المسكوت عنه فى تداخل الإنترنت والسياسة
28-11-2022

م. زياد عبد التواب
* خبير التحول الرقمي وأمن المعلومات، الرئيس السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء

يعتقد المستخدم العادى لشبكة الإنترنت منذ اليوم الأول للاستخدام، وبناء على تعريف شبكة الإنترنت، بأن كل ما هو موجود على تلك الشبكة من بيانات ومعلومات وأخبار وقواعد بيانات وتطبيقات، إنما هى متاحة للجميع، أى أنه كمستخدم يستطيع الوصول إلى أى من تلك المواد المنشورة، وأنه يستطيع بسهولة التواصل مع أى مستخدم آخر بأى من وسائل التواصل المتعددة، هذا الاعتقاد يتغير مع الوقت وكثافة الاستخدام ليكتشف أن المواد المنشورة تنقسم إلى مواد مجانية يستطيع الوصول إليها والاطلاع عليها بدون أى تكلفة من خلال ظهورها كنتائج لمحركات البحث، ما يطلق عليها الويب السطحى Surface Webتلك التى تلبى الاحتياجات البسيطة فى المعرفة والتعلم والتواصل، ثم يكتشف أن هناك مستويا ثانيا من تلك المواد المنشورة يتطلب نوعا من الاشتراكSubscription  سواء اشتراك مجانى -لمدة محددة- أو اشتراك مدفوع يجدد بصورة دورية-فى الغالب كل عام- وذلك ليتمكن من الاطلاع على تلك المواد المتخصصة، ومنها على سبيل المثال، بعض الصحف والمجلات والدوريات أو بعض المنصات الإعلامية الإخبارية، أو بعض المنصات التى تقدم مواد درامية، مثل الأفلام والمسلسلات أو قواعد البيانات الأكاديمية، أو المالية أو القانونية، أو بعض التقارير الحكومية أو العلمية المتخصصة وهى التى يمكن الوصول إليها أيضا من خلال محركات البحث، ولكن لن يمكن الاطلاع عليها إلا بعد القيام بالاشتراك فيها، وهذا الجزء من الإنترنت يطلق عليه الإنترنت العميق Deep Web.

بعد ذلك يتعرف المستخدم على أن شبكة الإنترنت قد تستخدم لممارسة بعض الأعمال المجرمة قانونا كتجارة السلاح غير المشروعة أوفى تهريب المخدرات أو تجارة الرقيق أو غسل الأموال وغيرها من الأنشطة، ثم ما يلبث أن يصطدم بمصطلح الويب المظلم Dark Web وهى منطقة من الإنترنت لا يستطيع الوصول إليها من خلال متصفحات الإنترنت العادية، ولا يمكنه البحث عنها من خلال محركات البحث المعروفة بل إن لهذا الجزء من الإنترنت متصفحات خاصة Tor browsers  ونظاما آخرفى تعريف المستخدمين وبروتوكولات التواصل فيما بينهم، ثم مع بعض الإمعان فى الأمر يكتشف أن الإنترنت العميق والإنترنت المظلم يشكلان نحو 96% من إجمالى المحتوى الموجود على تلك الشبكة، وأن الجزء الذى يراه كل يوم من الويب السطحى لا يتعدى حجمه 4% من إجمالى المحتوى الموجود.

بعد ذلك أوفى أثنائه يكتشف المستخدم أن بعض المواقع لا يمكنه الدخول عليها، ومع السؤال يعرف أن السبب هو وجود نوع من الحماية-يطلق عليه الحوائط النارية Firewalls- التى تمنع وصوله إلى هذا الجزء من المحتوى، وأن تلك الحوائط النارية قد تستخدم على مستوى المؤسسات والشركات أو على مستوى الدول ويستطيع أيضا معرفة أن بعض المواقع العامة مثل موقع اليوتيوب يحظر دخوله ومشاهدته لبعض مقاطع الفيديو المصورة نتيجة نوع من أنواع الحظر طبقا للدولة التى يستخدم الإنترنت منها، كما يستطيع أيضا التأكد من أن بعض المواقع الإلكترونية تكون أسرع فى الاستدعاء من مواقع أخرى، وهنا يعزو هذا الأمر إلى بطء الشبكة الموجود بها هذا الموقع، ولكن عند التجربة فى دولة أخرى يجد الموقع يعمل بكفاءة وسرعة ولا يستطيع تحليل هذا الأمر، ويبدأ فى الشك فى سرعة الإنترنت المحلية فى الدولة الأولى، كما يتعرض أيضا لما يطلق عليه Internet outage  أى انقطاع تام لخدمة الإنترنت فى منطقة أو دولة ما، ويتابع الأخبار المرتبطة بهذا الأمر فيجد أن بعض المؤسسات أو الحكومات تقوم بذلك بين الحين والآخر لأغراض متعددة منها السياسية، ومنها ما هو مرتبط ببعض المحددات القانونية أو المحاذير الاجتماعية أو تلك المرتبطة بموقف ما أو لخدمة غرض ما، وهو ما يجد بعض المنظمات التى تقوم بمراقبة تلك الانقطاعات والإعلان عنها مع سيل من الاعتراضات والاتهامات لمؤسسة أو لدولة بأن ذلك مخالف لقواعد الاستخدام والحق فيه الذى من المفترض أن يكون مكفولا للجميع بصورة متساوية، الأمرالذى قد يستغل كأداة للضغط على المستويين السياسى أوالاقتصادى، ويترسخ لديه اعتقاد بأن هذا الأمر لا يتم فى الغرب وإنما هو أحد الأمور المعتادة فى دول العالم الثالث فقط وهو ما يثبت عدم صحته مع الوقت، ومع انتشار أخبار عن حدوث هذا الأمر فى الغرب المتقدم أيضا، فعلى سبيل المثال أصدر أحد المراكز البحثية بمدينة هامبورج الألمانية ورقة بحثية موجهة إلى البرلمان الأوروبى تقترح قيام دول الاتحاد الأوروبى بوضع مجموعة من الحوائط النارية Firewalls على حدود الشبكة لمنع وصول مستخدمى دول خارج الاتحاد وخاصة تلك الدول التى لا تراعى مبادئ الديمقراطية وقواعد حماية البيانات والشفافية وقواعد حرية إتاحة البيانات وتداولها.

هذا الاقتراح الذى وصفه البعض بأنه مضاد الليبرالية من خلال ما يقترحه من قيود التى ربما تقترب من النموذج الصينى المطبق حاليا فى التعامل مع شبكة الإنترنت الذى يشمل حجب العديد من المواقع والخدمات عن المستخدمين داخل الصين، وأيضا إنشاء مجموعة من التطبيقات –مثل ال وى شات Wechat- التى لم يتم السماح باستخدامها من خارج البلاد عند بدء عملها وهو ما تغير مؤخرا أيضا.

والغريب أن هذا المقترح تم طرحه على الرغم من أنه يخالف قواعد الاتحاد الأوروبى فى استخدام الإنترنت بشكل مفتوح open Internet Rules وهى التى تحظر على شركات الإنترنت أن تقوم بحجب أو إبطاء الوصول إلى أى موقع من مواقع الإنترنت المستضافة فى أى من دول الاتحاد فيما هو معروف بتعادلية الإنترنتNet Neutrality ، ولكن فى الحقيقة نجد أن بعض مواقع الإنترنت وخدماتها ليست متاحة للجميع وبنفس إمكانية الوصول وسرعته، كما أن أحد مظاهر عدم التعادلية أن تجد بعض المواقع التجارية أسرع من مواقع أخرى، الأمر الذى يجعلك تلقائيا تفضل التعامل مع المواقع السريعة وتصاب بالضجر والضيق من المواقع البطيئة فتتركها.

هذا الأمر مشابه لأسلوب وضع البضائع فى المحال الكبرى، فما يوضع عند المدخل سيكون له الحظ الأكبر فى المشاهدة والمعاينة وربما الشراء أيضا من قبل الزبائن مقارنة بالبضائع التى توضع فى نهاية المتجر التى ربما يغادر الزبائن بدون معاينتها أو المعرفة بوجودها على الإطلاق.

بداية شبكة الإنترنت كانت تتسم بقدر كبير من الحرية التى سمحت للمستخدمين قدرا كبيرا من حرية التعبير، ومن الوقاحة والتجاوز أيضا وهى أمور بدأت فى التلاشى بعد زيادة الاعتمادية على الشبكة فى العديد من المهام الحيوية والمهمة، وتطور الأمر إلى أن أصبح العالم الافتراضى هو الأصل فى التعاملات المختلفة، الأمرالذى حتم وجود هوية موثقة لكل مستخدم والعديد من القواعد والقوانين المنظمة لكل تلك المعاملات. ولكن يبدو أن الأحاديث الرسمية لا توضح الوجه الحقيقى للتلاعب الذى يتم على تلك الشبكة، وأيضا كم الحجب لمواقع بعينها لحرمان مناطق حول العالم من الاطلاع على محتواها والاستفادة بما فيها، وهى قضية فى تقديرى أنها لن يمكن حسمها والوصول فيها إلى تطبيق حقيقى لما تتزين به التصريحات الرسمية والقواعد التنظيمية المعلنة.


رابط دائم: