تداعيات انسحاب مجموعة "فاجنر" من إفريقيا
21-4-2022

يوسف مهاب
* باحث فى العلوم السياسية

على مدار عصور، تغيرت مفاهيم الحروب وكيفية خوضها وإدارتها بل أساليب تحقيق الدول مآربها، وفقاً لأدواتها المتاحة من أجل تحقيق أمنها القومي وتعزيز نفوذها في عمقهاالاستراتيجي. وفي هذا السياق، أدرك صناع القرار أن المواجهة العسكرية المباشرة ليست إلا استنزاف للموارد، ويتم استبعاد هذا الخيار الا في الضرورة القصوى. ومن هنا، اتجهت مختلف القوى إلى الانخراط في حروب بالوكالة وتوظيف، مرتزقة، إضافةً إلى ما يتصل بذلك من حروب اقتصادية وغيرها، حيث أضحت تلك الأدوات هي السلاح الأنسب للمنافسة بين القوى العظمى.

نشأة مجموعة فاجنر:

في هذا الاطار، برزت على المسرح الدولي العديد من الشركات الأمنية الخاصة، أهمها مجموعة فاجنر التي يعود تأسيسها إلى دمتري أوتكين، وهو العميد السابق في الاستخبارات العسكرية الروسية، وتفيد تقارير استخباراتية بأن حليف الرئيس الروسي فلادمير بوتين، يفجيني بريجوجين، وهو إحدى الأوليجاركية الروس المقربين إلى الكرملين، هو من يمول عمليات مجموعة فاجنر. في هذا السياق، لا تزال مجموعة فاجنر غامضة نسبياً، تمثل تجمع لشركات  خاصة  متعددة لمتعهدين عسكريين وتتحدث بعض التقارير عن علاقتها بالرئيس الروسي رغم نفي الكرملين تلك الإدعاءت في حين يمكن الجزم بأن مجموعة فاجنر توفر للحكومة الروسية قوة غير رسمية تستطيع إنكارها والتنصل منها عند الحاجة. وفي سياق متصل، بدأت مجموعة فاجنر أولى عملياتها العسكرية في إقليمي دونيتسك ولوجانسك شرقي أوكرانيا عام 2014، ثم تمددت إلى سوريا عام 2015، حيث قاتلت بجانب القوات الحكومية العسكرية، فضلاً عن انخراطها في العمل العسكري في ليبيا ومالي والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى. ولدى مجموعة فاجنر وجود في غينيا وموزمبيق أيضاً. وتتصدر مجموعة فاجنر في إفريقيا بالنيابة عن مصالح روسيا بهدف تعزيز نفوذها واقتناص فرص ثمينة في امتيازات التعدين من مناجم ذهب وماس، فضلاً عن زيادة صادرات السلاح الروسي. ومن ثم تبحث مجموعة فاجنر عن حلفاء جدد بشكل مستمر لتقديم خدماتها في إفريقيا التي تعج بالاضطرابات والمجموعات المتمردة بشكل مباشر، أى عبر وسطاء أو أن تطلب حكومات مساعدتها كما حدث في إفريقيا الوسطى ومالي.

وتجدر الإشارة إلى أن وجود مجموعة فاجنر لا يفسر بمجرد وجود لشركة أمنية قد تكون مرتبطة بالكرملين، بل له تأثيراته المباشرة على دينامكية التنافس الدولي فى النفوذ في إفريقيا، مما ينعكس على جيو-استراتيجية الصراع في مناطق التنافس، لاسيما مالي وارتباطات وجود مجموعة فاجنر فيها، بالقرار الفرنسي بالانسحاب العسكري من البلاد. والجدير بالذكر أيضا التزامن بين وصول مجموعة فاجنر إلى إفريقيا والحصول على شركات مرتبطة بها على تراخيص تعدين الماس والذهب. ومن ناحية أخرى، زعمت بعض التقارير الغربية مجموعة فاجنر التي تجند بشكل أساسي قدامي المحاربين، بارتكاب عمليات قتل خارج القانون وسطو واغتصاب ضد المدنيين. في هذا السياق، يبرز دور مجموعة فاجنر كأداة فعالة في مناطق الصراع فى إفريقيا من أجل تعزيز نفوذ موسكو السياسي والاقتصادي.

وتتمتع روسيا بخلفية واسعة من التدخلات الاستراتيجيات غير المباشرة، وخبرة عملية عميقة في تشجيع بعض الحركات الانفصالية وقوات المرتزقة في حملات غير تقليدية، حيث باتت موسكو تعتمد بشكل كبير على طرق الحرب غير المباشرة، ويتم في هذا الاطار  توظيف الشركات العسكرية الخاصة بشكل متزايد كقوات بالوكالة. واتصالاً بذلك، تأتي رغبة موسكو في مد نفوذها في إفريقيا من أجل كبح جماح نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وفتح أسواق جديدة لصادرات السلاح الروسي، والوصول إلى امتيازات التعدين في مناجم الذهب والماس، وكذلك تقديم خدمات تأمين للمنشأت الحيوية والدفاع عن الحكومات المحلية ضد التنظيمات الإرهابية وتقديم المشورة في عدة مجالات من خلال مستشارين متخصصين يعملون لدى مجموعة فاجنر. واكتسبت فاجنر أهمية خاصة على الساحة الإفريقية تحديدا، خلال السنوات القليلة الماضية، بحسبانها أداة عسكرية توظفها موسكو للمساهمة في وضع موطئ قدم لها في الدول الإفريقية مما يساهم في تعزيز نفوذ روسيا.

في هذا السياق، تعد منطقة الساحل والصحراء من البؤر الساخنة في إفريقيا، حيث تواجه العديد من التحديات، لعل أبرزها غياب مفهوم الدولة الوطنية وعدم فعالية مؤسساتها، فضلاً عن تهديد الإرهاب، والجريمة المنظمة وتغير المناخ والنمو الديموجرافي المطرد في ظل نقص الموارد ويجب حل تلك القضايا كونها تحديات مشتركة لدى دول الساحل ويجب معالجتها من منظور سياسي وعسكري وتنموي. وبخصوص نمو النفوذ الروسي في الساحل الإفريقي، تعتمد موسكو على أذرعها العسكرية والاقتصادية وتوسيع نفوذها، خاصةً مع عدم وجود ذاكرة استعمارية، مما  يساهم في تعزيز العلاقة بين روسيا والدول الإفريقية المختلفة.

تداعيات انسحاب مجموعة فاجنر من إفريقيا:

مع اندلاع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أشارت العديد من التقارير إلى انسحاب المئات من عناصر مجموعة فاجنر من مناطق تمركزهم في إفريقيا إلى أوكرانيا، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى تراجع الدور الروسي، بالتزامن مع إعادة توجيه روسيا لمقاتلي مجموعة فاجنر من إفريقيا إلى أوكرانيا بهدف نشرهم في إقليم دونباس في إطار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وبناءً على مجريات العملية العسكرية، تجري مجموعة فاجنر إعادة تموضع من خلال الانسحاب من دول إفريقية عدة وتشمل أفراد وقطع مدفعية ودفاعات جوية وتساهم القوات الروسية  في عمليات الإجلاء من خلال توفير طائرات شحن عسكرية. ونظراً لجمود الاجتياح الروسي مؤخرا إلى حد كبير، اضطرت روسيا إلى إعطاء الأولوية لنشر عناصر فاجنر في أوكرانيا على حساب عملياتها في إفريقيا وسوريا، حيث يمكن أن تعتمد عليهم، نظراً لخبراتهم المتراكمة في حرب الشوارع وتمرسهم في القتال. ويمكن أن يؤدي انسحاب مجموعة فاجنر من مناطق انتشارها في إفريقيا إلى فراغ أمني وعسكري، وقد يؤدي إلى خلط أوراق كثيرة  فى النزاعات فى الدول الإفريقية.

من هنا، تنحصر تداعيات انسحاب مجموعة فاجنر فى عدة مخرجات قد تنطوي بعضها على انعكاسات سياسية وعسكرية فى مسار الحرب في أوكرانيا، فضلاً عن الدول الإفريقية التي تشهد حضورا لمجموعة فاجنر لعل أهمها:

أولا- عودة العنف في المناطق التي انسحبت منها مجموعة فاجنر:

قد يؤدي انسحاب مجموعة فاجنر من مناطق تمركزها إلى خلط أوراق المعادلة العسكرية القائمة وترجيح كفة المواجهات العسكرية  لمصلحة التنظيمات العسكرية في منطقة الساحل التي تتسم بصراعات عرقية وإثنية ونزعة إنفصالية لدى مجموعات مسلحة، حيث كانت المجموعة هى الضامن للأمن والاستقرار، وكذلك حائط دفاع للحكومات المحلية التي كانت تحميها وتقدم الدعم الأمني لها، إلا أن هذا السيناريو غير مرجح  كون انسحاب مجموعة فاجنر جزئي وليس شامل ومؤقت، حيث تم سحب بعض المعدات العسكرية من أجل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. ومن هنا تتضح أن إمكانية عودة مجموعة فاجنر بكامل قواها لمباشرة أعمالها فيإفريقيا مرهونا بمدى نجاحها في العمليات والأهداف المنوط بها تحقيقها في ظل مخطط زمني ومكاني محدد.

ثانيا- تغير ديناميكية التنافس الدولي على النفوذ في إفريقيا:

في سياق احتدام التنافس الدولي على إيجاد موطئ قدم في إفريقيا من أجل تعزيز الوجود الجيو-استرتيجي وفتح أسواق جديدة، فضلاً عن إقامة قواعد عسكرية، قد يوجه انسحاب مجموعة فاجنر، التي يراها البعض إحدى أذرع الكرملين غير الرسمية، ضربة للنفوذ الروسي المتصاعد كون الانسحاب يفتح مجالا لقوى أخرى للتوغل في المناطق التي انسحبت، منها مجموعة فاجنر. ورغم أن ما سبقت الإشارة إليه مرهونا باعتبارات سياسية واقتصادية وأيضاً بطول أمد الصراع الدائر في أوكرانيا لكن يظل الأمر وارد حتى لو أدى إلى عدم استبدال دور مجموعة فاجنر، بل تقليص أو إنحسار دورها فى المناطق التي انسحبت منها. ومن المعلوم أن الصين والولايات المتحدة هما من يمكنهما ملء غياب دور مجموعة فاجنر، إذ إن الدولتين لهما نفوذ جيوسياسي واقتصادي وعسكري مهم وكبير وتتحكمان بدرجة متفاوتة فى رسم ديناميكية التنافس الدولي في القارة الإفريقية. ولهذا من المؤكد أن انسحاب مجموعة فاجنر له تداعيات ليست البسيطة على النفوذ الروسي في إفريقيا، لكنه لن يؤدى بأي حال من الأحوال إلى تبدد الدور الروسي الذي شهد في الفترة الاخيرة نمواً مطرداً في التجارة الخارجية والاستثمار والعلاقات السياسية والدبلوماسية في إطار مشروع القوى الناعمة الروسية.

ثالثا- العقوبات ومجموعة فاجنر:

أدت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا إلى موجة غير مسبوقة من العقوبات الأمريكية والأوروبية الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، وتجميد حسابات ومصادرة عقارات وأصول للعديد من ما يطلق عليهم الأوليجاركية الروس التي تربطهم علاقة بالكرملين. وفي ظل ضبابية مصادر تمويل مجموعة فاجنر، قد يكون قرار انسحابها من إفريقيا -ولو بشكل مؤقت- نتيجة لتلك الموجة من العقوبات التي أثرت بشكل كبير على تمويل عملياتها في ظل معاناة الاقتصاد الروسي، من جراء الحملة العسكرية، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية الشديدة. ومن هنا، يمكن القول إن انسحاب مجموعة فاجنر قد جاء لصب كافة الجهود العسكرية والمالية على العمليه العسكرية الروسية في أوكرانيا لإنجاحها، ومن ثم إعادة الانتشار في مناطق تمركزها في إفريقيا.

ختاماً، أضحت الشركات الأمنية الخاصة والحروب بالوكالة وتوظيف المرتزقة وغيرها من أدوات حروب الجيل الرابع أحدث أساليب الهيمنة وتعزيز النفوذ بأقل التكاليف والخسائر، ولهذا أصبحت شركات كبلاك ووتر الأمريكية ومجموعة فاجنر وغيرها إحدى الأدوات الفعالة على مسرح الأحداث الدولية وأهمها القارة الإفريقية. ومن هنا. نرى إعادة تموضع لروسيا بمختلف أدواتها ومن ضمنها مجموعة فاجنر التي باتت تعتمد موسكو عليها لتقوم بدور "طرق أبواب" ساحات الصراع لإيجاد موطئ قدم لروسيا عبر بوابة مجموعة فاجنر وكذلك أدوات أخري تعد من الأدوات الناعمة. وعلى خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما أعقبها من انسحاب مجموعة فاجنر من إفريقيا، تعددت السيناريوهات التي قد تترتب عن هذا الانسحاب، إلا أنه من المؤكد أنها لن تمحي الحضور الروسي الجيو-استراتيجي فى إفريقيا بين عشية وضحاها.


رابط دائم: