى المسرحية بأن الحل الوحيد أمامهما هو أن يشربا من ماء النهر أيضا وهو ما حدث بالفعل.

• الجدلية الرابعة: التواصل الاجتماعى يزيف الحقيقة،وأحيانا أخرى يخفف من وقعها وتأثيرها، كما يقوم بالمبالغة فى وقع وتأثير أحداث أخرى أقل أهمية وخطورة. هذا نلاحظه يوميا وخاصة عندما نحتك بموقف فى الواقع ثم نراه على تلك الشبكات ونستعجب من أسلوب التناول والتضخيم والتهويل أو التقليل والاستهانة، أما أن يكون الخبر مختلقا بالكامل فتلك قضية أخرى تحدث كثيرا أيضا.

• الجدلية الخامسة: شبكات التواصل الاجتماعى تجعل ما تقوله بلا معنى، سواء بتأثيرها فى قدرتك على الحديث وإدارة الحوار أو لأنك لا تتحدث بنفس أسلوبها، وذلك فى مرحلة المقاومة، وتلك المرحلة التى تسبق الاستسلام، وفى هذه المرحلة يكون ما تقوله هو ما تراه أصلا على تلك الشبكات وتعيده مرة ومرات بصور مختلفة ومملة، كما أنها تؤثر فى قدرتك على التفاعل الطبيعى مع الآخرين من حيث الإحساس بعدم الارتياح أو الإصابة بالضجر سريعا أو عدم القدرة على انتقاء الألفاظ المناسبة لتوصيل فكرتك.

• الجدلية السادسة: شبكات التواصل الاجتماعى تدمر قدرتنا على التعاطف الإنسانى، لاحظْ تفاعلنا مع أخبار الموت أو الأخبار السلبية التى نتعرض لها وكيف نشعر بالآخرين اليوم، وكيف كنا نشعر ونتفاعل قبل ظهور تلك الشبكات، فتكرار التعرض للمشاهد الدامية والصادمة يصيب الوجدان بنوع من الصدمة والجرح اللذين سرعان ما يتحولان إلى نوع من البلادة وقلة الشعور، تماما مثلما تجد الحانوتى يقوم بتغسيل ميت وهو يفكر فيما سيحصل عليه من أجر أو ما سيتناوله من غذاء بعد أن يفرغ من مهمته، أو رؤيتك لحفارى القبور وهم يحفرون قبورا جديدة ويغنون إحدى الأغانى العاطفية أو يلقون النكات الساخرة.

• الجدلية السابعة: شبكات التواصل الاجتماعى تجعلك أكثر تعاسة، فأنت تقوم أغلب الوقت فى  مراقبة ما ينشره الأصدقاء لديك، فتجد أحدهم قد ابتاع سيارة جديدة أو سافر إلى شاطئ أنيق أو على الأقل يبتسم ابتسامة عريضة لا تستطيع أنت القيام بها، ما يصيبك بالتعاسة والاكتئاب،وهو ما تشير إليه الدراسات بوضوح مقارنة بمن لا يستخدم تلك المنصات على الإطلاق.

• الجدلية الثامنة: هذه الشبكات لا ترغب فى جعل المستخدمين يتمتعون بأى تفكير اقتصادى، انفتاح شديد وإغراق استهلاكى، ربما تشعر بأنك أقل من الجميع اقتصاديا مثلما تفعل بك فى الجدلية السابقة حين تصيبك بالتعاسة وتشعرك بأن الجميع أكثر منك سعادة، وهذا يتسق أيضا مع الجدلية الأولى؛ فغياب الإرادة الحرة يدفعك إلى أن تتحول إلى كائن استهلاكى شره بغض النظر عن العواقب المترتبة على ذلك.

• الجدلية التاسعة: شبكات التواصل الاجتماعى تجعل السياسة أمرا مستحيلا؛ لأنها منصات يمكن من خلالها ممارسة السياسة بأساليب غير مقبولة فى الحياة العادية، ومنها على سبيل المثال استخدام ألفاظ سوقية وأكاذيب لا يصدقها طفل، ولكن للأسف تجد لها صدًى داخل تلك الشبكات ما يجعل المستخدمين يعتقدون أنهم متابعون جيدون للشأن السياسى، ولكن فى حقيقة الأمر هم متابعون جيدون لنشرات سياسية متعددة تستنزف طاقتهم ولا تعبر عن الصورة الكلية التى يغفلون عن الإلمام بها أو الإحساس بوجودها أصلا.

• الجدلية العاشرة: شبكات التواصل الاجتماعى تكره روحك،فأنت تخرج منها مكتئبا شاعرا بالبؤس وبأن الآخرين أكثر سعادة وغنى وذكاء وجمالا، وأنك الأخير فى كل شىء، وهذا يؤثر بشدة فى الحالة الروحية والنفسية، ما يتسق مع الجدلية السابعة،فالإحساس بالتعاسة هو إحدى مقدمات الإصابة بالاكتئاب.


رابط دائم: