الاستثمار فى الإنسان.. صناعة المستقبل فى مصر
25-7-2022

د. الشيماء الدمرداش العقالي
* مدير مشروع بمكتبة الإسكندرية

"مصر ولّادة"، جملة كثيرًا ما سمعناها ورأيناها في نماذج مصرية تملأ السمع والبصر في العالم من أقصاه إلى أقصاه، تخترق مجالات الطب والهندسة والعلوم والآداب والرياضة وحتى الفلك، تعلموا ونشأوا على أرض الكنانة التي لم ولن تبخل يومًا على أبنائها في كل زمانٍ ومكان.

ومع كل اسم مصري يضيء في سماء العالم، يتساءل الجميع عن ظاهرة "الطيور المهاجرة" التي لا تلبث أن تغادر أرض الوطن حتى تبدأ في التألق والظهور وتصبح حديث العالم أجمع، في حين أنها كانت رقمًا في تعداد السكان الذي لا يتوقف ثانية واحدة، تتحكم فيه بيروقراطية قاتلة يقف على رأسها أنصاف متعلمين صاروا نموذجًا يتجسد في كثير من مصالح الدولة رغم كل الجهود المبذولة من القيادة السياسية لفتح باب الإبداع والتطور.

لا يتوقف السيد الرئيس عن الدعوة للعمل والإبداع ويحرص دومًا على تكريم المبدعين في كل المجالات، وعقد مؤتمرات للشباب يدعو فيها الطيور المهاجرة للمشاركة بالأفكار والأحلام والإسهام في وضع خطط تنموية للقوى البشرية المصرية. بل إنه تم إنشاء أكاديمية متخصصة لتنمية الشباب وإخراج كوادر فكرية وسياسية متميزة تشارك في بناء الوطن ومؤسساته، والعمل بمنظومة فكرية مختلفة ومتميزة من أجل تغيير الصورة الذهنية عن العمل العام والمصالح والمؤسسات الحكومية التي هرِمت من البيروقراطية.

لا يستطيع إنسان عاقل أن يغُض بصره عن الطفرات الحضارية التي تشهدها مصر في كل أركانها، بل ولا يستطيع جاحد أو مُغرض أن ينكر ما تراه الأعين من ثورة البناء والمشروعات القومية العملاقة التي يعيشها ويستفيد منها الشعب المصري كافة، وأن الإصلاح الاقتصادي- وإن كان مرهقًا– فإنه يعطي الدعم لمستحقيه وإن أنكر المنكرون.

نعم لدينا "ثروة قومية" تتطلع إلى عقول دارسة وواعية تعرف كيف تساعد كل مجتهد على التألق والإبداع، نحتاج إلى مسئولي "موارد بشرية" بحق، يعرفون معنى تنمية هذه الموارد الإنسانية الضخمة والاستفادة منها، لا أن تصبح معوقًا رئيسيًا لكل مبدع، إما عن جهل أو عن عمد، ما يعطّل حركة سير قاطرة العمل والتقدم من أجل الشعور بالقوة والسيطرة الكاذبة كحالات كثيرة شاهدناها ونشاهدها كل يوم.

السير الدكتور "مجدي يعقوب" الفارس كما لقبته ملكة إنجلترا طبيب القلوب الأسطورة بحق، مواليد محافظة الشرقية من أصول صعيدية، تخرج في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1956. عندما سأله الإعلامي طارق حبيب لماذا تركت مصر؟ كان أحد الأسباب التي ذكرها عدم وجود ثقافة العمل الجماعي، والنظر للتمريض بصورة غير لائقة وبما لا يتماشى مع مكانة هذه المهنة الراقية التي لا تقل أهمية وقيمة عن الأطباء، ما يؤثر سلبًا في مهنة الطب كلها في مصر، وأنه آثر العمل في بريطانيا لأنه استطاع أن يكوّن فريق عمل متكاملا ويبدع ويخدم البشرية كما يشاء دون قيود أو معوقات إدارية. وعندما أتيحت له فرصة العودة وخدمة الوطن، عاد وأنشأ مركز مجدي يعقوب الطبي في أسوان على أُسس وقواعد وضعها بنفسه بعيدًا عن أي بيروقراطية حكومية وجعله خدمة مجانية لشعب مصر الذي يعشقه ويفخر بالانتماء إليه.

الأسطورة الكروية "محمد صلاح" ابن محافظة الغربية، الذي لو لم يتم رفضه من رئيس أحد الأندية المحلية آنذاك، بدعوى عدم كفاءته وحداثة سنه، ما كان ليحقق ما حققه من معجزة رياضية بكل المقاييس، ولكنه آمن بنفسه وبموهبته رغم صغر سنه، وسعى وراء تحقيق حلمه بعيدًا عن شروط وبيروقراطية تضع بعض الرياضيين تحت ضغوط تفقدهم الحماسة بل والإبداع، وتحولهم إلى موظفين في أنديتهم يبحثون عن لقمة العيش والمرتب الأكبر، وكثير منهم يعتزل الملاعب سريعًا إن لم يجد من يرعاه.

الدكتور "أحمد زويل" ابن محافظة البحيرة، الحاصل على جائزة نوبل عام 1999عن أبحاثه في مجال كيمياء الفيمتو، تخرج في جامعة الإسكندرية بامتياز مع مرتبة الشرف، وحصل على درجة الماجستير منها، ولكنه سافر بعدها ليكمل الدكتوراه ويعيش في أمريكا، لأنه كما قال في إحدى محاضراته عام 2008 في افتتاح صالون أوبرا الإسكندرية "إنه غادر مصر بسبب المشكلات والمصاعب التي كانت تُعيقه عن الحصول على الدرجات العلمية التي كان يحلم بها، وأنه عانى الأمرين في الولايات المتحدة، ولكنه وجد التقدير لعلمه ونجاحه"، وقال أيضًا "إن مصر أعطته البنية الأساسية والتعليم الجيد والأسرة، فيما منحته أمريكا التقدير والاحترام وإنه يتمنى العودة وخدمة وطنه في أقرب وقت".

الدكتور الجيولوجي "فاروق الباز" ابن محافظة الشرقية، خريج جامعة عين شمس، الذي سطع اسمه في عالم الفضاء والجيولوجيا في وكالة "ناسا"، والذي قال في حواره مع الإعلامي مجدي الجلاد "إنه لم يترك مصر عمدًا، بل أُجبر على ذلك" بعد أن رفض العودة للعمل الحكومي بعد وفاة زميل دراسته كمدًا بسبب البيروقراطية واستدعائه بالشرطة بعد توقيعه استمارة استلام العمل في مصر، وإن مشهد صديقه المكلوم، الذي تُوفي كمدًا بعد هذا الموقف بعامين كان السبب الرئيسي لترك بلده الذي يعشق ترابه. 

المهندس العبقري "هاني عازر" المصري ابن المصري، كما وصف نفسه في حديثه مع الإعلامية نشوى الحوفي، تخرج في قسم الهندسة المدنية بجامعة عين شمس، وسافر إلى ألمانيا لاستكمال دراسته في بوخوم. ترأس العمل في مشاريع كبيرة في ألمانيا، أهمها محطة قطارات برلين، التي كرمته بسببها المستشارة الألمانية السابقة ميركل، وأهدته وسام الجمهورية الألمانية عام 2006. ولأنه عاشق لمصر وترابها ولم ينس يومًا أنه مصري حتى في أدق تفاصيل حياته، تم تعيينه مستشارًا لرئيس الجمهورية للمشروعات الهندسية، وهو دومًا ما يفخر بهذا. ورغم كل هذا العشق، فإنه لا يستطيع الحياة في فوضى القاهرة كما يقول، وأن سفره لألمانيا كان لاستكمال الدراسة في الأصل، ولكنهم هناك رأوا أنه كفء فتم تعيينه في شركة كبرى للتشييد والبناء فور تخرجه.

لن يسعنا المقام هنا لذكر كل الحواديت المصرية المبدعة التي هربت من بيروقراطية تتمثل في موظف أو موظفة آخر معلوماتها عن الموارد البشرية هي بصمة الحضور وعدد ساعات الحضور في مقر العمل، دون الوعي بطبيعة العمل أو معرفة نقاط الإبداع، بل ويستمتعون بقضاء وقت لطيف في مكاتب مكيفة (على نفقة الدولة) مع مشروبات تُضيف لجلسات النميمة بعض الرونق، حتى تنتهي ساعات الوجود في العمل على أكمل وجه.


رابط دائم: