أزمة النخبة الثقافية
20-9-2022

وليد عتلم
* باحث دكتوراه ـــ كلية الدراسات الأفريقية العليا

في أوقات الأزمات والتحولات الكبرى في عمر الأوطان يجد الجميع أنفسهم أمام خيار تحديد المواقف والتوجهات. هنا يتجلى دور النخبة بالنسبة لللجمهور الذي يخوض معركته، لتوجيهه ودعم مناعته الوطنية، في مواجهة التحديات والأزمات، فالنخبة هم قادة الرأي العام والمؤثرين فيه؛ يشكلون اتجاهات الرأي العام وتوجهات المجتمع. وفي كل حضارة كانت النخب المميزة، التي تمارس تأثيرها على المجتمعات بشكل أو بآخر.

والمثقف هو الذي يعرفه جان بول سارتر على أنه ذلك "العالم الذي يخرج باهتمامه وعمله من حدود علمه المتخصص إلى آفاق المصالح الإنسانية المشتركة". ويرى الإيطالي "أنطونيو جرامشي"وهو أحد أهم مفكري القرن العشرين، أن "أهم ما يميز المثقفين عن مختلف الجماعات الاجتماعية هو الدور الخاص الذي يلعبونه في عالم الإنتاج، وأن دور المثقفين هنا ليس دوراً مباشراً". ما يؤكد على أهمية دور النخبة على نحو عام، والنخبة الثقافية بشكل خاص، وباسترجاع مختلف تجارب التاريخ وحركة نهوض الأمم وتراجعها، نجد أن تلك الحركة لا يقودها الجماهير، بل تُساق عبر النخب السياسية والثقافية والاقتصادية والعلمية، إما نحو النهضة والتقدم، وإما صوب التراجع والتخلف.

إن التعميم المطلق هو فسادُ مطلق؛ لذلك فالحديث هنا قاصر على بعض ممن ينتمون للنخبة المصرية الذين لم يستطيعوا تجاوز الفجوة بين المثقفين والجماهير وضعف حضورهم المجتمعي. ما بعد يناير 2011 ظهرت أنماط جديدة للنخبة المصرية، يمكن تصنيفها إلى أربعة فئات رئيسية؛ الفئة الأولى ركزت على الإطار السياسي والدستوري للدولة ودينامياته الحزبية والانتخابية، وغيرها من القضايا والموضوعات التي تتعلق بأطر السلطة. والفئة الثانية ظهر دورها بوضوح في إطار المكون المدني والحقوقي، بينما الفئة الثالثة ارتبط حضورها بوصول تيار الإسلام السياسي للحكم عام 2012، وحاولت أن تمثل القاعدة الثقافية له. أما الفئة الرابعة يتسم مثقفها أنه دائماً وأبداً غير راضٍ عن الأوضاع التي يعيش فيها، دائم النقد والإنكار لكل ما هو مُنجَز وإيجابي. هؤلاء للأسف لا يزالوا عالقين في أجواء الدولة "السائلة" ما بعد يناير 2011. يحاولون بشتى الطرق إعادتنا لما كنا عليه في تلك الفترة من سيولة وعدم استقرار؛ هكذا يلمع نجمهم، ينتقلون من هذه الوسيلة الإعلامية إلى تلك، فلا يستطيعون الابتعاد عن وهج الأضواء حتى ولو على حساب الوطن واستقراره.

لذلك؛ أحد أبرز أزمات "بعض" النخب الثقافية المصرية منذ يناير 2011، أنها سقطت في براثن الاستقطاب العنيف؛ حيث التداخل ما بين دور المثقف الذي يقود حركة الوعي الوطنية، وبين ما هو ديني وسياسي، خاصة فيما يتعلق بدور المعارض السياسي الناقد، هذا التداخل تجذر على نحو كبير، ليلح السؤال الآن؛ هل تراجعت بعض من النخبة الثقافية والإعلامية، لتصبح أسيرة منافع اجتماعية وسياسية (فقدتها أو تسعى إليها)، وهو ما غير من خياراتها وأدى إلى تشويش بوصلتها؟!، إذ غلب عليهم النفعية، واتسم سلوكهم بالأنانية المفرطة، بل وبالغوا إلى حد محاولة ابتزاز الدولة، وتخلوا عن دورهم الطبيعي في حماية الهوية الوطنية، وتعزيز دعائم صمودها في مواجهة التحديات الداخلية الناجمة عن الأزمات العالمية.

هؤلاء اختاروا حالة العزلة، والعجز والهشاشة، مقارنة بالدور المهم، الذي نحن أحوج ما نكون إليه من النخبة المثقفة في قيادة المجتمع عبر الانخراط في مشاريع التقدم والتنوير والتحديث في إطار الجمهورية الجديدة. غير أن البعض لا يزال يصر على سجن نفسه في مربع الحصار، وليس السبب في ذلك حصار الأنظمة السياسية للثقافة والمثقفين، كما يدعي بعض النخبة، لكن على العكس تماماً، فالسبب في ذلك هي نرجسية بعضهم، والتعامل النخبوي من جانبهم، واليقين الراسخ أنهم هم فقط من يمتلكون الحقيقة الكاملة، وأنهم فقط من يمثلون عقل المجتمع وضميره وبوصلة وعيه.

إننا الآن في حاجة إلى من اسماهم عالم الاجتماع السياسي المصري الدكتور أحمد زايد "النخبة الوطنية" التي تؤدي دوراً وظيفياً، والتي وصفها بأنها: "حارسة، أمينة، وصاحبة مثال للعمل المنضبط، والرؤية المشرقة للمستقبل، والوعى الكامل بالسياق والمنجزات والعثرات، مع القدرة الكاملة على القفز فوق كل المشاكل والتحديات. واحسب أن ثمة مفتاحاً لكل هذه الصفات الوطنية؛ يرتكز على تفضيل المصلحة العامة وتبنى القيم العمومية، والعمل من أجل المجموع، وزحزحة المصالح الفردية الضيقة إلى الخلف قليلاً في سلم الأولويات، والعمل المخلص من أجل تحقيق طموحات القيادة السياسية للدولة وتجسيد أفكارها على أرض الواقع بقدر كبير من التفاني والإخلاص، لا بكثرة الكلام، وإنما بالعمل الذي يمكن أن يقاس بمؤشرات ملموسة". 


رابط دائم: