الحوار الوطني ووطن التنوير
17-10-2022

مدحت بشاي
* كاتب صحفى

أرى أهمية إقامة حوار وطني في تلك المرحلة من تاريخنا، التي بدأت مع اندلاع ثورة 30 يونيو التي انتفض فيها شعبنا لإعادة الهوية الحضارية والثقافية والتاريخية، والشروع على الفور في بناء منظومات التنوير، ونفض كل أردية عصور الكسل العقلي. وعليه، أتصور أن تعني كل لجان ذلك الحوار الوطني -دون مبالغة- بمشروع التنوير ومناهضة فكر كل أوصياء أزمنة الفتن الثقافية والدينية والحضارية؛ أى حوار سياسي واقتصادي وثقافي وروحي وإنساني بفكر تنويري معاصر في رحاب وطن التنوير والتاريخ العظيم.

في مارس 1980، اجتمع في باريس أربعون عضوًا من مشاهير مفكري العرب لتأسيس "حركة تنوير عربية"، وكانت فكرة التأسيس هذه قد راودت أسرة تحرير مجلة "الطليعة" القاهرية عام 1979، والمفارقة هنا أن ذلك الاجتماع التأسيسي كان هو الأول والأخير، أي أنه مُنى بالفشل.

نعم، وما أكثرها من محاولات محلية وإقليمية وعربية تصدى لها أوصياء الفكر الأصولي الجامد، لتموت الأفكار في مهدها لنبتعد عن حلم إقامة مشروع التنوير ونتراجع من جديد عن الشروع في بناء أي منظومة للإصلاح الثقافي والفكري الديني.

وأعتقد أنه لا توجد ظروف تستدعي حضور أهل التنوير ودعاة الإصلاح في أي زمان بقدر احتياجنا لوجودهم الآن لمقاومة ما نعيشه من تداعيات دعاوى أهل الشر من أصحاب بوتيكات الاتجار بالأديان وجراثيم أهل غواية هدم الأوطان التي يتلظَّى أهالينا في الداخل والخارج (محليًا وإقليميًا وعربيًا) بحروبها الوحشية ونزاعاتها الحادة، في أزمنة عدمية لا ينتج منها سوى ظلام عميم له رائحة الدم ولونه، ظلام لا تعود معه الرؤية متاحة ويستحيل معه أيضًا إحداث أي تنمية أو إحراز خطوات لتحقيق أي تقدم من أي نوع، وفي أي مجال.

لقد سعى أهل الفكر وأصحاب رسائل التنوير إلى إيجاد معالجات نهضوية تتشابك بوطنية وحب لتطوير وإصلاح الراسخ الموروث المتكلس من الأفكار والمعتقدات البالية، ولتتقدم بالثقافة الإنسانية لدينا إلى المستقبل الذي نحلم أن نعيشه، وفي كل جولة كانت العودة إلى التراث شرطًا جازمًا لديهم، وكانت تنتهي جولاتهم بإقرار أنه بدون قراءة جديدة للتاريخ العربي لن نستطيع معالجة أزمات العقل المعاصر المسجون في حاضره وغير الجاهز للحاق بعجلات المستقبل ومدركاته، فيما انشغل البعض منهم بالإشارة إلى القيم الغربية المنطلقة من ثورات أوروبا الثقافية والصناعية، ورأوا في استنساخها الدواء الناجع والحل الصائب.

يقول المفكر الأمريكي الشهير "صامويل هنتنجتون": "الحركات الشعبية هي محرك التاريخ"، وهل من ثورة في التاريخ أروع وأهم من ثورة أشعلها الشعب للدفاع عن هويته الثقافية والحضارية كثورة 30 يونيو؟!

  ويؤكد هنتنجتون، بعد استعراضه لوقائع تاريخية محددة، أنه لكي يحدث تحريك التاريخ نشهد خلف الحراك السياسي الظاهري/المباشر رؤى ثقافية راسخة تحكم مجمل الوعي العام، إذ ينجذب الشعب –في تياره الجماهيري العام– لصوته الداخلي، أي لرؤاه الأعمق المتجذرة في الثقافة والتاريخ.

وعليه، فإن التغيير الحقيقي لا يكون بلا تنوير، والتنوير الحقيقي لا يكون بلا جماهير. التنوير الفاعل هو التنوير الذي يستطيع الوصول إلى وعي "الحركات الشعبية" التي وصفها هنتنجتون بأنها  "محرك التاريخ."

إن الذين يعتقدون بتراجع قيم التنوير في بلادنا يغفلون أن التاريخ يسير عبر موجات الحماسة لمشروع التنوير، وفي أحيان أخرى يواجه بموجات الاعتراض عليه مقابل الإعلاء مجددًا من شأن الفكر التقليدي الاستقراري والقيم المرتبطة به، كما حدث عبر حقب متتالية، وهو ما يعد بمنزلة مانشيتات عارضة عبر صراع تاريخي يتطلَّب المرور بحقب زمنية  تَطُول أو تَقْصُر، تختفي ثم تعود، وذلك بحسب أشكال وطرائق وخطوات البناء، وكيف نتعامل مع مشروع التنوير الذي نأمله، وكيف نخطط لدعمه.

ولا ريب أن الأفكار الإبداعية المتجددة والريادية في كل مراحل التاريخ جاءت كبريق خاطف للعقول والمشاعر وسط ظلمات البلادة وتكلس المناهج الفكرية القديمة، وكلها من دون أي استثناء قد قوبلتْ بالرفض أو بالمقاومة، وهو رفضٌ قد يمتد قرونًا، ولكن المؤكد أن الرفض يحصل دائمًا بشكل تلقائي، أما القبول فلا يأتي إلا متأخرًا، وقد لا يأتي أبدًا كما في الثقافات الشديدة الانغلاق.

مع الفنون وإبداعات البشر الجميلة نحيا ونسعد مرة وأخرى وثالثة ورابعة مع تجددها الإطاري والشكلي وتنوعها في المحتوى والتأثير، حيوات كثيرة، نعم، تتجدد الحياة مع كل تجدد لأوراق شجرة الإبداع وأزاهير الفنون ونسائم عبير جمالياتها.

الفنون، ليست كما يصورها البعض مجرد قفزات عشوائية في فضاء اللا معنى، وفي مساحات اللعب التافه، التى يرونها أحيانًا أنها تمثل حالة هروب من واقع رتيب في الوقت الذي كان على المبدع أن يخرج بإبداعاته في مواجهات شجاعة مع شياطين عتمة الكراهية الساكنة كهوف العنكبوت الخانقة والمانعة لانطلاقها لفضاءات النور والبهجة والإمتاع والمؤانسة.     

ويا من تُحرمون علينا الاستمتاع بنعيم ومكارم الإنصات لصوت العقل وإعمال الفكر الناقد وضرورة التأمل العلمي الموضوعي لموجودات دنيانا، ألا تعلمون أن ترصدكم الجاهل لما حولكم وحملاتكم المُضلة الغاشمة وبلاغاتكم الجاهلة التي تتدفق لإيقاف نمو وازدهار شجرة التنوير التي حدثنا عنها الرئيس عبدالفتاح السيسي، وهو يفتتح "مسجد الفتاح العليم" و"كنيسة ميلاد المسيح" في يوم احتفالية سلام بديعة، وإعلانه حتمية مواجهة جرذان الكراهية المقيتة، ألا يعلم الجبناء أن ما يفعلون جريمة بشعة لن يغفرها لأمثالهم التاريخ، ولن يسامحهم عنها مواطنينا أولاد حضارة علمت الدنيا كل صنوف الإبداع الرفيع؟!

لن نسامح أنفسنا، وسيحاسبنا الأولاد والأحفاد لو تهاوننا في الوصول إلى اتفاق على معيار عقلاني نستند إليه في خياراتنا عبر مؤشرات بوصلة مشاريعنا الفكرية والثقافية، وأن نعيد ونثمن الصالح من القيم الأخلاقية لإقامة مصالحة مشروعة بين أهل الدعوة الحسنة للأديان وإخوانهم في الإنسانية فرسان أهل الإصلاح لنفض الكسل العقلي والتعلق بشراع التنوير على متن سفينة الوطن.

لا شك فى أن الفنون بكل وسائطها وألوان إبداعاتها، حال إطلاقها ودعم حريات ممارستها بمسئولية، ودون توجيه مجحف أو توجيه اتهامات مكارثية متوهة وظالمة، ستساهم في التفكير في إعداد عقد اجتماعي جديد بين كل أطراف ومحاور الشراكة الوطنية لصناعة الجمال وإعلاء قيم الحق والخير والعدالة.

الآن، لدينا فرصة هائلة لاستدعاء قوانا الناعمة من جديد وبحماس لدفع كل آليات التنوير بالعمل الجاد والموضوعي عبر مؤسسات التعليم والثقافة والرياضة والأوقاف والجامعات ومنظمات العمل المدني بعد رحلة قاسية عشناها ولازلنا نعيشها في منطقتنا الموعودة بأجواء ظلامية غادرة والعيش في حروب ومواجهات صعبة مع قوافل الجهل والتخلف الإنساني المتمثلة في عصابات "داعش" ومن على شاكلتها التي طلت علينا بكتائب سوداوية تنشر العتمة برائحة الدم ولونه لتستحيل الرؤية وتنعدم الحركة ويموت الأمل وينتشر الإحباط لدى الناس (أقصد الضحايا)، أكرر لدينا الفرصة الآن -ونحن على عتبات الجمهورية الجديدة- فقد أدرك شعبنا هوية الخصم الخطير وفطن لكل حيله، ويبقى فقط ضرورة إزاحة كسل العقل عنا.

وقد ذكرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أن الهوية الثقافية هي "النواة الحية للشخصية الفردية والجماعية، والعامل الذي يحدد السلوك ونوع القرارات والأفعال الأصيلة للفرد والجماعة، والعنصر المحرك الذي يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع".

إن إعلاء الرئيس عبدالفتاح السيسي لدور الفنون الجيدة وإعلان عزمه على دعمها لدعم حالة الوعي الجماهيري ورفع مشاعل التنوير في كل بقاع المحروسة، لابد أن يُلاقي بكل حماس وبروح 30 يونيو العظيمة من قبل مبدعينا، وأن يحرصوا على مقاومة الفنون الرديئة، بل ونبذها ونحن على عتبات الجمهورية الجديدة.

 


رابط دائم: