مبدأ السيادة "المطاطة"
28-11-2022

وليد عتلم
* باحث دكتوراه ـــ كلية الدراسات الأفريقية العليا

مفاهيم وتعريفات "السيادة الوطنية" و"الدولة" شأنها شأن جل تعريفات العلوم الاجتماعية والسياسية، حيث لا يوجد تعريف واحد جامع مانع لها، لكن توجد تعريفات اتفق عليها بين باحثى العلوم السياسية والقانونية. وقد شكلت نهاية الصراع فى أوروبا عقب معاهدة وستفاليا سنة 1648، بداية لميلاد القانون الدولى الأوروبى ثم المعاصر، بعد أن أقرت بمبدأ السيادة الوطنية للدول بوصفها سلطة الدولة العليا والمطلقة على إقليمها، أى حق الدولة فى ممارسة وظائفها وصلاحياتها واختصاصاتها داخل إقليمها القومى دون تدخل من أى دولة أخرى. تشكل السيادة أحد الأركان الجوهرية التى تبنى عليها نظرية الدولة فى الفكر السياسى والقانونى، كما تعد من المبادئ الأساسية التى يقوم عليها بنيان وصرح القانون الدولى والعلاقات الدولية المعاصرة.

يعد المفكر الفرنسى "جان بودان" المنظر الأهم لفكرة السيادة، حيث أدت إسهاماته دورا محوريا فى بلورة مبدأ السيادة الوطنية كما أقرته معاهدة وستفاليا لسنة 1648، وقد ذهب "جان بودان" فى كتابه "الكتب الستة للجمهورية" إلى تعريف السيادة بأنها: "السلطة العليا التى يخضع لها المواطنون والرعايا ولا يحد منها القانون"، ويعد بودان السيادة غير قابلة للتجزئة وهى مرتبطة بالدولة ارتباطا وثيقا، أى أنها دائمة مع دوام الدولة ولا تزول إلا بزوالها، وهى مطلقة على أساس أن الدولة تمارسها بلا قيود، وهو ما ينقلنا إلى خصائص السيادة؛ حيث اتفقت الدراسات القانونية والسياسية على إقرار نحو خمس خصائص رئيسية للسيادة الوطنية، وهى: أنها سيادة شاملة، غير قابلة للتنازل، وأنها سيادة دائمة غير قابلة للتجزئة. وهى بذلك تنطوى على بعدين رئيسيين؛ الأول: هو أن للدولة سلطة مطلقة فى مواجهة رعاياها فى الداخل. والثانى:أن الدولة لا تخضع لسلطة أعلى منها فى مجتمع الدول.

فالسيادة مفهوم قانونى- سياسى يتعلق بالدولة بوصفها تشكل أحد أهم خصائصها وشروطها الأساسية، كما تعد من المحددات السياسية والقانونية المركزية لمفهوم الدولة الوطنية، ومن خلالها يتجسد واقعيا الوجود القانونى والسياسى للدولة كعضو فى المجتمع الدولى، كما يتجسد أيضا بموجبها الاستقلال الوطنى للدولة، ومساواتها مع الوحدات والكيانات السياسية الأخرى المشكلة للنظام الدولى. لذلك نجد أن "سلام وستفاليا 1648"Westphalia of Peace،أقر مجموعة من الترتيبات المؤسسية، عبر إقرار مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية، وذلك فى إطار ما يعرف بثلاثية وستفاليا.

لذلك؛ فالسيادة الوطنية على هذا النحو، تلتقى والدولة كمفهوم قانونى، حيث إن الدولة وفقا لفقيه القانون الدولى إيان براونلى، تشمل، إضافة إلى عناصرها الثلاث الرئيسية الممثلة فى: الشعب، الإقليم، والسلطة، الاعتراف الدولي، وهو اعتراف بالسيادة، أى أنه اعتراف من جانب المجتمع الدولى بسيادة هذه الدولة وممارسة حكومتها للسلطة الفعلية.

ميثاق الأمم المتحدة أكد أيضا سيادة الدولة الوطنية، حيث نصت المادة 1/2 من الميثاق على أن "تقوم الهيئة على مبدأ المساواة فى السيادة بين جميع أعضائها"، واتصالا بذلك المبدأ الوارد فى الفقرة 2 من المادة 7 من ميثاق الأمم المتحدة، التى تنص على أنه ليس فى الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل فى الشئون التى تكون من صميم السلطان الداخلى لدولة ما، بما يعنى أنه بموجب مبدأ المساواة فى الحقوق وتقرير المصير للشعوب الوارد فى ميثاق الأمم المتحدة، وجميع الشعوب الحق، بحرية ودون تدخل خارجى، لتحديد وضعهم السياسى والسعى لتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والتنمية الثقافية، وأنه على كل دولة واجب احترام هذا الحق وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.

غير أن مجال ومدى وحدود تلك السيادة أصبحت محل التطور والتغيير، إلى الحد الذى يمكن وصفها بـ "المطاطة"، تخضع لازدواجية الرؤى والمعايير؛ أسهم فى ذلك؛ التطور التكنولوجى المتسارع، الذى نتج عنه تحولات جذرية فى مفهوم سيادة الدول ضمن حدودها الإقليمية المعروفة تاريخيا، لمصلحة حدود جديدة أسهمت بسهولة فى انتهاك سيادة الدول وزعزعة أمنها واستقرارها، فالجماعة الأوروبية ومؤسساتها انتفضت فى مواجهة روسيا انطلاقا من ثوابت مبدأ "السيادة الوطنية" لدولة أوكرانيا. وهى الجماعة ذاتها التى دأبت على التدخل فى الشأن الداخلى المصرى من آن لآخر متجاهلة المبدأذاته، ذلك رغم أن مصر أول من عرفت مفهوم الدولة بشكلها المعاصر وبعناصرها القانونية والسياسية منذ قديم الأزل. ما يعنى أن تلك الدول والمؤسسات تكيف المفاهيم، وتطوع تلك المصطلحات والتعريفات (غربية الأصل والمنشأ) وفقا لأهوائها ومصالحها.

هنا يتعرض مبدأ "السيادة الوطنية" لما يطلق عليه ظاهرة "التدويل" كمفهوم منافس للسيادة وينتقص منه، حيث تتدخل جهات ومؤسسات خارجية بذريعة أو بأخرى فى مسائل تعد من قبيل الاختصاص الأصيل لسيادة الدولة.

من أبرز تلك الذرائع للتدخل فى شئون الدول؛ الأجندة المزعومة لحقوق الإنسان، حيث التقارير الغربية لا تزال تعكس جهلا غربيا وأمريكيا بماهية الأوضاع وواقعها فى مصر، وأن عديد الدوائر الأوروبية لا تزال تتأثر بالتقارير المغلوطة حول حالة حقوق الإنسان فى مصر.

استمرار الأحكام والمدركات الغربية السلبية وغير الحيادية لطبيعة الأوضاع فى مصر؛ دلالة على أن العقل الغربى مستمر فى التعامل مع الآخر بمنطق الفصل والهيمنة، فمنذ انتهاء الحرب الباردة؛ الجماعة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية تسعيان إلى فرض الأيديولوجية الرأسمالية مجسدة بالأساس فى مفاهيم واقترابات الليبرالية السياسية، حيث الأجندة الغربية المزعومة لحقوق الإنسان ما هى إلا توجهات "نخبوية" تركز فى الحقوق على الحقوق السياسية فقط، مثل: حق وحرية التعبير عن الرأى ـــــ أيا ما كان هذا الرأى وانعكاساته ــ حرية التجمع والتظاهر، وحق التصويت والترشيح، وعدم الاحتجاز دون محاكمة. فى مقابل ذلك تتجاهل الرؤى الغربية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعوب، وهى بهذا المعنى أجندة نخبوية من جانب؛ تسعى لإرضاء واستمالة نخب بعينها، سياسية كانت أو ثقافية، دون الأخذ فى الأساس الحقوق الأساسية للشعوب. التطبيق الأبرز على ذلك فى الواقع العربى والإفريقى فرض برامج التكيف الهيكلى من المؤسسات الاقتصادية الدولية ــالمهيمن عليها غربيا وأمريكيا ـ وما نتج عنها من تراجع كبير لدور الدولة عن التزاماتها الاجتماعية فى المجالات الأساسية، كالتعليم والصحة، وانصرافها بالتركيز إلى قضايا التعددية الحزبية، الانتخابات، وتداول السلطة.

ومن جانب آخر، فإن هذه الأجندة الغربية لحقوق الإنسان تنطلق أيديولوجيا من القيم العليا للنظرية الرأسمالية؛ على وجه الخصوص قيمة الحرية انطلاقا من المرجعيات والثقافات الأوروبية، بما يعنى الانفلات والثورة على كل قيد، حتى لو كانت تلك القيود والضوابط تتعلق بالمصالح الوطنية للشعوب ووحدة واستقرار الدول. وهى بذلك تتجاهل المرجعيات والضوابط الأخرى للحرية، المتعلقة بطبيعة وخصوصية المجتمعات والشعوب العربية والإفريقية، هذه النقطة بالتحديد أكدها الرئيس السيسى، وولى عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان خلال قمة جدة مع الرئيس الأمريكى، وهو ما يأخذنا للجانب الثالث من القضية.

فالغرب الذى ينادى دائما بالديمقراطية والحكم الجيد الذى يفترض احترام الآخر واحترام ثقافاته، عاداته وتقاليده، هو نفسه وبأسلوب ديكتاتورى مناقض للديمقراطية، يفرض وجهة نظره ورؤيته للحريات وحقوق الإنسان، وعن دون فهم كامل للواقع الاقتصادى والاجتماعى للمجتمع المصرى، وما لذلك من نتائج كارثية على المجتمع، والتجربة فى يناير 2011 خير شاهد ودليل. ثم كيف يفسر لنا الغرب تعاطيه نفسه مع قضايا الحريات داخله، ولنتذكر جميعا كيف تعاملت الولايات المتحدة مع اقتحام مثيرى الشغب من مؤيدى الرئيس الأمريكى السابق للمقر الرئيسى للسلطة التشريعية الاتحادية فى الولايات المتحدة الأمريكية (الكابيتول) اعتراضا على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ورفضالها؟

لذلك، فالمدركات الغربية لواقع حقوق الإنسان على هذا النحو، لا تعدو أن تكون حقا يراد به باطل، كما أن التصورات الغربية للحريات والحقوق وتطبيقاتها ما بعد الحرب الباردة أثبتت أن الغرب يستخدم هذه الأجندة المزعومة لتحقيق مصالحه فقط، والأمثلة فى العراق، وليبيا، وسوريا، والسودان، وغيرها من الدول ليست ببعيد. وإلا فلماذا يقتصر الطرح الغربى فقط على حقوق الإنسان دون الحديث عن واجباته تجاه وطنه ومجتمعه.


رابط دائم: