الذكاء الاصطناعى بين الشركات والحكومات
21-11-2022

م. زياد عبد التواب
* خبير التحول الرقمي وأمن المعلومات، الرئيس السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء

خلال السنوات القليلة الماضية ازدادت موجات التعرض لمصطلح ومفهوم الذكاء الصناعى بشكل لافت،وعلى الرغم من أن المفهوم والمبادئ العامة ليست جديدة، فالبداية كانت عام 1943 عندما بدأ الحديث عن الشبكات العصبية (neural networks)، فإن الذكاء الاصطناعى كمفهوم لم يتبلور إلا عام 1956 خلال إحدى ورش العمل التى تدعى  Dartmouth Workshop والتى يمكن عدَّها الميلاد الحقيقى لمفهوم الذكاء الاصطناعى من خلال طرح فكرة بسيطة مفادها أنأيا من خصائص التعلم أو الذكاء يمكن توصفيها بدقة، ومن ثم يمكن توجيه الآلة-الحواسب الآلية-لمحاكاتها بدقة.

استمرت الفكرة فى التطور على مستوى المفهوم والإجراءات والعمليات، وكذا أيضا على المستويينالتقنى والتنفيذى،وذلك فى شكل موجات من الصعود والهبوط إعلاميا وتجاريا وتطبيقيا أيضا. حتى وصلنا إلى الألفية الثالثة التى امتازت باتساع نطاق تغطية الشبكات وزيادة التطبيقات الرقمية ورخص تكلفة اقتناء الحواسب الآلية مع زيادة قدراتها الحسابيةProcessing Power  وسعاتها التخزينيةStorage Capacity  أيضا ما سمح بتخزين هذا الكم الهائل من البيانات والمعلومات تلك التى تعد الوقود الرئيسى اللازم للعمل.

أما أبسط تعريف للذكاء الصناعى فهو عبارة عن قدرة الآلة على استرجاع البيانات الهائلة المخزنة ومقارنتها بعضها ببعض وإيجاد علاقات بينية مباشرة وغير مباشرة بينها، ومن ثم، الوصول إلى نتائج جديدة، كما أنمبدأ تعلم الآلةMachine learingيمكن وصفه بأنه قدرة الآلة على التعرف على العالم المحيط، وإضافة خبرات جديدة لها، واتخاذ القرارات أحيانا دون الرجوع إلى العنصر البشرى؛ حيث يتم توسيع قاعدة التعريف لتشمل قدرة الآلة على التعلم والمقارنة والتفاعل مع الجديد من حولها بدون إضافاتلأى معارف جديدة من قبل الإنسان، أى قدرتها على التفاعل مع المستجدات التى لم تكن موجودة وقت بداية وضع الآلة فى البيئة المتفاعلة معها؛ فالآلة تعتمد على برمجيات، يطلق عليها أحيانا لفظ خوارزميات، وقواعد بيانات يتم تحليلها من خلال مجموعة من القواعد والأطر تصل من خلالها إلى نتائج، ثم تقوم الآلة بتنفيذها بصورة تلقائية، وهو أمر مشابه لطبيعة الإنسان، ولكن الغرابة تأتى من الفكرة القديمة لدينا عن الآلة والبرمجيات، تلك الفكرة التى تعدالبرمجيات الحديثة مجرد أداة تقوم بتنفيذ ما يطلب منها بواسطة الإنسان بشكل مباشر، وهو ما يختلف كثيرا فى حالة الذكاء الصناعى.

المثال الأشهر على تعلم الآلة ما نراه فى السيارات ذاتية القيادة، التى تبدأ بعدد من القواعد الأساسية للقيادة وتزود ببيانات عن الطرق وإبعاد السيارة وقواعد المرور وخلافه، ثم نجد أن كفاءة عملية القيادة تتطور مع الوقت بناء على عدد الساعات الفعلية التى تتحرك فيها وعلى ما تصادفه من مواقف مختلفة وهو أمر مشابه تماما للسائق البشرى؛ حيث يمكن مقارنة أسلوب وكفاءة القيادة بين أول مرة يجلس خلف عجلة القيادة، وبعد مرور مدة زمنية من ممارسة الفعل، ولا يقتصر هذا التطور، أو فلنقل التعلم، على السيارات ذاتية القيادة فقط بل يشمل أيضاالطائرات المسيرة التى تعرف بالـDrone، وبرامج التشخيص التلقائى للأمراض، وقراءة صور الإشاعات، أو قراءة تقارير التحاليل الطبية، وغيرها من المجالات، مثل القدرة على نظم قصائد أدبية، أو إصدار مقطوعات موسيقية، كما نراها أيضا فى العديد من الألعاب الإلكترونية، أو استخداماتها فى أنظمة التأمين الإلكترونية، وأنظمة حجب المواقع، والبريد الإلكترونى غير المرغوب فيه Spam and content filtersوأنظمة صد الهجمات السيبرانية وأنظمة الدفاع أيضا.

ربما يشعر رواد شبكات التواصل الاجتماعى بما تقوم به هذه الأنظمة من تحليل لردود فعل المستخدمين ومراقبة أنماط الاستخدام المختلفة وصولا إلى التعليقات وعلامات الإعجاب والمجموعات التى يتم الاشتراك فيها ومقاطع الفيديو التى يشاهدونها وغيرها من الأنشطة؛ حيث يتم بعد ذلك الخروج بمقترحات لما يجب أن يتم نشره والذى سيحقق أعلى عائد،أوأكبر عدد من المشاهدات له، وهو ما يصيب المستخدمين بنوع من الدهشة والانبهار، جعل البعض يعتقد أن تلك الأنظمة تقرا أفكارهم، وفى الحقيقة إنها تفعل أمرا مشابها لقراءة الأفكار بالفعل، فهذا التحليل العميق قادر على توقع ما يحبه المستخدمون، وما الخطوات المستقبلية لهم وذلك بدرجة دقة عالية.

أما عن الأغراض والأسباب،فإن الأمر ربما يكون قد بدألأغراض تسويقية واقتصادية، ولكنه تخطاه الآن إلى تحليل الحالة النفسية والمزاجية، وأولويات الاهتمامات على المستويات المختلفة، وهو ما تجد أكثرأجهزة الاستخبارات صعوبة كبيرة فى الوصول إليه بنفس درجة الدقة باستخدام الوسائل التقليدية والقديمة.

الذكاء الاصطناعى والحكومات الذكية:

أما على مستوى الحكومات التى يمكن أن نطلق عليها الحكومات الذكية فإن تعبير "الذكاء" يسهم فى تحقيق تلك الحكومات لأهدافها التى تأتى على رأسها حسن إدارة الموارد، وتحقيق قدر من الرفاهة لمواطنيها مع تسهيل الإجراءات، وتقديم الخدمات بسهولة ويسر، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، الحديث عن الشباك الواحد لتقليل الإجراءات وحوكمة العمليات، وكما أنإحدى ركائز مكافحة الفساد تعتمد بصورة أساسية على تقليل العامل البشرى وتقليل التعامل بين مقدم الخدمة ومتلقيها وهو ما يتحقق كثيرا عند اعتماد وتوظيف أدوات التحول الرقمى المتطورة.

والراصد لهذا الأمر يعرف أناستخدام الحكومات للذكاء الصناعى ليس بالجديد، فعلى سبيل المثال ومنذ التسعينيات من القرن الماضى تعتمد عليه الولايات المتحدة الأمريكية فى العديد من الأنشطة والمهام منها، وأبسطها القدرة على قراءة العنوان المكتوب على الخطابات البريدية وتوجيهها إلى أقرب مكتب بريد أوتوماتيكيا دون تدخل بشرى فى عمليات الفرز.

وبالنظر بصورة أكثر اتساعا نستطيع أن نحدد ستة مجالات أساسية يمكن استخدام الذكاء الصناعى فيها لمعاونة الحكومات لتقديم خدمات أفضل، وللقيام بمهامها بكفاءة وفاعلية أكبر، وهى:

1- تخصيص الموارد Resource Allocation، وهذا هو بيت القصيد للحكومات والشركات والأفراد أيضا، كيفية تخصيص الموارد المتاحة بأفضل أسلوب ممكن لتحقيق أكبر فائدة وأعلى جودة فى وقت مناسب أيضا.

2- قواعد البيانات العملاقة،Large Databases ، حيث يمكن دمج بعضها وإمكانية تحليل هذا الكم الهائل من البيانات واستخراج علاقات مباشرة وغير مباشرة واضحة وغير واضحة، ويتم استخدامها فى التخطيط وإعادة الهيكلة وربما اتخاذ قرارات إدارية أو تغييرات تشريعية أيضا.

3- نقص الخبراء Expert Shortage، وهذه معضلة تواجه الجميع، فالمجالات متنوعة والمعارفوالأفكار تتسارع بمعدلات أكبر بكثير من معدلات التعلم والوصول إلى مراحل الخبرة والحكمة،الأمرالذى يجعل الذكاء الصناعى مرشحا بقوة لتولى هذا الدور والمساهمة فيه بفاعلية.

4- توقع السيناريوهات Predictable scenario، ويتم هذا بالتحليل المتعمق للبيانات التاريخية الموجودة، ومن خلال أنظمة ونماذج رياضية يمكن وضع عدد من السيناريوهات المستقبلية للأحداث والتفاعلات وذلك فى كل المجالات التى تمس الشأن الاقتصادى والسياسى والاجتماعى أيضا.

5- كفاءة الإجراءاتProcedural efficiency، يتم اقتراح سلسلة من الإجراءاتبأسلوب متواليحقق أكبر قدر من النفعية بأقل تكلفة وأقل هدر ممكن.

6- تنوع البيانات Diverse data، حيث تأخذ البيانات أشكالا مختلفة وتحتاج إلى معاملة خاصة لكل شكل من هذه الأشكال.

التطبيقات كثيرة، فعلى سبيل المثال يمكن استخدام تلك التقنيات فى مكافحة الأزمات والكوارث والحد من مخاطرها، أوفى ضبط حركة المرور للسيارات على الطرق من خلال منظومة ديناميكية أوالحد من الأمراض وانتشارها،أو من خلال تحليل المكالمات التى تأتى على أرقام الطوارئ والخدمات مثلما هو الحال فى الشبكة الوطنية للطوارئ والسلامة العامة التى تم افتتاحها منذ عدة أيام، وفى الحقيقة إن التطبيقات كثيرة ومتعددة ربما يحتاج كل تطبيق منها إلى بحث منفرد.


رابط دائم: