العدد 186:| "الأسئلـة‏ ‏المعلقــة" ‏حول‏ ‏الموجة‏ ‏الثانية‏ ‏في‏ ‏الشرق‏ ‏الأوسط
13-2-2012

د. محمد عبدالسلام
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، المدير الأكاديمي لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في أبو ظبي، حاليا، رئيس تحرير‮ "‬السياسة الدولية‮" ‬من‮ ‬2011‮ ‬إلي‮ ‬2012‭.

كثيرا ماكان يتم التندر على تصريحات وزير الدفاع الأمريكى الأسبق دونالد رامسفيلد، فقد كان الرجل يتحدث فى أوقات مختلفة وكأنه فيلسوف صينى فى الوقت الذى كان عليه فيه أن يتصرف كجنرال أمريكى، لديه قواعد إشتباك تختلف عما هو مألوف فى الأحوال العادية، فهناك قول متداول في دراسات الأمن ، يشير إلي أن هناك ثلاثة أساليب للقيام بأي عمل ، وهي ' الطريقة الصحيحة والطريقة الخاطئة والطريقة العسكرية '، التي تخضع لمعايير تتجاوز الحسابات التقليدية إلي أوضاع الميدان ، الذي ينطلق عبره الرصاص من عدة اتجاهات ، قد تكون بينها ' نيران صديقة '، ولايتيح وقتا طويلا للتفكير ، ولايقدم سيناريوهات مريحة في كل الأحوال ، إلا إذا كان الأمر يتعلق بغارات جوية ، لا تشتبك خلالها قوات علي الأرض . وتكون النتيجة أحيانا أنه ' لايوجد حل فعال '، لكن هذا لا يعني الخروج من اللعبة أو التوقف عن الحركة ، فالموقف أيضا يتغير في اتجاهات قد تحمل أخبارا جيدة ، كما تحمل أخبارا سيئة .

كانت مشكلة رامسفيلد تتمثل في أنه كان يفكر أكثر مما يمكن أن يحتمل الميدان ، الذي يفرض مواقف معقدة كل يوم ، ويستغرق في ذلك إلي مدي قد تحتمله الأكاديميا ، لكن ليس السياسة التي تتحول إلي حرب ، يفترض أن توجد في إطار التعامل معها خطط وخطط بديلة ، وإن لم توجد خطط ثالثة ، فهناك مجازفات ( محسوبة ) تحتمل النصر كما تحتمل الخسائر ، فقد تتحول إلي بطولات ، كما قد تصبح كوارث . وفي الحالتين ، يوجد منطق ما ، أساسه أنه لايوجد خيار سوي الاستمرار في المباراة . لذا ، لم يكن مقبولا منه مثلا أن يلجأ إلي التاريخ في التعامل مع حالة العراق ، إثر فشل آخر خططه الأمنية ، عندما قال إن ' هذا البلد ' لم يكن مستقرا علي الإطلاق ، و ' لن يستقر الآن '. فهل ينطبق ذلك علي الشرق الأوسط؟

إن أحد أهم التعبيرات الطويلة التي أطلقها رامسفيلد ، والتي اختار أحد مقاطعها كعنوان لمذكراته التي صدرت حديثا ، هي ، بتصرف شديد ، ' إن هناك أشياء نعرفها ونعرف أننا نعرفها ، وهناك أمور لا نعرفها ونعرف أننا لا نعرفها ، وهناك أشياء لا نعرفها ولا نعرف أننا لا نعرفها '. ويبدو أن الرجل ( المدني بالمناسبة ) كان قد غرق في عالم الشرق الأوسط ، لدرجة أنه كان يقوم بتقديم ورقة مالية رمزية ، مطبوعة في البنتاجون ، بقيمة مليار دولار ، لأي من مساعديه أو مستشاريه الذين يقدمون فكرة غير تقليدية ، تبدو ملائمة ، للتعامل مع حالة إقليمية تفاجئ كل من يتعامل معها بكثير من ' المعروفات غير المعروفة ' أو ماهو أسوأ - ولنحتمل ثقل التعبيرات باللغة العربية - ' غير المعروفات غير المعروفة '. فقد كان قد استخدم كل قدرات آلة التفكير الأمريكية في محاولة معرفة الأمور التي يعرف أنه لا يعرفها قبل أن يفاجأ طوال الوقت بما لايعرف أنه لا يعرفه ، ثم يقرر بشكل نهائي أنه لا توجد لديه حلول ، وأن كل ما لديه هو الاستمرار في التعامل اليومي مع التطورات ، إلي أن يتضح اتجاه من نوع ما ، أو يوصي بالقيام بخطوات جذرية لا يوجد لديه يقين حول نتائجها . وفي كل الأحوال ، عليه أن يحصل علي موافقة جهات مختلفة قبل أن يتمكن من القيام بها .

إن ما يبدو حاليا هو أننا جميعا نواجه الموقف نفسه . فإذا تصور أحد من الأكاديميين أن ' نظرية النظم ' مثلا ، التي اعتدنا علي الإشارة في مناهج بحث الرسائل العلمية ، إلي أننا نتبعها ، عندما لا تكون لدينا نظرية حقيقية نفكر وفق مفاهيمها ومقولاتها ، يمكن أن تساعد في فهم المستقبل القريب ، فإنه يكون قد وقع في مشكلة لا يوجد لها حل سوي تعبير ' ربما '. فلا أحد يري في الواقع أبعد من 10 كيلو مترات ، يمكنه أن يقطعها خلال أسبوع واحد ، قبل أن يفاجأ بما لم يكن يعرف أنه لا يعرفه . لذا ، تسود أوضاع أقرب إلي ' الحالات النفسية '، التي يعود معها البعض إلي الرب أو التاريخ أو الطبيعة . فعلي الرغم من حالة اليقين المستقرة لدي أغلبية المواطنين أو المحللين في المنطقة من أن المستقبل سيكون أفضل من الماضي ، فإن أحدا لا يمتلك فكرة محددة حول شكل المستقبل ، أو التوقيت الذي سيحل فيه ، أو الثمن الذي سيتوجب دفعه للوصول إليه ، أو ما يجب عمله للإسهام في تشكيله . فلدينا حالة ' ما بعد حداثة ' نموذجية ، لم يكن أحد يتعامل معها فكريا بجدية ، قبل أن يدرك أنها يمكن أن تقع . ولا يحدث ذلك في الشرق الأوسط فقط ، فالنظام العالمي كله علي وشك أن يشهد تحولات استراتيجية غير مسبوقة .

لكننا أيضا يمكن أن نري أشياء في مدي البصر المتاح . فما نعرفه هو أن موجة زلازل عاتية قد وقعت في المنطقة ، أحدثت تغييرات كبري في الهياكل القائمة ، وأن الإقليم لن يعود إلي ما كان عليه أبدا . يتضمن ذلك الحالات التي فشلت فيها الثورات ، أو طالت بدرجة لا يمكن تقييمها في إطارها بمنطق النصر أو الهزيمة . ويتضمن أيضا الدول التي لم تشهد مثل تلك التحركات العنيفة ، كإسرائيل وتركيا وإيران والخليج ، فهي في حالة قلق ، ولابد أن تقوم بشيء ما كبير ، لإحداث تغيير جاد في دولها أو حولها ، علي الأقل في مجالات السياسة والاقتصاد . وهنا ، تبدأ الأسئلة الصعبة ، التي لاتوجد لها إجابة محددة .

إن ما لا نعرفه ( ونعرف أننا لا نعرفه ) يتعلق بالموجة الثانية التالية لموجة الانفجارات الإقليمية . فمن سيحكم مصر؟ ، وكيف ستنتهي المواجهة في اليمن؟ ، وإلي أين تسير سوريا؟ ، وهل يمكن أن تصبح ليبيا حالة نموذجية؟ ، وهل لن تشهد الجزائر أزمة هيكلية؟ ، وماذا حققت تونس ومالم تحقق ، إثر ثورة حقيقية ، رغم أن الجماهير التي تقود المنطقة حاليا لن تقتنع بأن ثورة قد حدثت ، إلا إذا شاهدها كل فرد بالعين المجردة في دائرة الاهتمام المباشر التي يمكن أن يلمسها بيده؟ ، أما ما لا نعرفه ( ولا نعرف أننا لا نعرفه )، فهو ما يمكن أن يفاجئنا في صباح كل يوم تال ، دون أن نكون قد توقعناه . وهو ما حاولنا في العدد الماضي أن نقترب منه من خلال محاولة تحليل شفرات ' حالة عدم اليقين '، واتباع مفهوم ' التحولات الإقليمية ' في تحليل أدوار الفاعلين الرئيسيين فيه ، وتطبيق مفهوم ' البجعة السوداء ' علي بعض الحالات العربية . لكن ، هل حلت المشكلة فكريا علي الأقل؟ ، الإجابة هي نعم ، لكن مؤقتا ، ولفترة ما .

لقد حاول البعض دائما أن يقدم مداخل نظرية من نوع ما لتحليل ما يجري في الشرق الأوسط ، كما فعل لويس فاوست في كتابه التعليمي المعروف حول ' العلاقات الدولية لإقليم الشرق الأوسط '. فبعد أن طرح كل الإشكاليات التقليدية الخاصة بالنطاق الجغرافي والنظم السياسية والأوضاع الاجتماعية والاقتصاد السياسي ، بدأ بتوجيه تلاميذه أو قرائه إلي أن التاريخ يقدم مدخلا رئيسيا لفهم الإقليم المعاصر ، علي المستويات السياسية والاجتماعية ، وأن العلاقات الخارجية ( الدولية ) للإقليم لا يمكن فهمها ، دون أن يتم إلقاء نظرة قريبة متفحصة علي الفاعلين المحليين الذين يكسبون تلك العلاقات طابعها الخاص ، وأن كل صناع السياسة الغربيين لم ينجحوا أبدا في أن يقوموا بنشر تصورات مقبولة أو فعالة لصياغة الأوضاع السياسية والاقتصادية في الإقليم . ثم - وهو ما أصبح سائدا في التفكير العربي - أنه لا يمكن استنساخ النماذج المستندة علي الخبرات الغربية أو غيرها وتطبيقها علي دول المنطقة ، فالشروط الداخلية حاكمة . وأخيرا ، فإن علي من يحاول فهم الإقليم أن يكون ' إقليميا '، فالحس الإقليمي والمعلومات الإقليمية هي بداية التعامل معه .

إن مثل هذه المداخل قابلة للمناقشة ، ومعظمها يتسم بجدية لدرجة ' الحكمة الذائعة '. لكن أحدا لا يقتنع بتوصيات مكتوبة - مثل تلك التوصيات أو غيرها - دون أن يحاول أن يختبرها أو يختبر قدرته علي تجاوزها ، ولن يتراجع أحد عن قناعاته دون أن يجد أمامه قوة مضادة ، مثلما يحدث في الطبيعة . وتشير الخبرة العملية إلي أن هناك في العالم الذي قرأها ، أو قرأ غيرها ، من حاول أن يسير في الاتجاه المعاكس تماما لها ، وتعلم الدرس ، لكن بعد فترة ، وبثمن ما . وبالتالي ، توجد شرعية لطرح الأسئلة نفسها طوال الوقت ، فهل عاد التاريخ؟ ، وهل لن يتدخل أحد في المنطقة؟ ، وهل تدرك القوي الداخلية حقائق الخارج؟ ، ولماذا يتكرر طرح مسألة النماذج الخارجية؟ ، ولماذا تحاول قوي إقليمية أن تعيد لعبة الأدوار الكبري؟ ، وغيرها من الأسئلة التي لاتوجد لها إجابة بسيطة ، علي الرغم من أن بعض عتاة الأكاديميين يوصون بالبحث أحيانا عن إجابات بسيطة . فالجماهير التي فجرت أو تبنت الموجة الأولي هي التي ستحدد مسار الموجة الثانية ، وبالتالي ما يمكن عمله ، كأحد الحلول المؤكدة . في حالة مصر ، مثلا ، هو أن تتم دعوة الناس بكل الطرق للذهاب إلي صناديق الانتخابات ، لكن من يمكنه أن يعرف ما الذي ستفعله الجماهير؟ ، وهل توجد قواعد أصلا لسياسات الشارع؟

في هذا الإطار ، فإن البحث عن عناصر نظامية ، في ظل حالة ' اللانظام '، لن يتوقف أبدا . وقد حكمت هذه المجلة فكرة من البداية ، بأن هناك دائما مثل تلك العناصر ، خاصة أنها فصلية ، حتي في أقصي حالات الفوضي ضراوة . وتشير أعمال بعض المؤتمرات الدولية الرئيسية ، التي عقدت في الفترة الأخيرة ، إلي وجود محاولات واسعة النطاق من جانب كل مراكز التفكير في العالم لاكتشاف الأنماط القابلة للاستمرار ، والمحركات الجديدة للأحداث ، والخيارات الأكثر واقعية . ويلفت أحد المتخصصين في مجال الانتشار النووي النظر إلي طريقة مثيرة للتفكير بقوله ' إنني يمكنني أن أتحدث عن الأشياء السيئة التي لم تحدث ، وكنا نتوقع حدوثها . فكوريا الشمالية لم تختبر سلاحا نوويا آخر ، وإيران لم تنتج سلاحا نوويا أصلا ، ولم تقع أسلحة باكستان النووية في أيدي الإرهابيين '. وهكذا ، يمكن ألا يقع الكثير مما نتصور ، استنادا علي مؤشرات محددة ، أو مخاوف غير محددة ، في المستقبل .

علي أي حال ، فإنه تم التركيز في هذا العدد من المجلة علي مجموعة من المحاور التي ' نعرفها ، ونعرف أننا نعرفها '، وفي بعض الأحوال ' نعرف أننا لا نعرفها '. وقد تم تأجيل التعامل مع بعض أفكار الفئة الأخيرة إلي أن تتضح الصورة قليلا بشأنها ، بعد أن كانت بعض التكليفات قد أرسلت بشأنها بالفعل ، حتي لا نقوم بتحميل الكتاب أو القراء أكثر مما تحتمل طبيعة مجلة السياسة الدولية ، التي يجب أن تقدم مؤشرات متماسكة علي الأحكام العلمية التي تتضمنها موضوعاتها ، علي الرغم من الإغراء الشديد الذي تقاومه ' هيئة التحرير ' في كل مرة ، بالقفز إلي المستقبل ، في اتجاهات توجد بشأنها مقدمات كافية ، لكنها لم تتبلور بدرجة تتيح الحديث عن اتجاه أو تحول يحمل معني استراتيجيا ، في نطاقه أومداه أو تأثيره . أهم هذه المحاور ما يلي :

1- إن هناك عملية إعادة تفكير أو إعادة قراءة في كل شيء يتعلق بالعلاقات الدولية في الوقت الحالي ، سواء كان الأمر يتعلق بالفاعلين الرئيسيين ، أو المؤثرين ، أو أنماط التفاعلات الحاكمة للعلاقات بينهم ، أو التغيرات التي تجري في البيئة المحيطة بهم ، أو قواعد اللعبة الدولية العامة التي تتغير بأسرع من قدرة صناع القرار في الدول علي ملاحقتها . وتتمثل المشكلة هنا في أن التفكير الاستراتيجي العربي في ' الشئون الدولية '، أو ما هو أخطر ' الشئون الإقليمية '، أقل ثقلا بكثير مما هو مطلوب ، في ظل حالة التركيز الرهيبة والمنطقية علي الشئون الداخلية ، إلي درجة تربك الدول في التعامل مع ' القادمين من الخارج '، والذين تسيطر علي التقديرات المتعلقة بهم سياسات الشارع ، وتوجهات النخب الجديدة أحيانا .

2- إن عمليات تغيير النظم السياسية Regime Change في المنطقة قد تمددت بسرعة في اتجاهات تتعلق ببناء الدول Nation Building، في ظل مخاوف تتعلق بإمكانية تعرض هياكل الدول ذاتها للتفكك بأشكال مختلفة . وبينما تواجه كل دولة تعرضت لثورة ، أو تأثرت بها ، متاعب التوصل إلي معادلة خاصة بها ، تبدو البيئة الاستراتيجية في الإقليم ، وكأنها تتعرض لأعاصير حقيقية ، تعيد تشكيل ملامح رئيسية تقليدية بها ، كالدول المركزية الموحدة ، أو العلاقات البينية متعددة الأطراف ، أو أشكال الصراعات التقليدية في الإقليم . كما تطرح قضايا قديمة كتأثيرات ' عامل النفط ' لإعادة التفكير ، وتثير إشكاليات خاصة بالتمويل السياسي العابر للحدود ، مما أحدث تصدعات إقليمية واسعة النطاق ، ناهينا عن عدم القدرة - حتي الآن - علي وضع أيدينا بدقة علي مايتعلق بإشكاليات الاقتصاد السياسي لمراحل ما بعد الثورات العربية .

3- إن هناك موجة عاتية من الاهتزازات العنيفة التي يصفها أحد أقسام المجلة بحركة طبقات الأرض المترافقة مع الزلازل ، قادمة من العالم الواسع حول الإقليم ، من كل الاتجاهات ، فيما يشبه أزمة عامة تتجاوز كل الأزمات التي عرفها العالم خلال العقود الماضية . فهي ليست مالية أو اقتصادية فقط ، وإنما سياسية واجتماعية ، وربما ثقافية أيضا ، تطرح من خلالها احتمالات تشكل النظم والأسواق والمجتمعات ، وعلاقات القوة ، علي أسس تتعلق بمفاهيم ومقولات مختلفة ، أو معدلة تماما ، عما درسناه أو ألفناه ، وتطرح علي كل دولة تحديات كبري تتعلق بإعادة التفكير في أوضاعها الداخلية أو علاقاتها الخارجية في عالم مختلف . وقد التقطت موجة التحليلات ، التي نشرت خلال الفترة الماضية في الدوريات والكتب والمؤتمرات العالمية ، الخيوط بسرعة ، لتطرح أفكارا مثيرة ، تفصلنا عنها مسافات طويلة .

4- إن تأثيرات الهوية مرشحة للتصاعد بأكثر مما يمكن تصوره . فمنذ فترة طويلة للغاية ، بدأت الأفكار المتعلقة بصراع الحضارات أو الحساسيات الدينية أو المذهبية أو الطائفية في الانتشار ، وكانت لها تعبيرات عملية في كل الأقاليم . لكن ما هو قادم قد يكون أكثر تعقيدا ، خاصة - وفق مجال عمل المجلة - في نطاق العلاقات الدولية والسياسة الخارجية وتفاعلات العولمة . فبفعل التحولات المتصلة بصعود قوة أو إقرار شرعية التيارات الدينية ، في ظل الثورات العربية ، بدأت الثنائيات المتصلة بالهوية مقابل المصالح والأيديولوجية مقابل البرجماتية ، علي سبيل المثال ، في الظهور ، وظهرت أسئلة عما ستفعلة التيارات الدينية في العلاقات الخارجية ، وعما ستفعله المحددات الخارجية بتوجهات التيارات الدينية ، وطبيعة المعادلة التي ستستقر في النهاية ، والثمن الذي قد يتم دفعه قبل الوصول لنقطة توازن . لذا ، كانت الهوية ، بكل المفاهيم والمقولات النظرية ، وبعض التطبيقات العملية لها ، محور اهتمام هذه المرة .

5- إن التهديدات غير التقليدية للأمن في المنطقة العربية ، وحولها الشرق الأوسط ، والعالم أيضا ، قد تحولت إلي مجال واسع للتفكير والممارسة ، وأصبحت بشكل نهائي واحدة من حقائق الشئون الدولية . يتضمن ذلك الكوارث الطبيعية ، والأمراض الوبائية ، والتحركات البشرية المعتادة وغير الشرعية ، والأزمات الاقتصادية ، والإجرام المنظم المتعلق بتجارة السلاح والمخدرات والبشر ، والعنف المجتمعي ، والجرائم الجديدة المتعلقة بعالم ' السايبر '. فلم يعد العالم يواجه تلك التهديدات النظامية الواضحة التي تأتي من جانب دول ، ويمكن تحديد الموازين والأنماط والتكتيكات المتعلقة بها ، وإنما نوعية خاصة من التهديدات الأمنية ، أو ذات التأثيرات الأمنية ، التي لا تقل تأثيراتها عن تأثيرات الحروب النظامية ، أو أعمال التمرد المسلح ، أو التسلح النووي أو موجات الإرهاب . وكان التحدي الخاص بنا في التعامل تحليليا ، في هذا المجال ، هو أن يتم التمكن من الوصول إلي كتابات من النوعية العابرة لمجالات تخصص متعددة .

يبقي أن نظرة سريعة لعناوين التقارير الأكاديمية ، التي يتضمنها القسم الخاص بها في المجلة ، يمكن أن توضح بالضبط ما الذي يجري علي الساحة الدولية في أقاليم العالم المختلفة ، بما في ذلك مناطقه النائية ، من حيث نوعية الأحداث التي تقع ، وطبيعة التوجهات التي يمكن أن تفرزها ، ونوعية التأثيرات التي يمكن أن تطرحها بأبعادها المختلفة التي تستند علي محاولة الإجابة ، وفق مؤشرات محددة ، علي الأسئلة الخاصة بماذا ، ومن ، وأين ، وكيف ، ولماذا ، علما بأننا بدأنا نواجه مشكلة حقيقية في اختيار موضوعات متعددة التأثيرات من بين فيضان الأحداث التي تجري في العالم . وإن كانت المشكلة قد حلت نسبيا من خلال الموقع الإليكتروني للسياسة الدولية ، الذي يحاول أن يقدم تحليلات سريعة عميقة للأحداث التي تقع ، والأفكار التي تظهر ، يوما بيوم ، والتي تطرح أسئلة تحتاج إلي إجابة ، ويصعب أن تنتظر إلي نهاية الفصل لإعداد تقارير متكاملة الأبعاد حولها .

في النهاية ، فإن ما تمت محاولته في هذا العدد هو مجرد الاحتفاظ بالرءوس الباردة لاكتشاف بعض ' المعروفات '، قبل أن يحولنا الشرق الأوسط جميعا إلي فلاسفة . فتبعا لبعض أقوال رامسفيلد الأقل غموضا ، مرة أخري ، وبتصرف أيضا ، فإن ' الأمور لا تجري بالضرورة ، أو باستمرار ، علي النحو المطلوب ، لكن ذلك يجب ألا يجعلنا نتوقف . فهناك أمور نراها ، وهناك أشياء لا تري ، لكن الحياة مستمرة '. والفكرة هنا هي أن الوضع الراهن في الشرق الأوسط غير تقليدي ، لكننا أيضا يجب أن نفهم ذلك ، وألا ننتظر إجابات كاملة أو نهائية . فلا أحد يعرف ، بمن في ذلك من يمتلكون الصلاحية والقوة لاتخاذ قرارات تتعلق بالمستقبل ، فكلنا تجريبيون .


رابط دائم: