حوكمة الإنترنت .. إلى أين؟
26-10-2022

م. زياد عبد التواب
* خبير التحول الرقمي وأمن المعلومات، الرئيس السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء

الحوكمة، وإن كان مصطلحا حديثا  نسبيا إلا أنه يعبر عن مجموعة من المبادئ الأساسية المنطقية لإدارة الأمور بصفة عامة وفى أي مجال، حيث تشمل تلك المبادئ الشفافية والنزاهة والقانونية والسياسة السليمة والمشاركة والمساءلة والاستجابة وغياب الفساد والمخالفات، وهى مبادئ تطبقه في الأنظمة السياسية والاقتصادية وغيرها الكثير وعلى جميع المستويات وصولا إلى حوكمة العلاقات الأسرية وتربية الأبناء.

وبدون الحوكمة تستطيع أن تتخيل مصير مصائر الشركات والمؤسسات وعلاقاتها مع المؤسسات الأخرى وسلاسل الإمداد، وكذا أيضا علاقاتها مع العملاء والحكومات والأنظمة المالية والضريبية والتشريعية، فالأمر ببساطة يحقق ضمانة ألا يكون لجهة اليد العليا أو السيطرة على جهات أخرى أو العمل بدون وجود قواعد للمراقبة والمتابعة وخلافه.

شبكة الإنترنت لا يمكن استثناؤها من تلك القاعدة، فهي وإن كان أكثر من 80% منها تحت سيطرة القطاع الخاص المتمثل فى شركات تقديم خدمات الاتصالات المختلفة وشركات استضافة المحتوى وشركات تطوير وبناء الأنظمة وقواعد البيانات وشركات بيع الأجهزة والمعدات الخاصة بالربط والتأمين، إلا أن أنشطة الشبكة تشمل كل الأطراف الأخرى الأكثر أهمية من الأطراف السابقة والمعروفة بالبينة التحتية وهى الأطراف المشغلة الحقيقية والمستفيدة من كل تلك الخدمات، وهنا أقصد الحكومات والأفراد ومنظمات المجتمع المدنى والقطاع الأكاديمى وغيرها وهى التي تشكل ما نطلق عليه "مجتمع المعلومات" بتقسيماته الداخلية الأكثر تخصصا مثل القطاعات المالية والتعليمية والصحية والترفيهية وغيرها الكثير، والتى تحتاج إلى الالتزام بمبادئ الحوكمة داخلها وفيما بينها وبين باقى القطاعات الأخرى أيضا وهو أمر يزداد إلحاحا مع زيادة التقدم التكنولوجي والاعتمادية على تلك الشبكة فى إدارة جميع مناحي الحياة.

البداية:

بدأت عمليات التنظيم والحوكمة الخاصة بشبكة الإنترنت منذ بداية إطلاق تلك الشبكة، بالطبع لم يكن الأمر مثلما هو عليه اليوم ولكن البداية كانت على عدة مراحل بدأت المرحلة الأولى منها بين عامي 1970 و1994 حيث كانت تعني بالجوانب الفنية الخاصة ببروتوكول الاتصال  وتصميم الشبكات المتصلة الداخلية منها والخارجية، ثم جاءت المرحلة الثانية بين عامي 1994 و1998 التي انتبهت فيها الحكومات وقطاع الأعمال إلى سرعة انتشار الاستخدام وتزايد أعداد المستخدمين وزيادة متطلباتهم واعتمادهم عليها وهى التي انتهت بإنشاء منظمة "إيكان"ICANN  لتنظيم العناوين والأسماء على هذه الشبكة،ثم تطرقت إلى أمور أخرى أكثر تعقيدا، بعد ذلك أتت المرحلة الثالثة بين عامي 2003 و2005 بتوجه العالم إلى قمتي المعلومات في جنيف وتونس، حيث تم طرح قضية الإنترنت بقوة على أجندة الاجتماعات ما أسفر عن بلورة فكرة حوكمة الإنترنت وظهور مجموعة من اللجان ومجموعات العمل للاجتماع والنظر في القضايا المشتركة الخاصة بشبكة الإنترنت على مستوى أشمل من خلال ما يعرف بمنتدى حوكمة الإنترنتInternet Governance Forum (IGF)  الذى بدأ عام 2006 فى أثينا للمرة الأولى وذلك لتجميع كل الأطراف للمناقشة وتبادل الأفكار والآراء حول شبكة الإنترنت وتطبيقاتها وكيفية التنظيم وفض الاشتباكات وإعادة توزيع الأدوار، وكذا أيضا استشراف المستقبل.

محاور الحوكمة:

مبادئ الحوكمة السابق الإشارة إليها وفي محاولة تحقيقها ولو جزئيا كان لزاما على المنظمين تقسيم قضايا الإنترنت إلى عدة محاور لسهولة الاقتراب منها ومعالجتها وهى:

1-   المحور الأول:

يتعلق المحور الأول بالبنية الأساسية، أي البيئة الفنية المطلوبة لضمان عمل الشبكة من الناحية الفنية وتشمل جميع المكونات المادية من أجهزة ومعدات الاتصال وجهات تقديم تلك الخدمات -شركات الاتصالات- والتقنيات الحديثة مثل الحوسبة السحابيةCloud Computing  وتقنيات إنترنت الأشياء Internet Of Things (IOT)كما تشمل أيضا القواعد التنظيمية لبروتوكولات الاتصال وعناوين الإنترنتIP Addresses  وأسماء النطاقات Domain Namesوبعض القضايا المرتبطة بها مثل إمكانية الوصول إلى الخدمات وتغطية الشبكات وتعادليتهاInternet Neutrality .

2-   المحور الثانى:

وهو المحور الخاص بأمن المعلومات وأمن الشبكات والحماية من الهجمات والاختراقات السيبرانية وقضايا الجريمة الإلكترونية والإرهاب الإلكتروني والهوية الرقمية والتوقيع الإلكتروني Digital Signatureوحماية الملفات من خلال التشفير Encryptionوغيرها من الموضوعات المرتبطة مثل رسائل البريد الإلكتروني غير المرغوب فيها ومتابعة المحتوى غير المناسب والاستخدام الآمن للأطفال.

3-   المحور الثالث:

المحور التشريعي المرتبطة بقوانين مكافحة جرائم تقنية المعلومات -الجريمة الإلكترونية- وقوانين حماية البيانات الشخصية وحماية حقوق الملكية الفكرية بتفريعاتها المختلفة والعلاقة بين الحكومات والأفراد والشركات راعية المحتوى، وما يجب أن تلتزم بتنفيذه من تحديد سياسات استخدام غير ضارة ومدى اتساقها مع القوانين والاتفاقيات المحلية والدولية.

4-   المحور الرابع:

المحور الاقتصادي ويشمل كل ما يتعلق بالاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية والتكنولوجيا المالية والشمول المالي وقضايا حقوق المستهلك والعملات الإلكترونية والمشفرة وحركة التجارة الجديدة وأساليب سيطرة الحكومات ضريبيا ومصرفيا على حركة الخدمات العابرة للحدود Cross-bordersوسيطرة البنوك المركزية على العملات التقليدية والنظم النقدية، وكذا أيضا مدى التفاعل أو الاندماج مع العملات الجديدة المشفرةCrypto-currencies .

5-   المحور الخامس:

محور التطوير والتدريب ونشر الوعي وتقليل الفجوة الرقمية بين الشمال والجنوب وتأثير التقنيات الحديثة وكيفية استخدامها لتطوير وتطور المجتمعات.

6-   المحور السادس:

والخاص بمراعاة الجوانب الثقافية والاجتماعية والنفسية وحماية التراث الإنساني والتباين الثقافي واختلاف اللغات وأنماط التعلم والفنون الرقمية والتغير في منظومة القيم والعادات والتقاليد والتأثيرات النفسية والسلوكية جراء الاستخدام المفرط للتقنيات المختلفة.

7-   المحور السابع:

مرتبط بحقوق الإنسان  ويشمل حقوق الإنسان فىكل منالواقع المادي والافتراضي ومناقشة قضايا مهمة مثل حرية التعبير والخصوصية وحماية البيانات الشخصية والأخبار الكاذبة والمغلوطة وحقوق الأطفال ومتحدى الإعاقة.

أما وقد انتقل العالم فى السنوات القليلة الماضية إلى آفاق أرحب وأوسع فيما يتعلق بالاستخدام والتقنيات المستحدثة فإن العديد من النقاشات خلال المؤتمرين الأخيرين بالإضافة إلى أنه من المتوقع أن تأخذ حيزا كبيرا فى المؤتمر القادم المزمع عقده فى أديس أبابا من 28 نوفمبر إلى 2 ديسمبر هذا العام، وذلك فى قضايا مهمة يأتى على رأسها قضايا الذكاء الاصطناعي والتواصل الاجتماعى ثلاثى الأبعاد -الميتافيرس- من حيث تغلغل تلك التقنيات وانتشارها ما طرح العديد من التساؤلات حول توقعات مستقبل العالم الرقمي فى ظل الثورة الصناعية الرابعة وما بعده، وهى العصور التي ستكون للآلة القدرة على استبدال البشر وحل محلهم فى العديد من الأعمال التي تحتاج إلى العقل والتفكير ومهارات اتخاذ القرار، وهى المرة الأولى منذ بدء الخليقة التي قد يتنازل الإنسان عن استخدام ملكاته العقلية بعدما تنازل خلال الثورات الصناعية الأولى والثانية عن استخدام قوته الطبيعية وعضلاته أمام الآلات المختلفة المعروفة فى هذا العصر.

والقضية هنا مختلفة ومتشعبة ولا يبدو أنها ستصل إلى نهاية أو نقطة تشبع فى المدى المنظور، وهو ما يطرح تساؤلات عدة، بعضها مرتبط بالاقتصاد والبطالة، وبعضها الآخر مرتبط بحقوق الملكية الفكرية المرتبطة بإبداع الآلة، ثم ما هو على مستوى مراجعة النظريات السياسية والاقتصادية المستقرة بعد دخول هذا اللاعب الجديد.

 


رابط دائم: