لماذا زيلينسكى؟
20-11-2022

رشدى الدقن
* مدير تحرير روزاليوسف

فى 25 ديسمبر 1991 استقال ميخائيل جورباتشوف، آخر زعيم سوفيتى، رسميا من منصب رئيس الاتحاد السوفيتى، فى اليوم التالى فى 26 ديسمبر اعترف برلمان البلاد، مجلس السوفيت الأعلى، رسميا باستقلال 15 دولة  جديدة، ومن ثم انتهى وجود الاتحاد السوفيتى على أرض الواقع، وتم إنزال العلم الأحمر الذى يحمل المطرقة والمنجل، الذى كان يوما ما رمزا لواحدة من أقوى دول العالم من فوق قصر الكرملين.

جورباتشوف وصل إلى السلطة عام 1985 وكان يبلغ من العمر 54 عاما فقط وبدأ سلسلة من الإصلاحات لبث حياة جديدة فى البلاد التى كانت تعانى الركود.

يجادل الكثيرون بأن هذه الإصلاحات التى عرفت باسم البيريسترويكا "إعادة البناء والهيكلة" والجلاسنوست "الانفتاح وحرية التعبير" أدت إلى زوال البلاد، ويقول آخرون إن الاتحاد السوفيتى كان غير قابل للاستمرار بسبب بنيته المتهالكة.

انهيار الاتحاد السوفيتى بالتأكيد له عوامل كثيرة، لكن هنا أشير إلى قصة روسية لم ترو إلا بعد الانهيار، هذه القصة تقول إن شخصية مهمة فى الحزب الشيوعى كان أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى، فى تسعينيات القرن الماضى، وهى عن جاسوس روسى للولايات المتحدة - هو نفسه الشخصية الكبيرة فى الحزب - ظل تحت مراقبة المخابرات الروسية "كى جى بى" فترة طويلة بعد الشك فيه بسبب وشاية زميل له فى العمل، والغريب أن المخابرات لم تجد له أى نشاط مريب، سوى ظهور ثراء لا يتناسب مع راتبه! وعندما فتشت بيته ومكتبه وسيارته لم تجد عنده أى وسيلة تجسس مثل الأحبار السرية أو أجهزة التنصت وقتها!

ظل الرجل يعمل ويعيش حياته لا يلتقى أى شخص مريب ويمارس حياته بحرية تامة وبوضوح شديد لدرجة أن المخابرات الروسية رفعت المراقبة عنه، وبعد الانهيار سافر الرجل وعاش فى الولايات المتحدة، وهناك اعترف بأنه فعلا كان جاسوسا لأمريكا وعملية تجنيده استغرقت لقاء واحدا فحسب قابل فيه ضابط مخابرات أمريكيا كلفه بتكليف وحيد، وكلما فعله زاد حسابه فى بنك سويسرى.

التكليف كان اختيار الأسوأ دائما للمناصب الكبرى، فالرجل النافذ فى الحزب الشيوعى له القرار الأخير فى اختيار المرشحين للمناصب القيادية الكبرى، وتعرض عليه الأجهزة 3 أسماء لكل منصب، وكان هو يختار الأسوأ والأقل كفاءة وذكاء ليتصدر المشهد، وهذا الأسوأ يؤدى إلى كوارث أخطر بكثير مما يمكن أن تفعله المخابرات نفسها.

العملية المخابراتية شديدة البساطة والتعقيد هذه انهار بها الاتحاد السوفيتى، وفى رأي هناك عملية مخابراتية شديدة البساطة والتعقيد تدور الآن على نفس الأرض وبنفس اللاعبين، هذه العملية يمكن أن نطلق عليها "الممثل".

قبل الذهاب لأبعد من المنطقة الدافئة الآمنة فى القصة، أذكر أنه عندما انهار الاتحاد السوفيتى، كانت أوكرانيا موطنا لثالث أكبر مخبأ للأسلحة النووية فى العالم كله، فقد ورثت أوكرانيا حصة كبيرة من ترسانة الكرملين النووية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. لكن فى عام 1994، قررت الدولة المستقلة حديثا أن تتنازل عن تلك الترسانة فى مقابل تأكيدات من روسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، بأن سيادتها ووحدة أراضيها ستحظى بالاحترام، ويعرف الاتفاق الذى - وثّق هذه الالتزامات- باسم "مذكرة بودابست".

الرئيس الأوكرانى "فلاديمير زيلينسكي" فى 19 فبراير2022، حين بدا أن القوات الروسية تستعد لشن هجوم وبدء الحرب، هدد بالانسحاب من اتفاق 1994 إذا لم تبادر الدول الغربية إلى توفير ضمانات أمنية حقيقية، وبعد أسبوع من الحرب، ذكر زيلينسكى الساخط ساخرا أن وقود الديزل الذى قدمه حلف الناتو للقوات الأوكرانية يمكن استعماله بشكل أفضل فى حرق "مذكرة بودابست".

ربما بدت تعليقات زيلينسكى اللاذعة من دون مبرر، نظرا إلى أن الاستجابة الغربية إلى الغزو الروسى لأوكرانيا جاءت غير مسبوقة من حيث مدى المساعدة العسكرية المقدمة لها وقسوة العقوبات المفروضة على روسيا. فى المقابل، لقد تبنَّت المملكة المتحدة والولايات المتحدة، على امتداد الأعوام الثمانية الأخيرة، منذ الغزو الروسى الأول "فى 2014، حين ضمت شبه جزيرة القرم"، رؤية ضيقة إلى التزاماتهما بموجب "مذكرة بودابست".  وبعيدا عن الاجتماع الأولى فى مارس 2014 للموقعين على المذكرة، الذى لم تحضره روسيا، لم تكن المذكرة جزءا من النقاش الدائر على الإطلاق، ولم يجرٍ تأطير أي من المساعدات العسكرية التى قدمتها واشنطن أو لندن إلى كييف منذ عام2014، على أنها وفاء بالتزاماتهما الأمنية بموجب تلك المذكرة. واختارت الولايات المتحدة لأسباب من الصعب فهمها، أن تبقى خارج مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا عامى 2014 و2015، تاركة  فرنسا وألمانيا تقودان العملية التى تمخضت عن وقف لإطلاق النار، لكنها لم تؤدِ إلى سلام.

فى شهر أكتوبر الماضى، صرح وزير الدفاع الأمريكى، لويد أوستن، بأن المبلغ الإجمالى للمساعدات العسكرية التى قدمتها واشنطن لنظام كييف منذ بدء العملية الروسية الخاصة فى أوكرانيا بلغ 16.8 مليار دولار.

وأكد أوستن أن الضربات الروسية الأخيرة على البنى العسكرية لنظام كييف عززت رغبة الغرب فى تقديم المزيد من المساعدات لأوكرانيا، وأعرب عن امتنانه لحلفاء واشنطن الذين يستمرون بتزويد أوكرانيا بحزم المساعدة الخاصة بهم.

وأضاف أن مجموعة الاتصال الغربية ستبقى موحدة وستواصل تعزيز القدرات الدفاعية لنظام كييف بجميع احتياجاتها لأطول وقت ممكن، وذكر أوستن أن واشنطن قامت بتكثيف استثماراتها فى مجال التصنيع العسكرى لتغطية الاحتياجات الدفاعية للولايات المتحدة وكذلك لنظام كييف.

وذكر أنه سيتم إنتاج وتسليم هذه المساعدات خلال الأشهر والسنوات المقبلة فى حالات معينة، وأشار إلى أن الولايات المتحدة أعلنت قبل أسبوعين تخصيص حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 1.1 مليار دولار لنظام كييف تضم 18 منظومة جديدة لراجمات صواريخ "هيمارس" متعددة الإطلاق ومئات المركبات وعشرات الرادارات والأنظمة المضادة للمسيرات وغيرها الكثير.

لابد هنا من الإشارة إلى أن روسيا حصلت بسهولة على كمية كبيرة من الأسلحة  الحديثة، وذلك باعتراف وزارة الدفاع الروسية، فى بيان لها مارس الماضى، قالت فيه: إن عناصر من قواتها الخاصة استولت على أسلحة أجنبية فى ضواحى العاصمة الأوكرانية.

ورغم عدم الإشارة إلى أنواع هذه الأسلحة صراحة فإنه يمكن من قراءة أنواع الأسلحة المقدمة لأوكرانيا أن نتعرف عليها، وقد حصلت عليها مثل مجموعة من كل من الدروع الواقية للبدن والخوذ، بالإضافة إلى بنادق وقاذفات القنابل اليدوية، وآلاف الأسلحة الأخرى المضادة للدبابات، بالإضافة إلى صواريخ جافلين، ونظام ستينجر المضاد للطائرات، الذى اشتهر فى السابق بإسقاط الطائرات السوفيتية فى أفغانستان، وأيضا "نظام جوى تكتيكى بدون طيار" - طائرات صغيرة بدون طيار - التى غالبا ما يتم إطلاقها يدويا وتكون صغيرة بما يكفى لتناسب حقائب الظهر، ويمكن للجنود استخدامها لتوسيع نطاق ساحة المعركة أو فى بعض الحالات، للهجوم، وبشكل أساسى لصنع قنابل طائرة يمكن توجيهها إلى الأهداف من مسافة بعيدة.

ولابد هنا من الإشارة إلى أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين كان مقربا جدا من الرئيس الأوكرانى السابق، فيكتور يوشينكو، وأن الممثل فلاديمير زيلينسكى وصل إلى سدة حكم أوكرانيا بعدما نجح بحملة انتخابية "بسيطة"، ودخل الممثل السياسة بإعلانه ترشحه ليلة رأس السنة فيما بدا وكأنه جزء من عمل استعراضى. غير أن "الكوميدى" تمكن بعد أربعة أشهر فقط من تحقيق فوز ساحق على الرئيس السابق بترو بوروشنكو، ووعد بإيصال أشخاص "يفكرون بعقلية القرن الحادى والعشرين" إلى السلطة.

وقطع زيلينسكى، الخط الفاصل بين الواقع والخيال بتأديته فى مسلسل تلفزيونى شخصية أستاذ تاريخ يصبح رئيسا للدولة، وعكس صورة محببة لشخصيته، مقدما نفسه كرجل من الشعب، يتحدث بعفوية ويصف نفسه "المهرج"، ويذكر مرارا بطفولته فى مدينة كريفى ريه العمالية والصناعية التى يتحدث سكانها الروسية.

 


رابط دائم: