هويتنا وتاريخنا في مدارسنا
25-8-2022

مدحت بشاي
* كاتب صحفى

لعل من أهم التبعات الإيجابية للاحتفاليات التاريخية بانتقال مومياوات الملوك والملكات إلى متحف الحضارة وافتتاح طريق الكباش ما تحقق في مجال تنمية الوعي العام المجتمعي بشكل عام، ووعي شبابنا وأطفالنا بشكل خاص. فقد كان الحرص على وضع خطط وتصميم وإدارة تنفيذ تلك الاحتفاليات من خلال الإبهار والإبداع الفني والأهم الصدق والجدارة في المحاكاة التقنية لفنون وإبداعات الأجداد تشكيل حالة من الإعجاب الجماهيري والعالمي للتعطش الإنساني والوطني لفك شفرة ذلك العالم الحضاري المصري العبقري الساحر للأجداد ..

وقد يكون من بين أهم أسباب بروز تلك الحالة من الظمأ المعرفي لأحوال وإنجازات المواطن المصري القديم وأحواله عبر التاريخ وتعاقب الحضارات، هذه الحال التي عليها كتب ومناهج التاريخ والجغرافيا والتربية الاجتماعية، والتي يجمع أهل الاختصاص افتقادها عوامل ومظاهر الجذب وتركيزها على أن تحتشد صفحاتها بالأسماء والتواريخ المطلوب حفظها وترديدها وتفريغها بشكل آلي ممل وغير مفيد.

إن أهم ما بات يمثل العصر الحالي أنه عصر التغيرات والتحولات والثورات السريعة في جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعلمية، والذي أطلق عليه عصر الانفجار المعرفي، نظرًا للتطورات المتلاحقة وانطلاق الكم الهائل من المعلومات، والإبداع والتيسير المستمر في سبل الحصول على المعلومات.

  ومن ثم، أصبحت عملية تطوير مناهج كتب التاريخ التي بات يؤكد عليها المختصون ضرورة ملحة لمواكبة هذه التغيرات والتطورات بصورة مستمرة. وعليه، أصبح تقديم كميات من المعرفة للمتعلم على مدى سنوات عديدة دون مراجعة أو تطوير يعد أمرًا متناقضًا مع ما تتميز به المعرفة من تطوير شامل وواسع. ولعل ما يؤكد ذلك، تلك التساؤلات التى يعبر عنها الطلاب التي تبرز حالة التراجع المعرفي والثقافي بحضارة ورموز وإنجازات الآباء والأجداد.

كما أن التطور السريع فى مجال التكنولوجيا وتدريس التاريخ قد فرض مفاهيم واتجاهات جديدة تدور حولها المناقشات الجدلية، كدراسة التاريخ المحلي والقومي والعالمي وبأي مستوى، وكذلك تغيير دور الطالب، فلم يعد المتلقي للمعلومات التاريخية فقط، وإنما هو باحث عن المعلومات وناقد، و مفسر، وله رأي مبني على البراهين , وذلك بمساعدة وتوجيه المعلم.

وعليه، نسأل لماذا لا تتضمن كتب التاريخ العناوين التالية بشكل جذاب وعصري، ومنها على سبيل المثال: حالة التماسك الاجتماعي، وتنمية مهارات التفكير التاريخي، ودراسة الآثار التاريخية في البيئة المحلية، وتوضيح العلاقة بين التاريخ المحلي والقومي والعالمي، وتطور أحوال الممارسة الديمقراطية وحرية الرأي وسيادة القانون، وتنمية الفهم التاريخي للدور المحلي على المستوى القومي، ودراسة الجوانب الحضارية في البيئة المحلية، وتنمية الولاء للوطن، وكيفية المحافظة على الأمن الوطني ضد التطرف والإرهاب، وإبراز الدور الوطني في حفظ السلام.

في الواقع إن ما يعنينا، ويجب أن نوليه كل الاهتمام، هو أن نعيد عبر تلك المناهج معالم وجماليات وحوانب العبقرية وتحليل أهم الأحداث المؤشرة لروعة ومكانة تلك الحضارة وإعادتها إلى الحياة في وجداننا ومشاعرنا، وذلك بأن نحاول فهمها، وأن ندرس حكمتها وعلمها وفنها، إلى جانب دراساتنا للحضارات الأخرى  من أجل بناء حضارة جديدة.

ومعلوم أن الشعب الحي المتفاعل يجب أن يظل دائمًا على اتصال وجداني وإنساني بتاريخه، لأن للتاريخ قوة هائلة تساعد في وضع علامات التحذير والتحفيز على التجدد والتصويب، فالتاريخ يقدم نماذج حية معلنة للناس، فإذا كنا اليوم نعني بتاريخ الحضارات التي انتهت إلى العالم الحديث، فلا أقل من أن نجعل حضارتنا المصرية نموذجًا، لا للاحتذاء أو حتى المحاكاة، وإنما للإيحاء والانطلاق بقيمها إلى الأمام.

 ولا ريب أن التاريخ القومي ذات مكون قيمي وأخلاقي، يحرك فينا نشاطًا جديدًا، ونتعلم منه الشيء الكثير، من دون وعي، ولا أقصد أن يدرس تاريخنا على طريقة " تلك آثارنا " أو " نحن أول من ... "، أي لمجرد التفاخر بشيفونية وطنية، بل يُدرس كما يرى السندباد المصري " د. حسين فوزي " بالسهر على بقاء خمسة آلاف عام من تاريخنا حية في نفوسنا، ماثلة لخيالنا، إن برامج تدريس التاريخ يجب أن تصاغ صياغة جديدة، بحيث يتابع التلميذ دراستها أطول فترة ممكنة، وتشرح له في أطوارها كلها، مبسطة سهلة في المرحلة الأولى، ثم يعود إليها في المراحل التالية بشيء من التفصيل، ولا داعي لحشد ذاكرة التلاميذ في المرحلة الأولى بأسماء ملوك لم يبق منهم إلا اسمهم في الأغلب، ولا بأرقام سنوات يعترف المؤرخون بأنهم يخطئون في بعضه، ويسأل " السندباد " : لماذا نضطر التلميذ إلى معرفة الثلاثين أسرة فرعونية ؟ .

والأهم، هنا ضرورة توخي الصدق في كتابة مناهج التاريخ وسرد أحداثه، وعرض وجهات النظر والرؤى المختلفة للأحداث والشخوص.

لماذا ــ وعلى سبيل المثال ــ لا نعرض وجهة نظر مفكرنا الكبير عباس محمود العقاد فى كتابه " رجال عرفتهم " عن الزعيم مصطفى كامل، وكيف لم يعجبه موقفه كمصري متوسل أمام تمثال فرنسا يناجيها ويناديها:

يا فرنسا يا من رفعت البلايا عن شعوب تهزها ذكراك

أنقذي مصر إن مصر بسوء وارفعي النيل من مهاوى الهلاك

ويضيف العقاد معلقًا: لم يكن أدب فرنسا، ولا ما اطلعنا عليه من تاريخ ثورتها، داعيًا عندنا للثقة بنجدتها واستعدادها لإنقاذ مصر أو سواها، ولم تكن طبيعتى التى تأبى طلب المعونة من القادرين عليها كما تأبى طلبها من العاجزين عنها مما يقنعني بإمكان التعويل في قضية الاستقلال على معونة دولة قط، من الدول الكبار أو الصغار.

ويذكر العقاد: لهذا أيضًا لم يعجبني تعليق مصطفى كامل الاستقلال المصري بالسيادة العثمانية، لأننا على عطفنا الدائم على الدولة العثمانية في مكافحتها للتعصب الأوروبي، لم نكن نفهم أن هذا العطف ينتهي بجهادنا إلى الرضا باستقلال تشرف عليه سيادة دولة أخرى. وقد كان مصطفى كامل يمزج كثيرًا بين المصرية والعثمانية، حتى فى أحاديثه الخاصة، كما قال فى جوابه عن سؤال للجنرال " بارنج " شقيق لورد كرومر: هل أنت مصري أو عثماني ؟ فكان جوابه : مصري عثماني، وعجب الجنرال بارنج فعاد يسأله : كيف تجتمع الجنسيتان ؟ .. فقال : ليس فى الأمر جنسيتان، بل فى الحقيقة جنسية واحدة، لأن مصر بلد تابع للدولة العلية، والتابع لا يختلف عن المتبوع فى شيء من أحكامه!

ونذكر هنا بالمناسبة مقولة مصطفى كامل المنحوتة على تمثاله الشهير في أهم ميادين القاهرة  " لو لم أكن مصريًا لوددت أن أكون مصريًا ".. فلماذا لم يقل مصريًا عثمانيًا ؟!

 


رابط دائم: